إذا نظرنا إلى “المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية” التي أعلنها الكرملين يوم الجمعة 31 مارس 2023، سندرك أن موسكو تعود مجددا إلى “مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي”، مع استبدال بعض “المصطلحات”. فبدلا من الدول الاشتراكية والشيوعية ودول عدم الانحياز، تمت الإشارة إلى “الأرثوذكسية السلافية الروسية” وإلى “منظمة التعاون الإسلامي”، و”المسلمين، وإفريقيا، وشمال إفريقيا”. أي أننا بصدد العودة إلى الوراء ووضع حدود وفواصل قائمة ليس على الأيديولوجية، بل على التقسيمات القومية والدينية التي تركز عليها موسكو. وإذا كان الكرملين يرى أن ما طرحه هو “مفهوم جديد”، فماذا كانت تفعل السياسة الخارجية الروسية طوال السنوات الثلاثين الأخيرة عموما، وخلال السنوات العشرين الأخيرة على وجه الخصوص؟!

لقد ترافق إطلاق هذا المفهوم مع تصريح مفصلي بخصوص مبادرات السلام بين روسيا وأوكرانيا، وإجراء روسي بشأن نشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضي بيلاروس. فتصريح الكرملين أكد على أن “روسيا ترى حاليا أن عملياتها العسكرية في أوكرانيا هي السبيل الوحيد لتحقيق أهدافها”، مع رفض المبادرة الصينية، ورفض مبادرة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بوقف إطلاق النار، ورد الكرملين القاسي عليه بهذا الصدد. أما إعلان نشر الأسلحة النووية على أراضي بيلاروس، فهو إعلان مراوغ ودعائي، ولم يهتم به الغرب بقدر ما اهتمت به وسائل الإعلام، لأنه ببساطة إعلان لا يتعارض لا مع الاتفاقيات الدولية، ولا مع معاهدة “منع انتشار الأسلحة النووية”. لأننا نعلم، كما يعلم الغرب وروسيا، بأن الأخيرة تحرك أسلحتها على أراضي دولة “الاتحاد الروسية البيلاروسية” وهذا من حقها، كما من حق دول حلف الناتو تحريك أسلحتها النووية على أراضي الدول الأعضاء. أي أننا هنا أمام “مناورات” سياسية وعسكرية لإثارة الفوضى والضجيج في العالم بهدف الوصول إلى مستوى وحالة “الضحية” التي تبحث عن مبررات أخلاقية، تمهيدا للقيام بمغامرات مفاجئة وغير محمودة العواقب. وهذا يسمى مبدأ “مغامرة الضحية”.

روسيا تحرك أسلحتها على أراضي دولة “الاتحاد الروسية البيلاروسية” وهذا من حقها كما من حق دول حلف الناتو تحريك أسلحتها النووية

في هذا السياق تحديدا، يعيدنا الكرملين، بمفهومه “الجديد- القديم” للسياسة الخارجية الروسية، إلى حالة مواجهة متعددة المستويات تشبه في خطوطها العريضة نفس المواجهة إبان الحرب الباردة. ولكن السؤال هنا يدور حول: هل روسيا بنفس قوة وقدرات وعلاقات الاتحاد السوفيتي السابق؟! وهل هي قادرة على إدارة هذه المستويات؟! وهل تتوافر الظروف والشروط لتحقيق ذلك؟!

إن نخبة الكرملين تحاول، منذ بداية العام الثاني للغزو الروسي لأوكرانيا، الارتقاء إلى مستوى أعلى من التهديدات والمواجهات لعلها تصل إلى أي مقاربة توقف استنزاف روسيا وتدهور أوضاعها، ولكن بطريقة أخرى أكثر مجازفة ومغامرة مما حدث في مقاربة الكاريبي عام 1962، حتى لو تطلب الأمر إلى ما يشبه الاحتكاك المباشر. ولكن حتى الآن لا توجد أي مؤشرات على هذا الاحتكاك إلا في التحليلات السريعة والعشوائية وفي وسائل الإعلام. وروسيا بالفعل تتحرك بميزان حساس للغاية في إطار الساحة القانونية الدولية ووفق المعاهدات المبرمة بينها وبين الولايات المتحدة. وعلينا أن نفصل بين هذه التحركات بقانونيتها وحساسيتها وبين ما يدلي به المحللون أو تتداوله وسائل الإعلام.

