تتشابه مباريات السياسة مع مباريات الكرة في أوجه عديدة من بينها ما يعرف بالهجمة المرتدة التي يشنها خصم على الفريق الآخر لتعويض هدف دخل مرماه، ونحن نشهد في مصر الآن هجمة مرتدة للإدارة الحاكمة في مصر، بعد أن بدا أن القوى الشعبية قد سجلت هدفا في مرمى النظام للمرة الأولي منذ نحو 10 سنوات، هدف تمثل في حقيقة أنها كسرت لأول مرة حاجز الرعب والخوف وعبرت عن ذلك بالإعلان عن غضبها الهائل لما وصلت إليه من سقوط  جارح للكرامة في قاع الفقر من خلال أحاديثهم اليومية في الشوارع ووسائل المواصلات ومواقع التواصل الاجتماعي.

غضب شجع المعارضة السياسية والنخبة المصرية على الوصول إلى استنتاج صريح وهو أن النظام السياسي المصري القائم منذ 3 يوليو/ تموز 2013 لم يعد يتمتع بشكل مقنع بالشرعية السياسية ولا بالرضا العام، وأنه أخفق إخفاقا تاما في معالجة مشكلات البلاد وزادها حدة وخطورة ووضعها على شفا الانهيار الاقتصادي. والأخطر من ذلك أنه اتضح – بما لا يجعل مجالا للشك أنه ليس لديه أي خيال يمنحه خطة للخروج من هذه الأزمة.

وشجعها ذلك الاستنتاج على محاولة تجاوز محرمات النقد بما في ذلك البدء في نقد الرئيس، وعلى طرح برنامج يدعو إلى تغيير بنية النظام السياسي كله وليس مجرد تغيير شكلي لحكومة التكنوقراط التي تعمل «سكرتارية للرئيس» حسب التعبير الشهير الذي قاله لي على الهواء مباشرة عام 2002 نائب رئيس الوزراء في عهد مبارك وأمين الحزب الحاكم آنذاك د. يوسف والي.

وطرحت دعوات بأن على الرئيس أن يجعل ما تبقى من وقت على استحقاق الانتخابات الرئاسية فترة انتقالية إلى نظام ديمقراطي ينهي نظام الاستبداد والحكم الفردي المطلق. وتحدث البعض عن الانتخابات الرئاسية المقبلة ستكون هزلا أو سيركا إذا لم يسبقها انفتاح سياسي كامل ورفع القيود عن الإعلام الحر والمستقل وإنهاء سيطرة دولة الفرد على كل سلطات الدولة الثلاث وضرورة إعادة دستور 2014 إلى ما كان عليه وإلغاء كل التعديلات التي أفرغته من مضمونه بما في ذلك تلك الخاصة بمدد الرئاسة. وضرورة إلغاء تعديلات السلطة القضائية التي تمت عام 2019 والتي اعتبرتها وقتها كل نوادي القضاة مجتمعة انتهاكا لاستقلال القضاء والتوازن بين السلطات.

ولهذا وحتى يكتمل التغيير في بنية تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية تمت الدعوة الصريحة من أكثر من طرف معارض وحقوقي – دون خوف هذه المرة من المزايدات المحفوظة والمعتادة عن تهديد السيادة الوطنية التي لم يسمعها أحد عند القبول بشروط صندوق النقد الدولي – بضرورة- أن تتم الانتخابات الرئاسية تحت إشراف الأمم المتحدة لتضمن عملية انتخابية نزيهة ومتكافئة بين مرشح الدولة ومرشح المعارضة.

السقف ارتفع إلى حد مطالبة الرئيس ضمنيا أن يدخل التاريخ المصري إيجابيا وليس سلبيا – وربما سيغفر وقتها لنظامه السياسي ما تأخر وتقدم مما سببه من انهيار اقتصادي وعصف بالحريات العامة والقوة الناعمة لمصر واختفاء للدور الإقليمي- إذا ما تنازل طواعية عن الترشح للانتخابات القادمة والاكتفاء بسنوات الحكم العشر والسماح بتحول ديمقراطي سلمي يمنع انفجارات أو هبات شعبية غاضبة غير مسيسة يستفيد منها الإرهاب أو تستفيد منه جماعة الإخوان في العودة للتمكين السياسي والسيطرة على الشارع المصري.

