أكثر من خمسين مدنيًا سقطوا فضلًا عن عشرات العسكريين -وفق إحصائيات أولية- عن الاشتباكات التي هزت منذ أمس السبت أرجاء السودان، ولا تزال مندلعة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع -شبه العسكرية، التي يقودها محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي. واللذان بصراعهما أجهضا الاتفاق الإطاري، الذي رفضت قوات الدعم السريع الانخراط بموجبه في منظومة الجيش. الأمر الذي يقود البلاد إلى تناحر محتدم بين كيانين عسكريين متصارعين على النفوذ والسيطرة.
كيف بدأ المشهد؟
بدأ مشهد التصعيد منذ ثلاثة أيام، بعد أن تمركزت قوات الدعم السريع فى منطقة مروي. وهو التحرك الذى اعتبره الجيش غير قانوني، وراهنت بعض القوى على الحوار بين الجانبين وعودة كل الأطراف إلى طاولة المفاوضات من أجل تحقيق بنود للاتفاق الإطارى. والحفاظ على البلاد من الانزلاق إلى دوامة الحرب.
وقد أعربت الأمم المتحدة عن قلقها إزاء هذا التصعيد. وصرح المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك بأن “ما نراه الآن مقلق للغاية -تلك التقارير المتعلقة.. بالحشد المستمر لقوات الأمن المختلفة في الخرطوم. ومدن أخرى بالسودان”. وقد استمر التصعيد الذي سرعان ما تحول إلى صدامات لا تزال متواصلة بين الجانبين بين كر وسيطرة على بعض المقار ومن ثم فقدانها مجددًا. ذلك في وقت ادعى الجيش أن قوات الدعم السريع هاجمت مقره، بينما زعمت هذه القوات أن مقارها في الخرطوم تعرضت لهجوم “بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة”.
د. خيري عمر. أستاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا الحكومية التركية، يرى أن ما يحدث في السودان الآن هو نتيجة منطقية لعدم التفكير المتناسق في المرحلة الانتقالية في مختلف المؤسسات، وقد ظهر عدم التناسق هذا في الافتقار لوجود رؤية سياسية مستقرة لدى الأطراف الفاعلة تستهدف العبور بالسودان من هذه المرحلة.
وفى المشهد يظهر تغليب المصالح الشخصية، إذ سعى كل طرف نحو تثبيت أقدامه في السلطة سواء القوات العسكرية والمنقسمة أيضا والمتنوعة بين الجيش وتكوينات شبه نظامية كما الدعم السريع والحركات المسلحة.
كل قوة سعت لتثبيت أقدامها، وكان التفكير الأساسي لتحالف “الحرية والتغير” كيف يستأثر بالحكم لوحده، وسعى اليسار لتوطيد نفسه ضمن الكتل الكبيرة كأحزاب الأمة أو الحزب الاتحاد الديموقراطي وكانت سياسات حركة التغيير الأساسية إبعاد الجيش.
ويضيف “عمر” أن ذلك نتج عنه تضارب المصالح الواضح بين الجهات الفاعلة، وقد تجاوز ذلك التضارب المؤسسة العسكرية انتقالًا إلى الأحزاب السياسية.
ويستكمل د. عمر، أما بالنسبة للسبب الثاني وراء التصعيد الراهن، وهو ما يتعلق بعدم القدرة على استدراك الأخطاء والمخاطر لاسيما في الأربع سنوات الماضية والذي تبين في تشكيل الحكومة المدنية أو الخروج من المرحلة الانتقالية، وعند قراءة الوثائق التي صدرت على مدى هذه الفترة نلاحظ أن الشغل الشاغل لدى القوى المدنية هو كيفية الإطاحة بالجيش وإبعاده عن كل مناحي الحياة والذي يمكن ملاحظته من خلال طلب رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك بضرورة وجود بعثة دولية بهدف تفكيك الجيش وإبعاده عن المجال رغم أن الحكومة في مرحلة انتقالية ولا تتمتع بصلاحيات كاملة، وهو السبب الرئيسي وراء إشعال الصراع الذي أطاح في نهاية المطاف بحكومة حمدوك.
السودان أمام مفترق طرق
واليوم، يقف السودان عند مفترق: إما إعادة إنتاج أزمته السياسة مجددا أو نجاح المشاورات التي تجري بين القوى السياسة والجيش، وتحقيق بنود الاتفاق الإطاري، الذي نص على تسليم السلطة للمدنيين، واختيار حكومة مدنية تدير البلاد، ودمج الأجهزة الأمنية ومعالجة قضايا السلام والعدالة الانتقالية وقضية شرق السودان والإصلاح الأمني والعسكري.