اقرأ أيضا: عروض روسيا السخية ومستقبل الصين كقوة ثانية في العالم

إن المفهوم “الجديد- القديم” للسياسة الخارجية الروسية يركز في المقام الأول على “إمكانية استخدام موسكو الجيش لصد ومنع أي هجوم مسلح ضدها أو ضد أي من حلفائها”، و”اعتبار القضاء على أساسيات الهيمنة من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشؤون الدولية، إحدى أولوياتها”، و”معارضة سياسة خطوط التقسيم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ”، و”الاهتمام بتعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع الصين والهند كمراكز قوة عالمية صديقة”. إضافة إلى صيغة مائعة للغاية وهي أن هذا المفهوم الجديد للسياسة الروسية يطلق على الولايات المتحدة تسمية “المبادر الرئيسي والمحرض الرئيسي على انتهاج الخط المناهض لروسيا”. لكنه حتى الآن لا يعتبرها “عدوا” لروسيا، وإلا كان من الممكن أن تتم الإشارة إلى ذلك صراحة.

هذا المفهوم الروسي الجديد- القديم يسعى بطبيعة الحال إلى التأثير على موازين القوى في العالم، ويسعى إلى حالة من الاستقطاب، والانقسام والتشرذم الدوليين. وتعتمد موسكو في ذلك ليس على إمكانياتها وقدراتها في إحداث ذلك لأنها لا تملك إلا أوراق إثارة الفوضى فقط، وإنما على التناقضات بين بعض الدول وبين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وعلى رغبة هذه الدولة أو تلك في إعادة صياغة علاقتها من جهة أخرى، سواء بروسيا أو بالغرب، وفقا لمصالح تلك الدولة وليس رغبة روسيا أو مصالحها. ولكن في المقابل، نجد أن الغرب ليس عاجزا أو ساكنا أو يقف مكتوف اليدين ينتظر مصير الاتحاد السوفيتي أو مصير الإمبراطورية الرومانية. فالغرب يعمل ويصوغ خططه وإجراءاته بميزان في غاية الحساسية. وهو بالفعل لديه كل الأوراق والقدرات والإمكانية لتحقيق ذلك وبدون ضجيج. ويبدو أن هناك متسعا من الوقت أمام الطرفين لاستنزاف بعضهما البعض. وهما بالفعل يستعدان ويحشدان لذلك، وسيبقى “إصبع كل منهما بين أسنان الآخر إلى أن يصرخ أحدهما”.

هنا تجدر الإشارة إلى أن الغرب سيفشل فشلا ذريعا في الإطاحة بنظام الرئيس فلاديمير بوتين، لأن الأخير اتخذ عدة حزم من الإجراءات الأمنية والقانونية تكاد تجاوز كل ما اتخذه قادة الاتحاد السوفيتي طوال 70 عاما. لكن الغرب في المقابل سينجح في إضعاف روسيا على المديين المتوسط والبعيد. وهذا ما حدث مع الاتحاد السوفيتي طوال 70 عاما حيث انهار بدون إطلاق رصاصة واحدة أو وقوع أي مواجهات نووية. وفي الواقع، فإن هذا الأمر يجري بهدوء وصبر أمام صراخ روسيا وحملاتها الإعلامية وسعيها الدائم للحديث عن المثل العليا بحثا عن مبررات أخلاقية لإقناع بعض الأطراف الضعيفة والمثالية إما بالانحياز إليها أو الحياد على أقل تقدير.

المغازلات الروسية الساذجة لأفريقيا والدول العربية والإسلامية

هناك تقرير روسي صدر حول جزء يتعلق، على سبيل المثال، بالعالم العربي وإفريقيا وبعض الدول الأخرى، حيث يشير إلى أن روسيا تعتزم توجيه اهتمامها لتطوير الشراكة مع “العالم الإسلامي” و”مكافحة كراهية الإسلام”! وهناك بالفعل فقرة في “المفهوم الجديد- القديم للسياسة الخارجية الروسية” تشير إلى أن “روسيا تعتزم توجيه أولوية إلى تطوير التعاون الشامل والقائم على الثقة مع جمهورية إيران الإسلامية، والدعم الشامل لجمهورية سوريا الإسلامية، وتعميق شراكة براجماتية ومتعددة الجوانب مع تركيا والسعودية ومصر (وهي دول إسلامية أيضا)، وغيرها من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، مع مراعاة درجة سيادتها ومواقفها البناءة في سياستها تجاه روسيا”. ولكن هذه الرغبة الروسية لا تزال عند حدود الصياغات الإنشائية والتمنيات، لأن هذه الدول لديها ارتباطات وعلاقات مع أطراف أخرى. وفي نهاية المطاف، روسيا ليست الاتحاد السوفيتي.