هذا كان الهدف الذي سجلته القوى الشعبية وتعبيراتها من المعارضة السياسية ومن نخبة الرأي والكتابة المهمومة بفقراء شعبها وتقدم بلدها.

بدا لأول مرة في المباراة أن هناك قدرا من التوازن يعود وأن الجماهير تستعيد قدرا من زمام المبادرة وأن فريقها من اللاعبين ليس بالضعف الشديد أو انعدام المهارات في تسجيل الأهداف كما كان معتقدا من قبل.

فماذا كان رد فعل فريق الإدارة السياسية الحاكمة لمصر؟؟

قياسا على القاعدة الذهبية لفكرة السلطة التي تقول باختصار أن الهدف الأساسي لكل نظام حكم هو الحفاظ على بقائه وضمان استمراريته والحيلولة بكل الطرق لعدم سقوطه وبالتالي سقوط القوى والطبقات الاجتماعية التي يعبر تعبيرا دقيقا عن مصالحها، فإن الإدارة الحاكمة لم تسر كثيرا وعلى الأصح أنها لم تسر أبدا بسقوط حاجز الخوف عند المصريين الذي تم تشييده بارتفاع غير مسبوق منذ الحكم الخديوي لمصر، وانزعجت أكثر من ارتفاع سقف مطالب المعارضة والمجتمع في الآونة الاخيرة التي وصلت إلي أن النظام ككل لا يعبر عنهم ولا يتمتع برضاهم ولا يحقق مصالحهم، وأن تغييرا سلميا وطوعا بتفاعل بين الدولة والشعب والمعارضة بات ضرورة لفتح كوة نور في حائط مسدود يصطدم به روح ووجه مصر الآن.

هنا بدأت الهجمة المرتدة التي قررت الإدارة الحاكمة ومؤسساتها العميقة -المعروفة تاريخيا بحذقها ومهارتها وتراكم خبراتها في إفساد خطط المعارضين – في شن هجوم مضاد والسعي لاستعادة زمام المبادرة واحتكار الفوز بالمباراة كما فعلت طيلة العقد الأخير بغلة أهداف تجعل المعارضة محبطة ويائسة من محاولة تكرار المنافسة.

ويبدو أن الاستنتاج الرئيسي الذي بني عليه الهجوم المضاد للحكم هو العودة للفلسفة التي عمل بها النظام خلال السنوات العشر الأخيرة ألا وهي أن هذا المجتمع «نمرود» مثله في ذلك مثل كل المجتمعات الانسانية وأنك إذا فتحت له ذراعا تمدد فدانا وإذا قبلت بهامش للحرية طلب الحرية كلها.

هذه الفلسفة التي فسرت-  بالمخالفة لوقائع التاريخ الثابتة – فيما يسمى بـ “متلازمة” 28 يناير/ كانون الثاني 2011 – أن ثورة 25 يناير/ كانون الثاني المجيدة حدثت ليس بسبب التجاوزات الأمنية والمظالم الاجتماعية والفقر والفساد ولكن بسبب مساحة الحرية النسبية التي منحها نظام مبارك بعد 2005 فاستغلتها القوى النقابية المستقلة والسياسية المعارضة في عمل أكبر حراك سياسي عرفته مصر في ربع قرن كان قد مضى على حكم مبارك البليد الواقف في المكان حتى وصلت إلى لحظة الانفجار الشامل في 25 يناير/ كانون الثاني.

