على بعد أيام قليلة من الموعد المقترح، لبدء جلسات الحوار الوطني في 3 مايو المقبل، بعد نهاية شهر رمضان والإجازات اللاحقة عليه بمناسبة أعياد الفطر وتحرير سيناء والعمال، وعلى بعد أقل من عام من الموعد المقرر للانتخابات الرئاسية في 2024، تظهر التفاعلات السياسية، وتتصاعد تدريجيا بناء على تصورات مختلف الأطراف المشتبكة مع الوضع السياسي، ومن خلالها تتحدد الأولويات، والمواقف وتتجلى مساحات الاتفاق والاختلاف السياسي.
لا شك، أن زخم الدعوة لإطلاق الحوار الوطني التي أطلقها رئيس الجمهورية قبل عام، قد تراجع كثيرا على مدار الفترة الماضية، لأسباب متعددة ومركبة يمكن تلخيصها في تجاوز التصورات، والطموحات لسقف الواقع المتوقع من ناحية وبطء وتردد الخطوات الدالة على انفتاح سياسي حقيقي، ولو بشكل نسبي، دون أن يعني ذلك أن تلك التصورات، والطموحات مخطئة في ذاتها، وإنما لكونها لم تبنى على أساس سليم وصحيح، ولا على توازنات قوى حقيقية، ولا أن البطء والتردد، يعني أن الوضع الحالي مطابق بالضبط لما كان عليه قبل عام، لا تزال هناك مراوحة في المكان في كثير من الملفات، ولا يزال هناك بطء شديد في ملفات أخرى، لم تكن تحتاج كل هذا الوقت لتقدم سريع وحقيقي ومؤثر فيها، لكن في المجمل فإن الأوضاع والتصورات، لدى أغلب الأطراف كما هي لم تتغير بشكل كبير أو جذري إلا باستثناءات محدودة تكاد تؤكد القاعدة.
ولا شك أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، بعد أقل من عام يستدعى تفاعلا وتفكيرا ونقاشا على أرضية كونها مناسبة سياسية عامة وهامة، لكن القضية هنا في تصورات حدودها، وأبعادها ودورها، والمستهدف من التفاعل والاشتباك معها، وطبيعة اللحظة التي سوف تجرى فيها، والأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية القائمة.
قد يتكامل المساران وقد يتناقضان، وقد يكون كلاهما مكملا للآخر إذا كنا على أبواب انفتاح سياسي، ولو نسبى أو متدرج، أو قد يكون كلاهما مسارا مختلفا عن الآخر بحسب أداء الأطراف المختلفة من سلطة، ومن قوى سياسية ومجتمعية، لكن المؤكد أن تكاملهما عبر حوار جاد، وحقيقي بمخرجات شاملة وواسعة تفتح الباب لأفق إصلاحات سياسية عميقة وفتح مساحات واسعة في المجال العام، وتتلوها انتخابات رئاسية تعددية وتنافسية، هو المسار الأصوب، والأسلم لجميع الأطراف وللمجتمع والبلد كلها.
المطلوب الآن أن تكتمل ضمانات جدية ومصداقية الحوار الوطني، عبر خطوات بسيطة كلفتها السياسية، ومردودها العام في أغلب الظن ستكون إيجابية على عكس ما يتصور البعض، وأن يكون الحوار جامعا وشاملا لكافة القوى والتيارات، ومعبرا عن مختلف الرؤى ووجهات النظر دون استبعاد أو انسحاب، ففي ذلك في تقديري ضمانة، لأن يكتسب الحوار مصداقية من ناحية لكن الأهم أن يكون جادا وشاملا لا حوارا من طرف واحد.
والمطلوب في الوقت ذاته، أن تكون مساحة الحوار منفتحة على مختلف الموضوعات والقضايا، بما في ذلك ما يتعلق ويخص الانتخابات الرئاسية المقبلة، وضمانة أن تكون انتخابات جادة وتنافسية وحقيقية تعبر عن رؤى وبرامج وأفكار وحلول، لأزمات ومشكلات الوضع الراهن.
لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا عبر حوار جاد وحقيقي وشامل، ولا يمكن الرهان على انتخابات رئاسية في ظرف سياسي منفتح نسبيا، إلا بحرية الحركة للأحزاب والمرشحين والحملات ومساحات مفتوحة في الإعلام وتوقف الملاحقة الأمنية بسيف القوانين لأصحاب الآراء المختلفة.