من الواضح أن هناك مغازلات روسية ساذجة وقديمة مثل النظر للعالم وللدول العربية والإسلامية على أسس دينية وعرقية فجة. فروسيا تشير إلى نفسها، في هذا “المفهوم” بأنها معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة”، كما تغازل أيضا ما أسمته بـ “دول الحضارة الاسلامية الصديقة” بأنها ستجعلها قطبا ومركزا مستقلا في عالم متعدد الأقطاب، وهذا يشبه ما كان يعد به الاتحاد السوفيتي بعض الدول العربية أيضا بأن يجعلها “قطبا اشتراكيا” في عالم شيوعي سعيد! غير أن هذا الغزل الديني والقومي بدائي وخطير ومرعب للغاية وغير محمود العواقب، لأن روسيا نفسها هي التي يمكن أن تنقلب ضده وتذيق هذه الدول “الإسلامية” مرارة المؤامرات والهزائم. فالنخب القومية الروسية، والعديد من الأجنحة الحاكمة حاليا لم تنس أدوار مصر والسعودية إبان الغزو السوفيتي لأفغانستان، ولم تنس حتى الآن إبعاد الخبراء الروس من مصر قبيل حرب أكتوبر 1973، أو إبعاد الاتحاد السوفيتي عن المنطقة وتوقيع اتفاقية “كامب ديفيد” بدون موسكو. وفي كل الأحوال، فعلى مراكز القرار في الدول العربية أن تكون منتبهة من جهة، وأن تحسب حساباتها بشكل براجماتي ووفق مصالحها من جهة أخرى، لأن موسكو لا تسعى إلا إلى مصالحها حصرا، حتى لو احترقت كل الدول العربية بأنظمتها وشعوبها. وفي نهاية المطاف، فكل نظام عربي يحدد مصالحه ويدفع ثمن اختياراته.

إن الصيغة الإنشائية الغريبة لمفهوم السياسة الخارجية الروسية “الجديد- القديم”، تنطلق من، وترتكز إلى، أحلام وتمنيات نخبة الكرملين التي تدرك مدى عزلتها، ومدى المخاطر المقبلة، وإمكانية انزلاقها إلى وضع يجعلها هدفا للضرب من الجميع في حال لجوئها إلى مبدأ “مغامرة الضحية”، واستخدام أي شكل من أشكال الأسلحة المحرمة دوليا. وفي المقابل، فالغرب لا يمكنه إسقاط نظام بوتين، ولا يريد استخدام أي نوع من أنواع الأسلحة الممنوعة، ولا يسعى لتفكيك روسيا، ولا يرغب بهزيمتها هزيمة استراتيجية، لأن ذلك قد يدفع بوتين إلى إجراءات أكثر تطرفا. وعموما، فانهيار روسيا ليس في مصلحة أي دولة أو تكتل، وفي المقام الأول أوروبا والولايات المتحدة، لأن روسيا المفككة والمنهارة ستشكل خطرا على كل دول العالم، وعلى أوروبا والصين بالدرجة الأولى.

 

روسيا تقوم بنشر أسلحتها النووية التكتيكية كخطوة أولى على أراضي بيلاروس لكي تعادل موازين القوى النووية لحلف الناتو

اقرأ أيضا: الدعاية الروسية عن الحرب الأوكرانية تهيمن على العالم العربي

تلاعب روسيا الشكلي بالأسلحة النووية وتخويف العالم

إن نشر أسلحة نووية تكتيكية روسية على أراضي بيلاروس، وتلميح الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بأنه سيطلب في حال استدعى الأمر، نشر أسلحة نووية استراتيجية روسية على أراضي بلاده، كلها تدور في الإطار القانوني التشريعي الذي لا يتعارض مع قوانين وقرارات ومواثيق الأمم المتحدة ومعاهدة “عدم انتشار الأسلحة النووية”، لأن روسيا وبيلاروس تشكلان اتحادا يسمى بـ “دولة الاتحاد الروسي البيلاروسي”. وتحريك الأسلحة أيا كان نوعها، ما دامت غير منصوص عليها في اتفاقيات معينة بين روسيا والولايات المتحدة أمر طبيعي وقانوني. غير أن موسكو من جهة أخرى تروج لمغالطة قانونية وتشريعية، وتسعى لخلط الأوراق عبر حملات إعلامية وبروباجندا “دعاية” للعب دور الضحية. فروسيا تتهم الولايات المتحدة بأنها تنقل أسلحتها النووية في الدول الأوروبية، وأنها نقلت أنواعا من هذه الأسلحة مؤخرا إلى 7 دول أوروبية. ومكمن المغالطة الروسية التي تعرف موسكو جيدا أنها مغالطة، هو أن حلف الناتو المكون من 30 دولة بقيادة الولايات المتحدة يقوم بتحريك ونقل أسلحته النووية وغير النووية على أراضي الدول الأعضاء، وفق مواثيق الحلف والمواثيق الدولية. وهو ما تفعله روسيا في بيلاروس في إطار ما يسمى بـ “دولة الوحدة”.