هذه الهجمة المرتدة يمكن تفكيك عناصرها وأساليبها إلى العناصر والأساليب التالية:

عناصر وأساليب القوة الخشنة

بناء على الاستنتاج الرئيسي بالعودة للفلسفة والنهج الذي تم السير عليه في إغلاق المجال العام وإماتة السياسة والسيطرة المطلقة على الإعلام ربما كان أول قرار فني أتخذ لتنفيذ الهجوم المضاد هو إغلاق الانفراجة النسبية أو تضييقها إلى “خرم إبرة”، وهي الانفراجة التي كان قد  سمح النظام السياسي بها بعد تفجر الأزمة الاقتصادية وحاجته للخارج في ضخ مساعدات وقروض لحلها أو تحجيمها وما استلزمه ذلك من ضرورة تخفيف قبضته الصارمة بهدف تحسين صورته الحقوقية والديمقراطية التي نالها الكثير من سهام النقد سواء من الإعلام الدولي أو من تقارير حقوق الإنسان الأممية والأوروبية.

فكانت دعوته في مثل هذا الوقت لحوار وطني وبدء عملية إفراج متقطعة ولكن مهمة عن مئات من سجناء الرأي والتسامح النسبي مع مواقع مستقلة في نشر مستويات نقد مرتفعة نسبيا لأداء النظام.

باختصار تعود الدولة بقوة إلى إغلاق هذه الفرجة البسيطة في شباك حرية التعبير حتى لا ينفتح الشباك وبعدها الباب على كل المطالبات الاجتماعية والسياسية والحقوقية.

عادت الدولة هنا إلى الأسلوب الخشن المعروف الذي يتيحه لها ما يعرف باحتكار الدولة مؤسسات وأدوات القوة والذي توسعت فيه كثيرا في العقد الأخير مستفيدة بواحد من أكثر قوانين الحبس الاحتياطي تعارضا مع مواثيق حقوق الإنسان، ألا وهو أسلوب القبض وحبس المعارضين الفوري عندما يبدون آراء صريحة معارضة للنظام حتى على وسائل التواصل الاجتماعي في صفحاتهم الشخصية حدث ذلك عندما كتب الطبيب هاني سليمان على صفحته الشخصية على فيس بوك تحفظات على تصور حدوث انتخابات رئاسية ديمقراطية العام المقبل  في ظل الخلل الفادح لصالح الرئيس والسلطة التنفيذية.

الأسلوب الثاني الذي عادت إليه الدولة في الهجوم المضاد في الفترة القصيرة الأخيرة والذي كانت استعملته بإفراط في العقد الأخير وهو ما يسمى بأسلوب «التدوير» في القضايا، إذ أن الأجهزة عندما تستنفد كل سنوات ومدد الحبس الاحتياطي في القانون المجافي للدستور وحتى للاستراتيجية الوطنية للدولة لحقوق الإنسان، ولا يبقى هناك خيار سوى الإفراج عن المقبوض عليها كانت تسارع بإدخاله في قضية جديدة وتحقيق جديد يأمر بحبسه على ذمة القضية الجديدة فيظل مسجونا وراء القضبان.

هنا يمكن أن نتحدث عن عشرات وربما مئات الأمثلة منها محمد عادل أحد رموز حركة 6 أبريل/ نيسان، والصحفية نرمين حسين.

أسلوب التدوير الذي كان قد تراجع مع الانفراجة المحدودة عاد من جديد بقوة وبقسوة اعتبرها مسؤول في الحركة المدنية المعارضة في حديث مع كاتب هذه السطور أنها رسالة تحذير سياسية موجهة لهم لإصرارهم على عدم الدخول في الحوار الوطني قبل الافراج عن مزيد من رموز المعارضة المسجونة، فجري في هذا السياق استدعاء محارب الفساد الشهير المهندس يحيى حسين عبد الهادي المفرج عنه مؤخرا بقرار جمهوري إلى التحقيق في قضية جديدة. قبلها أعادت السلطات الأمنية القبض على الناشط شريف الروبي الذي كان قد أفرج عنه قبل وقت قصير ضمن افراجات لجنة العفو.

الفكرة هنا أن تحبس وتعيد الحبس حتى يخاف الجميع. أو على الأصح حتى يعود الناس للخوف من جديد ويرتفع حاجز الرعب من الكلام مرة أخرى.