حسب جدول تسيير الاتفاق، كان من المفترض توقيع الدستور الانتقالي 6 إبريل/ نيسان الجاري. لكن الخلافات حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش ومن ثم الاقتتال أدت إلى تأجيل الأمر برمته، إذ ما يزال بند الإصلاح الأمني أحد نقاط الخلافات الرئيسية المعطلة لعودة العملية السياسية.
وسبق وأن صرح الناطق الرسمي باسم العملية السياسية خالد عمر بـ”أنه لن يتم التقيد بهذا التاريخ، إذا استدعى الأمر المزيد من الوقت”، ما أثار مخاوف بشأن مسار العملية السياسية.
ويبدو أن تأثيرات وعمق الأزمة بين القادة العسكريين تترك بصمتها على مجمل المسار السياسي، وضمن هذا السياق تأتي إشارة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان إلى غياب القدرة على الحوار والتفاهم، وأن تأخير التوقيع يرجع لأسباب بينها تباينات في المواقف حول الإصلاح العسكري والأمني.
وقال البرهان خلال إفطار حضره أعضاء من مجلس السيادة وبعض القوى السياسية “لا أحد يريد قبول الآخر والكل يسعى لتوسيع حصته”.
مسار الاتفاق النهائي
عبر الاتفاق الإطاري بين القوى السياسية والجيش، كان المفترض أن يدخل السودان مرحلة جديدة نحو الانتقال إلى الحكم المدني، وكانت ورش العمل التي تشارك فيها القوى السياسية والأمنية بمثابة آلية نقاش تستهدف حلحلة القضايا الخلافية الرئيسية، والتي تشمل قضية شرق السودان، واتفاق جوبا للسلام، والإصلاح العسكري والأمني، لكن النقطة الأخيرة كان من شأنها أن تعطل استكمال النقاش والتوصل لاتفاق نهائي.
وترجع الدكتورة أماني الطويل مديرة البرنامج الإفريقي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية تعطل مسار التوقيع إلى وجود عدد من التحديات الراهنة، أبرزها وجود تباينات بين أطراف المكون العسكري، والتي تضع البلاد أمام فصل من السيناريوهات المفتوحة.
كما ترى “الطويل” ان هناك احتمالية أن يصعد المكون العسكري مواقفه مما يهدد بانفلات الوضع الأمني ويثير تساؤلات بشأن مستقبل البلاد.
الخلاف بين القوى العسكرية
وقد كشفت الجلسة الختامية لورشة إصلاح المؤسسة العسكرية في 29 مارس/ آذار الماضي، عن عمق الخلافات بين القادة العسكريين، واختتمت دون التوصل إلى توصيات نهائية، وفي خطوة مفاجئة انسحب ممثلو الجيش السوداني من الورشة قبل عرض التوصيات النهائية.
وكان جوهر الخلاف ينحصر بين الجيش وقوات الدعم السريع في بعض المسائل الموضوعية والنقاط الفنية حول تشكيل هيئة القيادة والمدة الزمنية لدمج الدعم السريع في جيش واحد.
تسبب انسحاب ممثلي الجيش من الجلسة الختامية لورشة الإصلاح الأمني والعسكري، إلى تأجيل التوقيع من 1 إبريل إلى 6 إبريل/ نيسان وهو ما لم يتم أيضًا.
وبالتركيز على مسألة دمج قوات الدعم السريع، باعتبارها الركيزة الأساسية اللازمة، فقد أشار اتفاق المبادئ إلى ضرورة تسوية الجوانب السياسية والفنية والأمنية، في إطار الإصلاح المؤسسي الشامل بهدف تحقيق مقومات الجيش القومي المهنى، ونص الاتفاق على إتمام عملية الدمج والإصلاح فى مدة لا تتجاوز 10 سنوات. وهي المدة الزمنية التي كانت محل رفض من الجيش وممثليه.
وحدد الاتفاق آليات لإدارة عمليات الدمج والإصلاح والتحديث في 3 جهات: مجلس الأمن والدفاع واللجنة الوطنية، وتتضمن الإصلاحات أيضا امتناع القوات النظامية عن ممارسة الأنشطة الاستثمارية والتجارية، وتطهير القوات المسلحة من الإسلاميين وعناصر نظام 30 يونيو “نظام الرئيس السابق عمر البشير”.
