لدى قراءتي الأولى لرواية بهاء طاهر «الحب في المنفى» وجدتني أضع خطوطًا بالقلم الرصاص تحت بعض العبارات التي تشبه حالي، أو تلك التي كأنها تتحدث عني من عمق أعماقي، ولكن روايات عمنا الكبير نجيب محفوظ انفردت بطقس خاص بها.

لا أذكر أني أمسكت القلم والورق لكي أسجل عليها بعض العبارات التي أقرأها في كتاب إلا الروايات التي عليها اسم نجيب محفوظ، كثيرًا ما كنت أتوقف عن القراءة لأتذوق المعنى، أو أتفحص فكرة، أو أسجل عبارة أخذتني، أو كلمات هزت وجداني، أو تسربت إلى عقلي انسيابًا لطيفًا.

بالأمس حين تهيأت لكتابة مقالي في أجواء العشر الأواخر من رمضان وقع نظري مباشرة في كراساتي المنقولة عن نجيب محفوظ قوله: «هل يخلق الصيام في الإنسان نوعًا من الشفافية يجعله يصل إلى أعماق قد لا يدركها وبطنه ممتلئ؟ أم أنه يعطي دفعة روحية للصائم تظهر علاماتها في هذا التذوق المرهف».

**

لم يحمل أدب نجيب محفوظ فقط هذا القدر الكبير من العبقرية الروائية، لكنه حمل قدرة مدهشة على الغوص في أعماق الناس، والتأمل في طبائعهم، وتبدل أحوالهم، يجد كل قارئ لأعماله بعض شخصيات محفوظ في حياته، يتحدث عنهم بدراية وكأنه عاشرهم سنين طويلة.

يقدم لك أدب محفوظ فهمًا أعمق للنفس البشرية المليئة بالتناقضات|، التي تبدو أحيانًا غير منطقية، لكنها تساعدك على فهم سلوك الناس حيال قيم الحياة الكبرى كالقوة والضعف، الشهامة والخيانة، الثراء والفقر، الوضاعة والشرف، الأمل واليأس.
في كراستي وجدتني أنقل عنه قوله: «في حارتنا إما أن يكون الرجل فتوة، وإما أن يُعدّ قفاه للصفع»، وقوله إن «الحرية هي ذلك التاج الذي يضعه الإنسان على رأسه ليصبح جديرًا بإنسانيته».
**
من أكثر الأمنيات التي ظللت أتطلع إليها في حياة نجيب محفوظ، أن يأتي يوم نقرأ فيه حكايته بقلمه، وكثيرًا ما تساءلت: لماذا أعرض كبير الحكائين عن أن يكتب قصته بنفسه؟ لماذا اقتصر على سرد بعضا من سيرته الذاتية على بعض الأدباء والنقاد الذين التصقوا به سنوات عمره الأخيرة؟

الغريب أن عمنا الكبير لم يكن يجد في سيرته الذاتية ما يفرض عليه أن يسجله بقلمه، كان يقول: «أنا مجرد موظف كتب روايات، كنت موظفًا حكوميًا في الصباح وكاتبًا في المساء”، تلخيص متواضع، وربما ساخر لحياة أديب نوبل الكبير كما رآها.

والأغرب أنه كان يرى أن كتابة السير الذاتية تصلح لهؤلاء الذين عاشوا حياة سياسية صاخبة، وكانت لهم حياة اجتماعية ثرية، في جعبتهم مرويات، وفي ذاكرتهم أسرار، وفي حصيلتهم شخصيات وأحداث مرت بها حيواتهم.

**

مسار حياة نجيب محفوظ يبدو طبيعيًا لمصري ولد في أوائل القرن العشرين ومات في أوائل القرن الواحد والعشرين، بدأ مع التحاقه بـ «الكُتَّاب» الذي تعلم فيه القراءة والكتابة، وحفظ فيه ما تيسر له من سور «القرآن الكريم»، ثم تدرج في التعليم، حتى حصل على ليسانس الفلسفة، وكان ترتيبه الثاني على الدفعة، ثم عمل موظفا لدى الحكومة، وترقى في مراتب الوظيفة الحكومية حتى صار مستشارًا لوزير الثقافة بدرجة «نائب وزير»، ثمً أحيل إلى المعاش حين بلغ الستين من عمره.