إن التعاون العسكري بين روسيا وبيلاروس يتم بما يتفق بدقة مع القانون الدولي، ونشر الرؤوس الحربية النووية على بيلاروس، دون نقل السيطرة عليها إلى مينسك، لا يتعارض مع أحكام مواد معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. إذ أن “تدريب الطيارين البيلاروس القادرين على قيادة الطائرات بذخائر محددة، وتحديث هذه الطائرات، وكذلك نشر الرؤوس الحربية النووية على أراضي بيلاروس، دون نقل السيطرة عليها إلى مينسك، وكذلك الوصول إلى التقنيات ذات الصلة، في أي وقت، لا يتعارض مع أحكام المادتين الأولى والثانية من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية”. غير أن روسيا وبيلاروس، اللتين تعرفان القانون جيدا، تثيران ضجيجا “كوميديا” حول نقل وتحريك الأسلحة النووية في مجال حلف الناتو وبين دوله باعتبار أن ذلك لا يشكل خطرا عليها فقط، بل وأيضا يخالف القانون الدولي وبنود معاهدة “عدم الانتشار”!

الأمر الآخر، هو أن روسيا تقوم بالفعل بنشر أسلحتها النووية التكتيكية كخطوة أولى على أراضي بيلاروس، لكي تعادل موازين القوى النووية في المجال الأوروبي لحلف الناتو. ومن الممكن أن تعقبها الخطوة الثانية بنشر أسلحة نووية استراتيجية أيضا. وروسيا تعرف جيدا أنه في أراضي سبع دول أوروبية أعضاء في حلف الناتو، وكذلك في تركيا العضو المؤسس للحلف، توجد مستودعات أسلحة نووية أمريكية وأوروبية منذ الحرب الباردة، وهناك طيارون من العديد من دول حلف الناتو تدربوا على استخدام القنابل النووية ونقلها. ومن الطبيعي أن يتم نقل وتحريك الأسلحة النووية بين دول الحلف. وهنا تحديدا يكمن جوهر الإجراء الروسي في بيلاروس. إذ أن موسكو تتهم الناتو بزيادة إمكانياته وبأنه “ينوي” إيصال أسلحة نووية إلى الأراضي الروسية باستخدام مطارات بولندا ورومانيا ودول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا). وفي حال الضرورة أيضا يمكن أن تنفذ تركيا التزاماتها كعضو مؤسس في حلف الناتو باستخدام أراضيها لإيصال هذه الأسلحة، بصرف النظر عن علاقات موسكو وأنقرة من حيث الجودة أو الرداءة.

وبالتالي، فحسابات الكرملين الأولية في حال نشوب أي شكل من أشكال الصدام المباشر بين روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، تقتضي تدمير البنى التحتية العسكرية والمدنية والمطارات في 6 دول أوروبية على الأقل، هي بولندا ورومانيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وتركيا. غير أن الحلقة تضيق بشكل تراجيدي حول روسيا، إذ يدور الحديث عن تسليح اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا بأسلحة نوعية، سواء بشكل منفرد، أو في إطار مجموعتي “أوكوس” التي تضم (الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا)، و”كواد” التي تضم (الولايات المتحدة والهند واليابان واستراليا). الأمر الذي يستدعي قيام روسيا أيضا باتخاذ إجراءات عسكرية واسعة النطاق ضد البنى التحتية العسكرية والمدنية في ثلاث دول أخرى على الأقل هي اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية.

الموقف الراهن

بعد انضمام فنلندا إلى حلف الناتو في 4 إبريل 2023، واستكمال عملية انضمام السويد للحلف. يبدو المشهد العام أكثر توترا وانقساما. ولكن حتى إذا احتلت روسيا كل أوكرانيا، وهذا مستحيل، فحدودها ستكون ليس فقط هي حدود الناتو، وإنما ستكون أيضا أسوأ حدود ممكنة مع مجموعة من الدول التي تكره روسيا كراهية تاريخية وعضوية. وحتى إذا نجحت روسيا في احتلال كل أوكرانيا، قد تكون نجحت في منع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو، ولكنها ستكون قد ساعدت على انضمام دولتين للحلف بدلا من دولة واحدة، هما فنلندا والسويد. وربما تشعر سويسرا بمخاوف أمنية فتنضم هي الأخرى إلى الحلف.