لكن النقطة الأساسية والجوهرية هنا، هي ما يتعلق بأسقف التوقعات والطموحات، التي على أساسها يتم صياغة الخطاب والتحرك السياسي، فلا تغيير تدريجي ولا جذري بدون تنظيم، وهى لب أزمة الحركة السياسية المصرية على مر تاريخها تقريبا، وفى الأوضاع القائمة ولأسباب متداخلة للسلطة الدور الرئيسي فيها وللقوى السياسية دور أيضا، لا يمكن تجاهله لا يوجد إطار تنظيمي واحد متماسك وقوى، ولديه قواعد حقيقية يمكن من خلاله الرهان على قيادة معارك سياسية وانتخابية كبيرة، وحتى وإن كانت الانتخابات في مصر يلعب فيها الفرد المرشح دورا جوهريا ورئيسيا؛ فإنه بدون قوى تنظيمية متماسكة تدعم وتساند فلا رهانات حقيقية على تغييرات تنتج عن عملية الانتخابات بشكل عام.
من هنا تأتى أهمية فتح المجال العام، باعتباره الهدف الرئيسي في تقديري من التفاعل الإيجابي مع دعوات الحوار الوطني منذ إطلاقه، وحتى الآن رغم كل التعثرات والأزمات، عبر خلق مساحات آمنة تستعيد رغبة، وقدرة المواطنين على المشاركة في العمل العام، سياسيا ونقابيا ومجتمعيا وأهليا، واعتقادي أن هذا هو المدخل الصحيح لبناء أطر تنظيمية متماسكة تتطور بالتجربة والاختبار، في مناخ مفتوح وآمن وقابل للتعدد والتنافس.
إذا لم يحقق الحوار الوطني المتطلبات الأساسية لذلك البناء فإن بدايته ستكون مثل نهايته دون تغيير يذكر، أيا كانت الأطراف المشاركة فيه، وأيا كانت القضايا المطروحة خلاله، وإذا لم ينجح القائمون على الحوار والمشاركون فيه، من وضع لبنات بناء حياة سياسية سليمة وصحيحة وديمقراطية، عبر تعديلات واسعة وجوهرية في مجمل التشريعات المقيدة سواء للأحزاب، أو قوانين الانتخابات أو مواد الحبس الاحتياطي، أو القوانين المختلفة التي استخدمت كسيف مسلط على الآراء المختلفة، والمعارضة بشكل سياسي وسلمى، فإن هذه التجربة لن يكتب لها النجاح أيا كان حجم توصياتها وقراراتها الأخرى.
وإذا لم يكن نصب أعين الراغبين، والمستهدفين للاشتباك مع الانتخابات الرئاسية المقبلة أن يتم من خلالها توسيع أفق المشاركة لا تضييقه، وتحفيز عموم الناس على المشاركة في العمل العام عبر أطر تنظيمية، لا إبقائهم مجرد رقم على الهامش، وتمهيد الأرض لبناء كتل سياسية منظمة جديدة، فإن ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، سيكون أقرب للأوهام منه للطموحات المشروعة.
من مصلحة السلطة والمعارضة، أن يكون الحوار الوطني حوارا حقيقيا وجادا ومثمرا، ودون ذلك فإن الرهان عليه وعلى مخرجاته لن يكون في محله، ومن مصلحة السلطة، والمعارضة أيضا أن تجرى الانتخابات الرئاسية المقبلة في إطار منفتح، وجاد وحقيقي بدون تضييق أو حصار أو في أفق سياسي مغلق، لأن ذلك قد يحولها من انتخابات، إما إلى صدام أو في الحد الأدنى إلى شكل إجرائي بدون مضمون، لكن من مصلحة المجتمع كله مع كل ما سبق، أن ينفتح الباب لمساحات حقيقية للتعبير عن الرأي وطرح الرؤى والأفكار، وبناء أطر وكتل سياسية، وتنظيمية قادرة على استعادة مفاهيم العمل السياسي بشكل حقيقي، وجاد وبناء نفسها وبلورة رؤاها، وصياغة خطابها بما يتماس مع أزمات الوطن ومشكلات الناس ويطرح حلولا وبدائل حقيقية، وجادة وقابلة للتطبيق ويقدم كوادر حقيقية من قلب المجتمع بتنوعه في مختلف المجالات والقضايا، ومجددا فإن ذلك مما لا يمكن الرهان عليه إلا في ظل مناخ مفتوح وحر، إذا كنا نريد خلق مسارات حقيقية وآمنة في ظل العديد من الأزمات، والأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة والمزيد منها الذى قد يوجهنا في المرحلة المقبلة.