التمويه والاحتواء والوسائل الناعمة

لا أنتمي عموما للنخب الذين يريحون أنفسهم ويتوقفون عن مناقشة وتحليل تعقيدات وتفاصيل مشهد السلطة في أي وقت وبالتالي للذين يتحدثون في هذه المرحلة من تاريخ مصر عن وجود سذاجة أو قلة خبرة ويستهينون بقدرات إدارة الحكم الحالي على الأقل فيما يتعلق بتصميمها على الاستفادة من كل موارد الدولة وخبرات مؤسساتها العميقة المتوارثة والمكتسبة في الحفاظ على النظام القائم. ولهذا لا أميل إلى الرأي الذي يعتقد أن الهجمة المرتدة الراهنة للإدارة المصرية تقتصر على الوسائل الخشنة وإن كانت هي الأكثر وضوحا. الحقيقة أنها استعملت أسلوبين ناعمين مع أساليب الحبس والتدوير هما أسلوبا التمويه والاحتواء.

التمويه

أسلوب متعارف عليه من أيام الملكية وملاعبة حزب الوفد حزب الوطنية المصرية -آنذاك- بأحزاب القصر والاحتلال الصغيرة، وفيها تلوح السلطة للمفاوضين من المعارضة حين يتمسكون بشرط من الشروط أن السلطة التي قبلتهم كممثلين للمعارضة يمكنها بسهولة أن تأتي بغيرهم من المعارضين أو أشباه المعارضين، فعلها السادات مع الوفد والتجمع وفعلها مبارك مع الوفد والعمل والناصري.. الخ.

ولكن كما يقول العظيم يحيي الطاهر عبد الله في «الطوق والأسورة» من أن «الحيل القديمة تنجح دائما» فإن المعارضة في الحركة المدنية تأثرت من الإيحاء باحتمال قطع الحوار معهم أو من دعوة تمت لبعض المثقفين وشباب ثورة يناير من قبل ممثلي الدولة في الحوار الوطني والهدف فيما يبدو التمويه بأن هناك قوائم احتياطية جاهزة لدخول الحوار الوطني وتحل محل الحركة المدنية إذا لم تحسم الأخيرة قرارها «المعلق»   من مسألة المشاركة أو عدم المشاركة في الجلسة الرسمية الأولى للحوار الوطني التي حدد مجلس الأمناء موعدها  في 3 مايو/ أيار القادم .

هذا التمويه نجح من قبل في عمل فجوة بين القيادة السياسية للحركة المدنية وبين ممثليها في المعارضة لدرجة أن بعض هؤلاء الممثلين قال صراحة إنه يعتبر نفسه مستقلا وليس ملزما بمواقف الحركة وتوجيه إطارها السياسي الذي يدير حوارا موازيا مع إطار الدولة السياسي.

الاحتواء

يد للإدارة تحمل الترهيب في الحبس وإعادة الحبس والتدوير وإعادة التدوير ويد أخرى تحمل الترغيب وتواصل السعي ولكن بخطوات أسرع لاحتواء شخصيات عامة من الأجيال الشابة والوسيطة وجيل السبعينات الأكبر الذي يقف وراءه تاريخ كبير في الحركة الطلابية والوطنية. هناك جهود لاحتواء نجاحات نقابية وشعبية بتعامل ذكي مع القادمين الجدد لإبقائهم في حدود بعيدة عن تصدير تجربتهم لآخرين. وهناك جهود لفتح مساحات حركة محدودة في الإعلام أو العمل الأهلي ورموز أخرى تكفل تحجيم قدرتها الكبيرة في التأثير على الرأي العام في مسارات قد تتسبب بخلخلة الوضع القائم.

السؤال حول مستقبل المرحلة المقبلة. لا يحدده قيام النظام السياسي بما يتعين عليه القيام به مثل أي نظام وهو العمل بكل الطرق لضمان استمراريته واستمرارية قيادته في حكم البلاد، ولكن قد يحدده كيفية تفاعل المعارضة مع أساليبه الخشنة منها والناعمة هل سيكون مقاومة وثباتا.. أم سيكون مجاراة وخضوعا؟