لقد اكتسبت روسيا أعداء جددا، وتضاعف عداء أوروبا الشرقية لها، وزادت دول الناتو واليابان واستراليا وكوريا الجنوبية ميزانيات الدفاع، وتم فرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا: عقوبات اقتصادية وفي مجال الطاقة وطرق النقل والمجال الجوي، وفي مجال التقنيات الرفيعة.

والأخطر أن روسيا أصبحت أسيرة الصين، حيث أصبحت الأخيرة تمثل القوة الثانية في العالم، وتملأ الفراغات التي تركتها وتتركها وستتركها روسيا فيما بعد، وفقا لموازين القوى، لأنه لا توجد “صداقات ومحبة وأخوة” في السياسة الكبرى. هذا إضافة إلى الانتشار الواسع لمئات الآلاف من الصينيين في مناطق الشرق الأقصى الروسي، وإمكانية أن تحدث تحولات ما، وفقا لموازين القوى التي تميل نحو الصين، وتظهر مشكلة “بقاء ملايين الصينيين في الشرق الأقصى الروسي”، إذ تحتاج الصين إلى أنواع معينة من الأراضي أمام حجم السكان المتزايد بها.

إن دول مثل جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا وأذربيجان خرجت من تحت المظلة الروسية إلى الأبد. وحاليا تحاول أرمينيا الخروج بعد موقف روسيا ضدها في حربها الأخيرة مع أذربيجان في العامين الأخيرين.. كما أن أوزبكستان تراوح بين الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولكنها تبتعد في هدوء عن روسيا. وكذلك تفعل كازاخستان نفس الأمر في هدوء أيضا. وسبب الهدوء والابتعاد التدريجي لكل من أوزبكستان وكازاخستان عن روسيا يعود إلى خوف الدولتين من مغامرات أمنية وانقلابات وتلاعب الأجهزة الأمنية الروسية بمقدرات الدولتين. والآن، لم يعد مع روسيا إلا قيرغيزستان وطاجيكستان وبيلاروس.

وإذا افترضنا جدلا أن روسيا ستحتل كل أوكرانيا، فإنها ستضم الأراضي الأوكرانية إلى قوام روسيا الاتحادية. وبالتالي، ستختفي أوكرانيا كدولة، وهذا لن يحدث أبدا وبشكل مطلق. غير أن الخطير هنا، حتى وإذا ضمت روسيا كل أوكرانيا، فإن “المقاومة” الأوكرانية بكل أشكالها ومستوياتها ستعمل طوال الوقت على استنزاف روسيا، وعلى المزيد من عدم الاستقرار الداخلي والقيام بعمليات خطيرة في الداخل الروسي. وهو ما بدأت بوادره فعلا عبر عمليات أوكرانية خاصة في الداخل الروسية. وهذا يعني أن روسيا من أجل تفادي سيناريو الاستنزاف الأوكراني، سواء احتلت كل أوكرانيا أو احتلت شرق أوكرانيا، عليها أن تتبع سيناريو آخر تماما، ألا وهو الإبادة الكاملة والشاملة للشعب الأوكراني، وحرق كل أراضي أوكرانيا لتصنع منها منطقة عازلة على الأقل مع دولتين أو ثلاث من دول حلف الناتو، وتعطيل الملاحة في البحر الأسود، نظرا لوجود دول من حلف الناتو تطل على هذا البحر. وفي حال استخدام روسيا أي أسلحة نووية، سيتغير مسار الأحداث، وقد يتغير موقف الصين نفسها تجاه روسيا بنتيجة المغامرة النووية. غير أن الأهم، هو أن حلف الناتو به 3 قوى نووية وليس قوة واحدة أو اثنتين.

يبدو أنه لم يعد أمام روسيا إلا تجاوز أوكرانيا، والدفع بقواتها لاحتلال كل أوروبا. وهذا السيناريو، رغم تفضيل القوميين الروس له واستسهالهم إياه، قد لا يبدأ أو لا يكتمل إذا بدأ. إذ سيكون العالم قد دخل إلى منطقة “أمنية” و”عسكرية” أخرى تماما، لها معاييرها وشروطها وكوارثها، وستكون روسيا في مواجهة العالم كله، بما في ذلك الصين التي ستتضرر بقدر ليس أقل من أوروبا.