بعد أن قطع الشك باليقين في عزم الرئيس عبد الفتاح السيسي علي الترشح للفترة الرئاسية الجديدة، اتجه حديث وحسابات المعارضة إلى المطالبة بما يسمونه بالضمانات السياسية والقانونية لخوض انتخابات رئاسية تنافسية، على قدم المساواة مع الرئيس، وتعددت بيانات المطالبة بهذه الضمانات من معارضي الداخل، ومعارضي الخارج، ومن الشخصيات العامة ومن الائتلافات “الإلكترونية“، بل وعلى الصفحات الشخصية للكثيرين.
قبل أن أدلي بدلوي في هذا الحديث أود أولا التنبيه إلى أن استعمالي لعبارة “ما يسمونه بالضمانات الانتخابية“، و أن وصفي لها في عنوان المقال “بالمستحيلة“ ليس تسفيها -لاسمح الله – للمعارضة، ولا رفضا للمبدأ ذاته، ولكنه بالأحرى تذكير لنفسي ولزملائي في صفوف المعارضة بعدم بناء حساباتهم للانتخابات الرئاسية لعام 2024 على توافر تلك الضمانات.
سواء تقدمت المعارضة بمرشح أم ساندت مرشحا كانت لديه إرادة دخول المعترك، أم امتنعت عن المشاركة ترشحا ومساندة، فلن يكون مصير دعوة الضمانات بأفضل من مصير دعوة البعض بل الكثيرين إلى الرئيس بالاكتفاء بالفترتين الرئاسيتين السابقتين، وعدم الترشح للفترة الجديدة، فكلا الدعوتين ليستا سوى تفكير بالتمني، أو تحليق في عالم النظريات والمثل العليا، وليس في السياسة عموما، وفي حالتنا خصوصا شيء من ذلك.
قواعد اللعبة لن تعطيك إلا ما تستطيع أنت أخذه بقوتك الذاتية، وأنت كمعارض محروم من كل مصادر القوة السياسية التي تقنع الطرف الآخر بدرجة أو درجات من الاستجابة، إلا إذا افترضت أن تشخيصك للمشكلات المترتبة على سياسات النظام، واقتراحاتك للحلول تكفي بذاتها، وهذا افتراض خاطئ، لأننا لسنا في مناظرة أكاديمية، أو في تجربة معملية، ولكننا في واقع سياسي معقد، بالمصالح والتكوينات الاجتماعية، والأجهزة الرسمية، والتفاهمات الدولية والإقليمية، وتسيطر عليه وتديره السلطة التي نطالبها بالضمانات، لا لشيء إلا احتكامًا إلى ما ينبغي أن يكون، في حين أن السياق التاريخي المتطاول لهذا النظام ليس فيه سابقة واحدة تشير إلى إمكان قبول ذلك الذي ينبغي أن يكون، ليس فقط بسبب تلك المصالح والتكوينات والأجهزة، ولكن أيضًا لأن طريقة الوصول للسلطة والاستمرار فيها دون تصور الخروج منها.. كل ذلك يخلق لدى هذا النمط من نظم الحكم اعتقادًا راسخًا بأن هذه هي طبيعة الأمور.
لعل أغلب المصريين الآن لا يتذكرون أو لا يعلمون أن محاميا مصريا -لم أعد أذكر اسمه- تقدم إلى مجلس الأمة عام 1965 بطلب ترشح لمنافسة جمال عبد الناصر في الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية، وبالطبع لم يحصل على صوت واحد من أعضاء المجلس الذي كان يرأسه أنور السادات، وكان هذا مفهوما على كل حال، لكن الذي لم يكن مفهوما أن هذا الشخص أودع في اليوم التالي مستشفى الأمراض العقلية، ولم يسمع به بعد ذلك خيرا أوشرا، لكن الرسالة كانت قد وصلت، وارتقت إلى مرتبة المسلمات، فلا يكفي أن أحدًا ليس أمامه فرصة ولو بنسبة 1% لمنافسة الرئيس، ولكن لا ينبغي لأحد التفكير. مجرد التفكير في هذه المنافسة، إلا إذا كان فاقدًا لقواه العقلية، ومن ثم فهو فاقد لأهليته القانونية والاجتماعية.
