لا يمكن بحال من الأحوال تصور وجود مجتمع ودولة دونما أن يكون بداخله سلطة قضائية، فلا يمكن تصور الأمر حتى ولو من الناحية النظرية البحتة، إذ أن وجود المجتمع بات مرتبطاً بوجود سلطة قضائية تقضي في الخلافات التي تنشأ داخل المجتمع، وتكون لها الكلمة العليا في فض المنازعات بين المواطنين على نحو يكفل تحقيق العدل والسعي لاقتضاء الحقوق بين المتخاصمين، بديلا عن الحلول الفردية التي لن تجلب للمجتمعات سوى المزيد من المنازعات والخلافات والثأر الفردي وغلبة القوة. كما يعد التمكين القانوني أحد أهم السبل لمقاومة تسلط الحكومات، أو عدم حيادها، أو توجه سياساتها على نحو لا يتفق ومصالح القطاعات الأعرض والأكثر أغلبية من السكان أو المواطنين، وذلك من خلال استخدامها لوسيلة القمع الأمني أو توجيه السياسات والقوانين نحو حماية مصالح طبقة معينة أو فئة محددة من الفئات والتي غالبا ما تكون هي الفئات الرأسمالية أو رجال الأعمال وأصحاب النفوذ المالي.

لكل هذا فإن وجود سلطة قضائية يترتب عليه أنه يجب أن تكون هذه السلطة مستقلة، وغير تابعة لأية سلطة مغايرة لها، وإلا باتت العدالة على محك الانهيار والسقوط في فخ الدونية لما تمليه عليها السلطة الأعلى، وهو الأمر الذي لا يمكن معه أن تتحقق العدالة، ويمكن القول بأن استقلال القضاء ونزاهته لن يتغيرا عن كونهما مجرد “وهم” في ظل غياب الضمانات السياسية والقانونية اللازمة لإعمالهما، من هنا لا يتوقع أن يُنجز معنى معتبر لسيادة القانون أو استقلال السلطة القضائية في ظل هيمنة السلطة التنفيذية، واستحواذها على مقدرات السلطتين الأخريَيتن، القضاء والتشريع.

فهل تتمتع السلطة القضائية بالاستقلال عن بقية السلطات، دون الإخلال بقيمة القضاء في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، الأمر يبدو جدياً على المحك، إذ بنطرة سطحية مبسطة للقوانين الحاكمة لمدى استقلال السلطة القضائية، سوف تلاحظ أن الأمر لا يعدو محض خيال، فكيف يكون هناك استقلال لهذه السلطة، وهي لا تملك تعيين رئيس أعلى سلطة قضائية في مصر ( المحكمة الدستورية العليا – محكمة النقض – المحكمة الإدارية العليا )، إذ بمتابعة ما صدر من قوانين أو قرارات بقوانين، خصوصا فيما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ستجد تدخلات صريحة من السلطة التنفيذية في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، حتى ولو كان من بين ترشيحات من داخل تلك الهيئات، لكن تبقى الكلمة الأخيرة في يد السلطة التنفيذية، وهذا الأمر  يمثل إهدارًا لضمانة التمثيل الديمقراطي؛ وذلك لكونه يتحكم في كيفية تعيين القضاة، وفي حركة تنقلاتهم من مكان إلى آخر، ويجعل الأمر كله بيد السلطة التنفيذية؛ فإذا شاءت قررت ذلك أو منعته، فضلًا عن أنها تحتفظ بقدرتها على التعيين والنقل والندب من مكان إلى آخر، وهو ما يضمن تبعية الجهاز القضائي لمشيئة السلطة التنفيذية، كما أن ذلك يبعد عن سيادة القانون، كما أنه ينأى عن معايير الحماية الدولية والحقوقية لاستقلالية السلطة القضائية وديمقراطية تشكيلها. تجاهلت تلك التشريعات حقيقة أن الشرعية القضائية تعتمد في المقام الأول على كون القضاة مستقلين ومحايدين، سواء في اختيارهم أو في ممارستهم مهمات أعمالهم.