تأجيل متوقع
ويعلق الناشط السوداني، عبد الله حامد، أحد شباب لجان المقاومة، بأن الأوساط السياسية السودانية لم تتفاجئ بتأجيل موعد التوقيع على الاتفاق النهائي الذي ترفضه لجان المقاومة والحزب الشيوعي أي ما يسمى (بقوى التغيير الجذري) وهو يمثل من وجهة نظرها تراجعا ناعمًا،
يقول حامد إن المؤشرات كانت دالة على عدم إمكانية الالتزام بالمواقيت التي أعلنت. ذلك على ضوء انسحاب القوات المسلحة من الجلسة الختامية لورشة الإصلاح الأمني والعسكري، كما كان من الصعب أن تتوصل الأطراف المدنية والقوات المسلحة لحلول متفق عليها بشأن القضايا الشائكة.
ويضيف حامد أن هناك سببًا ثالثًا لعرقلة الاتفاق يتعلق بمسألة توسيع المشاركة والتباين داخل القوى المدنية “الحرية والتغيير”، بين الكتلة الديمقراطية لقوى الحرية والتغيير، والمجلس المركزي للحرية والتغيير.
ويضيف أنه في خضم هذا الجو السياسي المشحون، برزت بالمقابل خلافات بين العسكريين (الجيش والدعم السريع) في ختام ورشة الإصلاح الأمني والعسكري حول مسألة الدمج، وأدى ذلك إلى تعقيد مسار الاتفاق النهائي وتباعد المسافات بين القوى المدنية الموقعة وقيادة الدعم السريع وبين القوات المسلحة.
خاصة أن أطراف العملية السياسية كانوا قد أعلنوا جداول التوقيع على الاتفاق النهائي الذي حدد له الأول من إبريل، فيما حدد السادس من إبريل لتوقيع الدستور الانتقالي والحادي عشر من إبريل لتشكيل الحكومة الانتقالية.
السيناريوهات المتوقعة
ويرى الباحث في الشؤون الإفريقية وائل نصر الدين، أن أحد الأسباب الرئيسية التي حالت دون توقيع الاتفاق في 1 إبريل، هو عدم كفاية الفترة الزمنية المحددة بالنظر إلى الخلافات العالقة في مسألة الإصلاح الأمني والعسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع.
يقول نصر الدين: “ربما حل الأزمات المتعلقة بالوضع العسكري والوصول لاتفاق يحتاج إلى وقت أطول، تعقدت الصورة الآن بصورة متزايدة”.
ويُرجِع الناشط عبد الله حامد تعقد المشهد إلى غياب التوافق حول بعض القضايا الأساسية، سواء بين القوى السياسية والجيش أو بين الدعم السريع والجيش.
ويحتاج الاتفاق لتوصل العسكريين لتوافق واضح حول كيفية دمج الدعم السريع حتى تكون العملية السياسية ناجحة، بعدها تُتخذ خطوة تكوين حكومة انتقالية توافقية بانضمام الكتلة الديمقراطية للحرية والتغيير، ودون ذلك ستواجه الحكومة الانتقالية المفترضة تحديات كفيلة بإسقاطها.
ويشير حامد إلى أن قوى التغيير الجذري وصفت الاتفاق بأنه لا يمثل مصلحة الجماهير ولا الثورة، وإنما يمثل عملية اختطاف لمكاسب سياسية لصالح مجموعة محدودة.
كذلك يؤكد د. خيري عمر أن الوضع الراهن من حيث اندلاع الاشتباكات على هذا النحو يمثل المرحلة الأخيرة لتفاقم التناقضات على مدار الأربع سنوات الماضية، إذ كانت العقيدة العسكرية للجيش هي عقيدة الدولة، بينما كانت العقيدة العسكرية التي تعمل بها قوى الدعم السريع هي العمل على تغيير الديناميكيات الفاعلة في الدولة، وبالتالي كان الصدام بين الطرفين حتميا ومن الصعب معالجته في هذه المرحلة وخصوصا وأن المسألة لم تعد شأن داخلي وإنما معززة باختلاف وجهة نظر الدول الخارجية، فهناك من يفضل التغيير أو إزاحة الجيش من المشهد تماما وهناك أيضا من يفضل استمرار بعض العسكريين في العملية السياسية.
وبشأن إمكانية الوساطة بين الأطراف المتطاحنة، يرى د. عمر أن الأزمة لا تبشر بأي حل قريب، وأن الأمور وصلت إلى مرحلة لا ينفع فيها دور الوساطة.