منذ أيام أعلن البنك المركزي المصري تراجع رصيد الدين الخارجي لمصر بنهاية شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي مقارنة بنهاية شهر يونيو/ حزيران من العام نفسه؛ ليسجل 155 مليار دولار. مقدار التراجع الذي قدّره المركزي بقيمة 700 مليون دولار، عزاه البنك إلى تراجع سعر صرف معظم العملات المقترض بها أمام الدولار الأمريكي بنحو 2.7 مليار دولار، بينما “ارتفع” بالفعل صافي المستخدم من القروض والتسهيلات بملياري دولار خلال تلك الفترة. أي ان ذلك التراجع النسبي الطفيف لا يعدو أن يكون سوى أثر تغيرات سعر الصرف للدين الخارجي المقوّم بعملات غير الدولار، وهو الأثر الذي يمكن أن ينعكس في أي وقت لاحق متى تحسّنت قيمة العملات الأخرى المستدان بها مقابل الدولار(كما يتمنى البعض من كارهي العملة الأمريكية!).

وفيما يتعلق بأعباء خدمة الدين الخارجي، أشار التقرير إلى أنها بلغت 4.8 مليار دولار خلال الفترة (يوليو/ تموز-سبتمبر/ أيلول) من العام المالي 2022/2023، تمثّل أقساط الديون منها نحو 3.2 مليار دولار، وتبلغ الفوائد نحو 1.6 مليار دولار. أما عن التزامات خدمة الدين الخارجي خلال السنوات الخمس المقبلة فقد قدّرت بنحو 83.8 مليار دولار. مما سبق فإن نسبة رصيد الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي تكون قد بلغت 32.4% نهاية سبتمبر/ أيلول 2022، الأمر الذي يجعلنا نهتم بتقديرات الناتج المحلي الإجمالي؛ حيث أن أي مغالاة في تلك التقديرات تعطي انطباعاً زائفاً بتحسّن أحد مؤشرات الدين العام، فيما نشير إليه عادة بأثر المقام denominator effect فكلما ارتفعت قيمة المقام فإن ناتج القسمة ينخفض كما هو معروف حسابياً.

وإذا كان الدين الخارجي لمصر قد ارتفع بنحو خمسة أضعاف تقريباً خلال الأعوام العشرة الماضية، فإن الدولة ما زالت قادرة على الوفاء بكافة التزاماتها المالية في مواعيد الاستحقاق داخلياً وخارجياً، باستثناء بعض الإشارات الملتبسة الخاصة بتجديد الودائع الأجنبية (مثل بعض الودائع الخليجية) دون إيضاح لرغبة دول الخليج في تجديد تلك الودائع من عدمه.

وعلى الرغم من أن هيكل الدين الخارجي المصري يتميز بكون أكثر من ثلثه مستحقاً لصالح مؤسسات التمويل الدولية، التي عادة ما تقدّم تسهيلات في السداد وأسعار للفائدة أفضل نسبياً من سائر مصادر التمويل الأخرى، لكن ما يقرب من 40% من تلك المديونية قائمة لصالح صندوق النقد الدولي، مما يشير إلى مخاطر التركّز من ناحية، وإلى قصر أجل الدين من ناحية أخرى. وفي 21 مارس/ آذار 2023 وافق مجلس المديرين التنفيذيين لمجموعة البنك الدولي على إطار شراكة إستراتيجية جديد لمصر للسنوات المالية 2023-2027.  ويستند هذا الإطار إلى مجموعة من الدراسات التي أجرتها مجموعة البنك الدولي تشمل الدراسة التشخيصية المنهجية الخاصة بمصر، والدراسة التشخيصية للقطاع الخاص، وتقرير المناخ والتنمية الخاص بمصر.

وقد أعلنت الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التعاون الدولي ومحافظ مصر لدى مجموعة البنك الدولي، عن كون “إطار الشراكة الاستراتيجية بين جمهورية مصر العربية ومجموعة البنك الدولي 2023-2027، يؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الإنمائي والعمل المشترك، من أجل دعم جهود تحقيق النمو الشامل والمستدام، مرتكزًا على الأولويات الوطنية في مختلفة القطاعات ورؤية التنمية 2030، وكذا المبادرات الرئاسية. من خلال شراكة ممتدة مع مجموعة  البنك الدولي سيتم العمل على مدار الخمس سنوات المقبلة على تحفيز دور القطاع الخاص في التنمية لخلق المزيد من فرص العمل وتهيئة بيئة الاستثمار، وزيادة الاستثمار في رأس المال البشري، وتعزيز العمل المناخي، بما يحقق التعافي الشامل والنمو المستدام”.

وتسعى الإستراتيجية الجديدة إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة هي:

  1. زيادة فرص العمل في القطاع الخاص وتحسينها: من خلال تهيئة بيئة داعمة للاستثمارات التي يقودها القطاع الخاص وخلق فرص عمل، فضلا عن السعي نحو تكافؤ الفرص أمام القطاع الخاص.
  2. تعزيز نواتج رأس المال البشري: من خلال مساندة تقديم خدمات صحية وتعليمية شاملة، فضلاً عن برامج الحماية الاجتماعية الفعالة.
  3. تحسين القدرة على الصمود في وجه الصدمات: من خلال دعم إدارة الاقتصاد الكلي، وتدابير التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره.