هذا بخلاف أمور عديدة تتضمنها النظم القانونية المصرية، مثل الندب من الجهة القضائية إلى جهات تنفيذية، وأمور أخرى تتدخل في تعيين أعضاء الهيئات القضائية من أساسها، وهو الأمر الذي يضع مبدأ استقلال السلطة القضائية، بما يضمن علوها عن السلطة التنفيذية، في منطقة قد تكون ذات بعد أقل من المفترض أن يكون عليه الوضع الطبيعي، فكيف يمكننا تصور أن تقوم السلطة القضائية برقابة أعمال السلطة التنفيذية، والأخيرة هي المتحكمة في بعض شؤونها، ولن أبالغ وأقول الشؤون العظمى ذات الصلة بالاستقلالية والدوام.

وعلى الرغم من كون الدستور المصري الأخير لسنة 2014 ، قد جاء محافظاً ومقيماً للسلطة القضائية واستقلاليتها، وعدم جواز التدخل في  شؤونها ، إلا أن تلك التشريعات وغيرها التي صدرت خلال تلك الفترة التاريخية منذ عام 2013 ، قد استباحت استقلالية السلطة القضائية، وتحكمت إلى مدى واسع في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، إضافة إلى تحكميتها السابقة في أمور ندب ونقل، وغالبية الأمور المالية والإدارية للقضاة، وهذا كله ما يجعل من استقلالية السلطة القضائية سواء في تكوينها أو استقلالية أعضائها في قبضة السلطة القضائية، مما ينأى بها عن أي تمثيل ديمقراطي للحركة القضائية.

وهذا الأمر يبعد عن سيادة القانون، كما أنه بعيد كذلك عن جميع مستويات الحماية الدولية والحقوقية لاستقلالية السلطة القضائية وديمقراطية تشكيلاتها، وذلك لكون الشرعية القضائية تعتمد على كون القضاة مستقلين ومحايدين سواء في اختيارهم أو ممارستهم لمهام أعمالهم، كما وأن مسار تلك التشريعات من أساسه قد غاب عنه السياق أو الأسلوب الديمقراطي، وخصوصا تلك الصادرة في صورة قرارات بقوانين، لكونها قد غابت عنها طباع الضرورة والاستعجال الملجئة لإصدارها، ومن ثم فإن السلطة التنفيذية قد تعسفت حال استخدامها لتلك المكنة الدستورية، كما أن هذه القوانين لم تحظ برعاية برلمانية حال عرضها على المجلس التشريعي صاحب الاختصاص الأصيل، سيما وكون معظم تشكيل مجلس النواب المصري، سواء كان الحالي أو المنقضي يخضع لهيمنة السلطة التنفيذية وتبعيتها منذ لحظة الشروع في الانتخابات.

وإذ أنه لا يمكن بحال من الأحوال تخيل كيف أن تحيا أمة من الأمم في ظل قضاء لا يتسم بالاستقلالية، ولا يمكن أن تنعم دولة بالحياة الديمقراطية دونما قضاء مستقل قادر على حماية حقوق وحريات المواطنين، حتى ولو من عسف السلطات الحاكمة ذاتها، إذ أن استقلال القضاء ونزاهته لن يتغيرا عن كونه مجرد “وهم” في غياب الضمانات السياسية والقانونية اللازمة لإعمالهما، وتشمل الضمانات السياسية الأساسية عمومًا نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا ملتزمًا بسيادة القانون. والضمانات القانونية التنفيذية هي تلك الأحكام (المنصوص عليها في الدساتير أو النظم الأساسية أو غيرها من القواعد القانونية) التي تكفل تحديد مركز القضاة والمحاكم في هيكل السلطة العامة بطريقة تمنع فرض تأثير على الأنشطة القضائية.

وأرى أن الأمر لا بد من مواجهته بشكل قاطع وحقيقي يتضمن البدء بمراجعة جميع النصوص المتعلقة بالسلطات القضائية المصرية، وإعادة النظر في النصوص المتعلقة بعلاقتها بالسلطة التنفيذية، على أن تكون اليد العليا والغلبة للسلطة القضائية حرصا من الدولة ذاتها على سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون.