في أكتوبر عام 2017، لم تتمكن مرشحة مصر السفيرة مشيرة خطاب، من الوصول حتى للمرحلة الأخيرة في منافسات اختيار المديرة الجديدة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، وهذه المنظمة معنية بالدرجة الأولى وبشكل شبه حصري بالكلمات الثلاث الواردة في اسمها “التربية والعلوم والثقافة”، وقد تم وضع معايير معينة وضوابط وقواعد، منذ تأسيس هذه المنظمة عام 1945، تتعلق ليس فقط بنشاط هذه المنظمة، بل وأيضا باختيار مديرها الذي يتم وفق معايير وضوابط صارمة، ومن داخل المصطلحات الثلاثة الواردة في اسمها، بعيدا عن أي إنجازات أخرى في أي مجالات خارج نطاق ما ورد في اسم المنظمة.. وبالطبع تقوم الدول بتزكية مرشحين مرموقين يتمتعون بمزايا مهنية، وشخصية في مجالات عملهم. ولكن الفيصل هو حركة الدولة، والمشهد العام فيها فيما يتعلق بـ “التربية والعلوم والثقافة”، مثل حرية الإبداع، وحرية البحث العلمي، وحرية الفكر الأكاديمي، وحرية الصحافة والإعلام، وأوضاع التعليم والحريات المتعلقة بنشاطات الطلاب والتلاميذ.

هذا الحديث يجرنا إلى تزكيات الكتاب لجائزة نوبل، والكوارث التي حدثت، ولا تزال تحدث فيها. فبعد أن كشفت وثائق لجنة جائزة “نوبل”، عن تزكيات المؤسسات لبعض الكتاب، اكتشفنا أن تزكية نجيب محفوظ كانت شبه معدومة. وكانت المؤسسات تقوم بتزكية كتاب كبار مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما. وبنتيجة عدم استقلالية السلطات في مصر، وتدخل الدولة نفسها بأجهزتها وقواها العميقة في الترشيحات، ووضع معايير تخصها ولا علاقة لها بالمعايير المطلوبة دوليا، ووفق كل منظمة أو مؤسسة، تضيع الجهود. ومرة أخرى نؤكد أن هذا الكلام ليس طعنا في المرشحين، بقدر ما هو إضاءة على آليات التزكية، والترشيح وحالة الفوضى والعشوائية والترصيد التي تسيطر على تلك العملية. وفي نهاية المطاف، تم ترشيح نجيب محفوظ من جهة خارج مصر، ليحصل على جائزة “نوبل في الأدب”، عام 1988. أما الأهم، فهو أن المرشحين المصريين، سواء لجائزة نوبل أو لإدارة اليونسكو أو أي منظمة عالمية أخرى، كلهم تقريبا يتمتعون بالقدرة والتفوق والاحترام المهني والعلمي. وبالتالي، فالمشكلة تكمن في شيء آخر تماما.

في العام الحالي (2023)، قامت مصر بتزكية وزير السياحة والآثار السابق الدكتور خالد العناني، لخوض المنافسة على منصب مدير اليونسكو للفترة من 2025 إلى 2029. وقبل أن تبدأ وسائل الإعلام بممارسة “هوايتها”، اللعينة والمدمرة وغير البناءة إطلاقا، فعليها أن تعلم أن هناك معايير، وقواعد تحكم عمليات الترشيح والتصويت، وأن هناك أيضا قواعد ومعايير تجري على أساسها الاختبارات. وقد ذكرنا جانبا أساسيا منها أعلاه. ما يعني أن أي إنجازات أخرى خارج السياق المطروح لا يأخذ بها، ولا علاقة لها بمادة وجوهر الترشيح لهذه المنظمة الدولية المرموقة والمهمة والمؤثرة. كما أن بناء المتاحف، وكثرة الآثار وتعبيد الطرق وإنشاء الكباري والجسور وشق الترع، وقنوات الري لا تدخل ضمن إطار التقييمات، ولا علاقة لها بالمعايير والقواعد. وفي حال عدم رضاء وسائل الإعلام، أو امتعاض الدولة التي تقوم بتزكية مواطنها لخوض الانتخابات، فمن الأولى أن تقوم تلك الدولة وإعلامها بإقامة “يونسكو”، خاص بها وتعيين المدير الذي يروق لها.

في 19 أكتوبر 2017، دعت مرشحة مصر لإدارة اليونسكو (UNESCO)- منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، السفيرة مشيرة خطاب إلى تأسيس “يونسكو مصري”، مؤكدة أن مصر تمتلك خيرة العقول في شتى المجالات، من الفنانين والمثقفين وغيرهم ممن يمثلون قوة مصر الناعمة. وقالت السفيرة: خلال لقائها ببرنامج “نظرة”، مع الإعلامي حمدي رزق، إنها “لا تشعر بالحزن لخسارة معركة اليونسكو، وأن مصر خاضت المعركة الانتخابية بشرف ونزاهة وكرامة، مسلحة بالعلم والثقافة والسجل الحافل في مختلف المجالات”، وأكدت أن منظمة اليونسكو أُنشأت لنشر السلام في عقول البشر، لافتة إلى أن وسائل إعلام فرنسا أكدت دعم اللوبي اليهودي للمرشحة الفرنسية، والتي خصمت من الأصوات الموجهة لمصر”!!