بالطبع لم تتكرر هذه السابقة، أي لم يفكر أو يحاول أحد الترشح بعد ذلك، ولا حتى مع أنور السادات في دورتيه الرئاسيتين، ولا مع حسني مبارك قبل عام 2005، وكان السادات الذي طلب علنا النص في دستور 1971 على ألا تزيد فترات الرئاسة للرئيس الواحد على فترتين، هو نفسه الذي عدل الدستور لإلغاء هذا النص، ليتأبد هو الآخر على الكرسي، (قبل اغتياله بأشهر).
ومن الشواهد المماثلة في حكم حسني مبارك رد فعله التلقائي (بلغة الجسد) على انفجار قاعة مدرسة المساعي المشكورة بشبين الكوم بالتصفيق شديد الحماسة، ترحيبا بقرار تعديل الدستور ليصبح تولي منصب الرئاسة بالانتخاب بدلا من الاستفتاء، مع تعدد المرشحين، وكان ذلك في فبراير عام 2005، إذ يبدو أن الرجل خشى أن يذهب الحماس بالمصفقين ومن ورائهم المواطنين بعيدًا، ليتوقعوا انتخابات تنافسية حقيقية مثل التي تجرى في الدول الديمقراطية، فأخذ يبتسم ابتسامة تمتزج فيها السخرية بالإشفاق، وهو يشير بيده تلك الإشارة التي تقول (مهلا مهلا لا تحلقوا في سماء الأحلام.. انتظروا حتى تسمعوا البقية.. وتروا الخازوق”.
ثم أخذ يتلو شروط وإجراءات الترشح للمنصب، والتي تجعل عبور المانش في سن الثمانين أسهل كثيرًا، ولن تتوافر إلا فيه، أو في من يختاره لخلافته عندما تحين الفرصة لمنافسته ذرا للرماد في عيون العالم الخارجي، والبقية معروفة، فعندما ترشح أيمن نور، فإنه لم يرق إلى تلك الشروط، بل سجن، واختار الرئيس بنفسه د. نعمان جمعة لكي يسد الخانة، فيكون منافسه رجل (كبارة) يليق بالرئيس، وليس أيمن نور الذي استصغر مبارك سنه ومكانته، بل وليس د. سعد الدين إبراهيم، الذي يرفض أن يكون محللًا، وعلى أية حال فلم يسلم هو الآخر من السجن في القضية المعروفة وقتها بقضية مركز بن خلدون.
إذن لماذا يفترض المعارضون أن الرئيس السيسي سيقدم لهم مايطلبون، ويلحون في طلبه من ضمانات، رغم أنهم سبق وأن طالبوه بعدم الترشح دون جدوى؟ خاصة وأن الرئيس كان واضحا في رفض النص الدستوري الذي يحدد رئاسته بفترتين، وقال إن الدستور وضع بحسن نية، ثم جرى تعديل الدستور بالفعل.
هل يعني ما أقوله هنا أنني أكسر مجاديف المعارضة؟ أو أنني أقول لهم لا تتعبوا أنفسكم فلا فائدة؟ أو أنني أدعو المعارضة إلى عدم الاتفاق على مرشح؟ أو عدم مساندة من يريد الترشح وترى المعارضة أنه يستحق؟
بالتأكيد لم يخطر ذلك ببالي، وكل ما في الأمر أنني أستطلع أرض المعركة، وأقول ما أراه فيها بكل الصدق والأمانة، فالرائد لا يكذب أهله، كما تقول الحكمة. وعلى كل حال، فإن مواجهة كل هذه السدود والقيود هي حلقة من حلقات سعي أو نضال المحكومين نحو المشاركة، (بالتعبير الذي أحبه كثيرا للمرحوم الدكتور سليمان قلادة، في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي)،
وكما قلت في ختام مقال سابق لي هنا فالطريق طويل و،البداية صعبة.، ولكن لا بد منها، فالسماء لا تمطر ديمقراطية وحقوقا وحريات!.