عشرات الآلاف، وربما الملايين، ساروا على نفس الدرب، بعضهم تخرج في الكلية نفسها، والبعض الآخر من كليات أخرى، وعملوا جميعًا في دواوين الحكومة، حيث كانت الوظيفة لها قيمة، وتعطي الأمان والاستقرار، وتعطي المكانة والاحترام، ثم انتهت مهمتهم وانقضت مدتهم فخرجوا جميعًا إلى المعاش.

هي دورة حياة مصرية تقليدية تكررت، كأنها ساقية مربوط فيها الناس يدورون حولها حتى يأتي يوم يسلمون فيه الدور على القادمين من خلفهم أجيالًا وراء أجيال.

لكنه كان نسيجًا وحده، استطاع بدأب شديد وعزم لا يلين وانضباط لا يفرط فيه، أن يجعل حياته العادية التي تشبه حياة كل الناس، مجرد هامش طويل على متن حياته التي اختارها بوعي، وعن سابق تصميم وإصرار، حيث الحياة في الأدب، وحيث المعيشة في كنف الرواية.

ظل نجيب محفوظ يعتبر الأدب هو حياته، وليس مهنة، كان يكتب بدون أن يتطلع إلى أن يلفت النظر إلى كتاباته ذات يوم، بل كنت يكتب معتقدًا أنه سيظل على هذه الحال دائمًا، ولذلك حق له أن يقول بعد فوزه بنوبل «الشيء الذي أعتز به أنني كنت مخلصًا لعملي ومحبًا له».

**

كيف جرت عملية إعداد هذا القادم من قلب القاهرة القديمة؟ ليجلجل بموهبة عبقري سوف يكرّس بعد قليل فرعًا جديداً في الأدب العربي لم يكن قبله غير محاولات خجولة للتأسيس، ثم يأتي هو ليفتح طريقاً جديدًا باسم الرواية في مدائن الأدب العربي.

استطاع ابن موظف بسيط، وأمه ربة منزل أمية، أن يكون نجيب محفوظ، حضرت أمه في ذكرياته وربما في كتاباته أكثر من أبيه، وظلت في نظره «أكثر ثقافة من سيدات في العائلة تعلَّمن في مدارس أجنبية، ويُجِدن اللغات الغربية، ويُتقن العزف على الآلات الموسيقية»، يقول: «لم أجد فيهن عشقًا وعراقة وأصالة وجدتها في أمي».

كان والده مشغولاً باستمرار، ولم يعش طويلاً، بينما عاشت أمه سنوات طويلة وتجاوز عمرها المئة عام، توثقت علاقة الفتى بأمه صغيراً وكبيراً، وظل يعيش معها حتى وصل عمره إلى 43 سنة حين تزوج، وبقي جزء كبير من مكتبته وكتبه في بيت أمه حتى رحلت عن الدنيا.

**

أمه بنت الشيخ الأزهري كانت مغرمة بالغناء والموسيقى، وكان الشيخ سيد درويش مطربها المفضل، وكانت هذه الأمَّية تعشق زيارة الآثار والمعالم الدينية، إسلامية كانت أو قبطية أو فرعونية.

يذكر نجيب الطفل أنها كانت تأخذه في رحلات دورية إلى كثير من هذه الآثار، وكانت دائمة التردد على المتحف المصري، ويتعجب نجيب الكبير وهو يحكي عنها أنها كانت تحب قضاء غالبية الوقت في حجرة «المومياوات»، رغم أنها كانت تسمي التماثيل «المساخيط».

تعلم نجيب مبكرًا قيمة الانفتاح على التاريخ المصري، وكانت تلك الزيارات المتكررة للمتاحف هي نافذته الأولى على تاريخ بلده، وربما كانت هي السبب وراء أن يتمحور إنتاجه الأدبي في بداياته على التاريخ القديم، فكتب ثلاثيته الأولى عن التاريخ الفرعوني: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طيبة».

**

التسامح الذي صار من الخصال المميزة لشخصية نجيب محفوظ، تعلم درسه الأول في مدرسة أمه، فلم تكن تلك الأمية تذهب به إلى مقام الحسين وبقية الآثار الإسلامية فقط، ولا هي اكتفت بزياراتها المتعددة إلى المتحف المصري وأهرامات الجيزة، بل كانت تشد الرحال إلى الكثير من المعالم القبطية.