كما تهدف إستراتيجية الشراكة إلى تعزيز دور مصر في تحقيق التكامل الإقليمي، وهو ما له آثار إيجابية على مصر وربما المنطقة بأسرها من خلال تعزيز التجارة الإقليمية وزيادة خدمات الربط البيني في مجالات البنية التحتية والنقل والطاقة والعمالة. وبالإضافة إلى ذلك، يشير البنك الدولي إلى كون إطار الشراكة يستهدف تعزيز محورين متداخلين هما: محور الحوكمة ومشاركة المواطنين، ومحور تمكين المرأة، اللذين يرتكز عليهما التقدم نحو تحقيق الأهداف الرئيسة، ويكملان ويعززان بعضهما بعضاً.

وفيما يتعلّق بالتسهيلات المتاحة، يشترك في تنفيذ إطار الشراكة الإستراتيجية كل من البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية والوكالة الدولية لضمان الاستثمار، وذلك من خلال محافظ المشروعات الحالية وتبني نهج مرن لتمويل العمليات. وتبلغ قيمة التسهيلات المتاحة من مجموعة البنك الدولي لتنفيذ اطار الشراكة سبعة مليارات دولار أمريكي، بواقع مليار دولار سنوياً من البنك الدولي للإنشاء والتعمير خلال الخمس سنوات القادمة، بالإضافة إلى ملياري دولار استثمارات مع القطاع الخاص خلال نفس الفترة من مؤسسة التمويل الدولية، ذلك بالإضافة إلى ضمانات من الوكالة الدولية لضمان الاستثمار.

مما تقدّم يتضّح أن التسهيلات المقدّمة من خلال تلك الشراكة مع مجموعة البنك الدولي تختلف بشكل هيكلي عن تلك التي يوفرها صندوق النقد الدولي، إذ تتميز عنه بطول الأجل في السداد كما جرت العادة، كما إنها تخصص لتحقيق التنمية الشاملة وتعنى بالتنمية البشرية والاستثمار في رأس المال البشري والتصدي لتغير المناخ، إلى جانب تدعيم إدارة الاقتصاد الكلي، ولكن وفقاً لشروط تراعي السلم والأمن المجتمعي، ذانك اللذين تهملهما الوصفة الإصلاحية النمطية التي عادة ما يفرضها صندوق النقد، والتي تدور حول تخفيض قيمة العملة الوطنية، والتخلي عن ملكية الدولة للأصول، وإلغاء الدعم … إلى غير ذلك من سياسات يدفع المواطن ثمنها غالياً قبل أن تحصد الدولة أي نوع من الاستقرار في موازينها الداخلية (الموازنة العامة) أو الخارجية (ميزان المدفوعات).

لكن من ناحية اخرى تظل تلك الشراكة عبئاً إضافياً تتحمله الأجيال القادمة من الديون الخارجية التي اعتادت وزارة التعاون الدولي (في حكومة سابقة) أن تستنفد كل روافدها ما دامت استطاعت ان تقترض، وليس على أساس القدرة على السداد، أي إننا ظللنا نقترض لأننا نستطيع الاقتراض لا لكوننا نستطيع السداد!…لم تصدر بعد أية تفاصيل عن طبيعة وتكلفة التمويل الذي يقدمه البنك الدولي لمصر عبر المؤسسات السابق الإشارة إليها، لكن المؤكد انها ليست منحاً أو قرضاً حسناً بفوائد صفرية، ونظراً لكون سياسات التشديد النقدي (رفع أسعار الفائدة) تجتاح العالم كله مؤذنة بنهاية وشيكة لعصر الأموال الرخيصة، فمن المتوقع أن تكون تكلفة تلك التسهيلات أعلى نسبياً من القروض التي حصلت عليها مصر قبل الحرب الروسية-الأوكرانية.

التسهيلات على الرغم من عدم خضوعها لذات الشروط المرتبطة بالاقتصاد الكلي، والتي تحكم قروض صندوق النقد آنفة الإشارة، لكنها توجّه لمشروعات بعينها بحيث لا يتم إطلاقها إلا حال استيفاء تلك المشروعات للضوابط والشروط التي وضعتها مجموعة البنك الدولي. فمثلاً كان ثمة مشروع قومي أو مشترك بين القطاعين العام والخاص، ويهدف إلى تخفيض البصمة الكربونية لإنتاج الكهرباء، فإن الجهة المانحة للتسهيلات ستقوم بدراسة المشروع كأي بنك تجاري، وربما عبر آليات ومراحل دراسة أكثر تعقيداً وتقييداً! لذا فكثير من المنح القروض التنموية تظل عالقة في صناديق غير مفعّلة لسنوات، كونها تضع قيوداً معقّدة، وتمر عبر سلسلة طويلة من الدراسات، ومثال ذلك منحة مقدمة من ألمانيا منذ أكثر من عامين لتحسين كفاءة الطاقة قيمتها 8 مليون يورو (فقط) لم يتم استخدامها حتى اليوم، لأسباب تنظيمية في الأساس.

الحلول المستدامة للتخلّص من أزماتنا الاقتصادية المتلاحقة، وتلك المزمنة التي مدارها العجز الداخلى والخارجي، لن يكون إلا عبر إصلاحات حقيقية في الاقتصاد العيني، وتغيير نمط وأدوات الإدارة، وتحسين كفاءة تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية في شرايين الوطن، وفي ذلك حديث يطول…