سأل نجيب أمه التي كانت تتكئ عليه في هذه الزيارات، عن سر هذا الجمع بين حبها الكبير للحسين، وتعلقها بزيارة «مار جرجس»، في نفس الوقت، وكانت تقول له في تلقائية وعمق: «هُم يا بني نفس السلسال، كلهم بركة».

نشأت بينها وبين راهبات دير «مار جرجس»، علاقة مودة صافية، حتى أنها حين مرضت ولزمت الفراش فوجئ أهل البيت ـ كما فوجئ أهل الشارع جميعاً ـ بوفد من «الراهبات» يزرنها، وكان المشهد أمام ناظريه مليئاً بالدلالات قبل أن يكون مسكوناً بالمحبة الصافية.

**

انتمى نجيب محفوظ إلى حي الجمالية بالميلاد وبالسكن، سكنت تلك المنطقة وجدانه، وظل يتردد عليها حتى بعد انتقل من «السكن»، فيها إلى «المعيشة»، في مناطق أخرى، يأخذه الحنين إليها ويشده إلى ربوعها، دائمًا في رحابها، وهو شاب يملأ جنبات مقاهيها ضحكاً وسخرية فاقعة، ويسترد روحه فيها، وهو شيخ عجوز، في كل مرة يذهب إليها يزور ضريح مولاه الحسين مريداً، كصوفي مطيع، تحمله نشوة العاشق إلى هناك.

لم يغب عن باله لحظة في حياته أنه ابن «بيت القاضي»، في الجمالية، ربما هي أفضل سنوات عمره المديد تلك التي قضاها في حيه الأول، في حاراته وبين مزاراته وناسه وبيوته ومشربياته، تلك السنوات التي شهدت طفولته وبراءته وسذاجته ووحدته بين أم وأب في بيت خلا من الأشقاء الذين كانوا قد كبروا وانفردوا بمعيشتهم سواء بالزواج أو العمل.

سكن نجيب في «العباسية» شاباً، وبقيت «الجمالية» تسكنه طول عمره. في «العباسية»، التقى بعدد من أصدقاء عمره وتوثقت علاقتهم معاً وتواصلت بقية العمر.

تعرف فيها إلى عبد الحميد جودة السحار، وإحسان عبد القدوس، والدكتور أدهم رجب الذي أصبح أستاذاً ورئيساً لقسم الطفيليات بكلية طب قصر العيني، ودخل في أثناء إقامته فيها إلى الجامعة، وفيها درس الفلسفة بكلية الآداب، ثم انتقل إلى مرحلة التكوين العقلي.

**

عشق القراءة منذ الصغر، وقد أدرك من اللحظة الأولى أن الكاتب الجيد قارئ جيد بالأساس، وأن القراءة هي زاد الكاتب، وأحد أهم ينابيع معرفته ومصادر وعيه، وكانت القراءة واحدة من متعه المفضلة تسبق كل متع الدنيا، بما فيها متعة الكتابة ذاتها، وحين ضعف بصره مع تقدمه في العمر، وتركت محاولة اغتياله أثرها على حركة يده اليمنى، ففقد القدرة على النظر وفقد القدرة على الكتابة معًا، كان ينعى بصره ويقول: «حزني على فقدان قدرتي على القراءة يفوق حزني بسبب عدم قدرتي على الكتابة»، واعتبر أن أكبر هزيمة في حياته جاءته مع حرمانه من متعة القراءة بعد ضعف نظره.

رحلته مع القراءة والتأليف بدأت وهو طالب في الثالثة الابتدائية، وكانت البداية مع رواية بوليسية عنوانها “ابن جونسون”، وكان عمره حوالي عشر سنوات، يقول: «كنت أقرأ روايات جونسون على أنها حقائق، ولهذا كنت أبكي، أو أضحك تبعًا لتغير المواقف».

**

أدمن القراءة مبكرًا كما بدأ التأليف مبكرًا، وهو ما يزال طالبًا في المرحلة الابتدائية، يقول هو تأليف من نوع غريب، كنت أقرأ الرواية وأعيد كتابتها مرة أخرى، بنفس الشخصيات مع تعديلات بسيطة، ثم أكتب على غلاف الكشكول: تأليف نجيب محفوظ، واختار اسمًا لناشر وهمي، يضحك ويقول: «الحمد لله أن الكتاب الأول الذي شدني إلى القراءة كان رواية، ولم يكن كتابًا في علم الحشرات، وإلا ربما تشكل مستقبلي بطريقة أخرى».

في الثانوية كان لقاؤه الأول مع المنفلوطي، فانبهر به وبأسلوبه وبسببه قرر الاتجاه إلى القسم الأدبي، وانتقل من المنفلوطي إلى المجددين، والمفكرين الذين كانوا يحظون بالاحترام في هذه الفترة طه حسين، العقاد، وغيرهما، في تلك الفترة من تكوينه قرأ «الحرب والسلام»، لتولستوي، التي يعتبرها أعظم رواية كتبت على الإطلاق، وقرأ «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، وأسهم كثير من الأدباء العالميين في تكوينه الأدبي، وحين شرع في الكتابة كان حريصًا على ألا يقع تحت تأثير أحدهم.

**

حين دخلها كانت الجامعة تمور بالفكر الجديد، في زمن المد الليبرالي، وتغليب مفاهيم الاستنارة وإعلاء قيمة العقل، وتصدر القضية الوطنية لجدول أعمال الوطن، وتلك هي الفترة الأجمل من بين كل الفترات التي مرت به، وبمصر وبهذه المنطقة بل وفي العالم.

كان الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا، هو أول من ترك أثرًا بالغًا ظلّ مقيمًا معه حتى لحظاته الأخيرة، كان آنذاك أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب،‏ وهو ـ بأبسط تلخيص ممكن ـ مثقف مصري وعربي أصيل ونبيل، تتحقق في تكوينه أصالة التراث الإسلامي في عصور ازدهاره ونهوضه، وفقه الدين وأنوار وإشراقات العقل العلمي النقدي، الذي استوعب وهضم ثقافة وعلوم وفلسفة وفنون الآخر الأوروبي، تحديدًا اللاتيني الفرنسي، في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

في تلك الفترة الباكرة من حياة نجيب محفوظ، تعرف أيضًا إلى الكاتب والمفكر اليساري سلامة موسى، الذي كان يؤمن بالحضارة الغربية في الوقت الذي كان متحمساً للحضارة المصرية القديمة، وتأثر به محفوظ في تلك الفترة من تكوينه، وبانت في مؤلفاته الأولى، وكان أول ما نشر كتاب مترجم تحت عنوان «مصر القديمة»، وكان الناشر سلامة موسى نفسه، وتحت تأثيره ألف نجيب محفوظ رواياته الثلاث الأولى.

**

مزج التأثير المزدوج للشيخ مصطفى، والأستاذ سلامة لدى نجيب محفوظ النظرة المستنيرة إلى التراث العربي والإسلامي، والتطلع إلى التجديد الحضاري، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، ورد الاعتبار إلى الجذور القديمة للشخصية المصرية، ولذلك تجده يقدم نفسه في كلمته أمام من منحوه جائزة «نوبل»، في الآداب قائلاً: «أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجًا موفقًا، الحضارة الفرعونية، والحضارة الإسلامية».

بعد حصوله على ليسانس الآداب أراد أن يجمع بين الأدب والفلسفة، ووقع فريسة لصراع حاد، ولحظة حسم حيرته لمصلحة الأدب، شعر براحة عميقة، وقرر أن يكرس نفسه للأدب، وعاش للرواية، راهبًا في محرابها، متبتلًا في إوانها.

حتى الزواج الذي هو من سنن الحياة البشرية ظل يخشى نجيب محفوظ من أن يؤثر بالسلب على مشروع حياته الأصلي، كان يعتقد بأنه سيكون عائقًا أمام العمل الأدبي، ولم يتعجل الزواج حتى تجاوز الأربعين وحتى لا يربك حياته في مسؤوليات صعبة، وحين اختار شريكة حياته الزوجية اختارها على مقياس واحد، أن تدرك أن قانون حياته الذي يحكمه ويتحكم فيه هو الأدب ولا شيء غيره.