هنا تتحقق كل المخاوف التي تقلق أي مواطن مصري يعرف أهمية المنظمة المرموقة والمحترمة ودورها، ويدرك أهمية العمل، وبذل الجهد لتحقيق معاييرها وقواعدها في مجالات “التربية والعلوم والثقافة”، في بلاده لكي يتوج ذلك بإدارة تلك المنظمة العالمية، لما في ذلك من أهمية لمصر، وللدول الأعضاء، ولنشر السلام والعلوم والثقافة على الأرض. وفي هذا المقام تحديدا، يجب لفت الانتباه إلى مسألة خطيرة ومهمة، ألا وهي ضرورة الابتعاد عن “الخلط” و”الفهلوة” و”الشعبوية”، فمنظمة اليونسكو لها معاييرها المحددة، وتقوم لجنتها بمقابلة كل مرشح على حدة لمدة ساعة. وبعد ذلك تقدم له عدة أسئلة لكي يقدم إجابات واضحة ووافية عليها. خلال نصف ساعة تقريبا. وبالتالي، إذا لم تكن هذه القواعد، والمعايير تروق لأحد، فعليه أن يطالب بتغييرها أو بإلغاء المنظمة أو مطالبة دولته بالخروج منها. لكن من غير المسموح به توجيه السباب لهذه الدولة أو تلك، أو توجيه اتهامات لهذا البلد أو ذاك، أو ترك الموضوع الأساسي “التربية والعلوم والثقافة”، وتكييل الاتهامات لهذا الطرف أو ذاك بالتحيز أو الصهيونية. والمثير للغضب والخجل أنه يتم نسيان جوهر الموضوع، والبدء بتدبيج حملات غريبة حول عظمة مصر وتاريخ مصر، وإسهامات المصريين القدماء في علوم التحنيط والقانون وتشييد الأهرامات والمعابد، وتوحيد الآلهة وشق الترع، بينما الحديث يدور عن “هنا والآن”، وماذا يدور في المجالات الثلاثة قيد الانتخابات؟

لقد قام مجلس الوزراء المصري بترشيح الدكتور خالد العناني، لإدارة منظمة اليونسكو خلال الفترة من 2025 إلى 2029، كمرشح لمصر. والعناني يتمتع بتقدير علمي ومهني، وبشخصية واسعة المعرفة بمعناها الأكاديمي والإداري، وبعلاقات دولية واسعة مبنية على الجهود العلمية، والخدمة في المجالات التي تدخل في إطار اهتمامات ووظائف المنظمة الدولية. وتمتد إسهاماته وجهوده العلمية، والأكاديمية لأكثر من 30 عاماً، ومن ضمنها أيضا العمل داخل مصر في مجالات التدريس الجامعي، والبحث العلمي، وعلوم المصريات، والآثار والتراث والمتاحف والسياحة، بخلاف أنشطته وإسهاماته في العديد من الجامعات والمؤسسات البحثية والعلمية، داخل مصر وخارجها. أي أننا هنا أمام قامة رفيعة وثقيلة. ولكن كل ذلك هو مجرد جزء من مسوغات وشروط وضرورات الترشيح، لأن اختيار شخصية لا تتمتع بكل تلك القدرات، والمميزات قد يجعلها غير قادرة على المنافسة مع شخصيات أخرى تمت تزكيتها من بلادها. وهنا نأتي إلى الجزء الأهم الذي يتعلق بالدولة وجهودها ونشاطاتها ليس في تشييد دور العبادة والكباري والجسور والمتاحف والطرق، بل جهودها في مجالات “التربية والعلوم والثقافة” حصرا.

هنا نصل إلى مربط الفرس، كما يقولون: إن لجنة اليونسكو تطرح أسئلة محددة من قبيل ما هي وضع الحريات الأكاديمية، وحرية الصحافة والإعلام، وحرية الإبداع والبحث العلمي في بلادكم؟! وما هي حالة التعليم ومستواه وتأثيره، وما هو وضع الطلاب والتلاميذ والنشاطات والحريات المرتبطة بهم؟! ومن الطبيعي أن يتطرق الحديث مع المرشح إلى علاقته هو بكل ذلك ليس من الجانب المهني وممارساته في هذه المجالات، وإنما في علاقته هو شخصيا بالحديث حولها على المستوى المؤسساتي، أي على مستوى الدولة، وعلى مستوى توطينها وفق الطلب الاجتماعي. وبكلمات أكثر تبسيطا “هل شاركت في نشاطات عامة، وكانت لك مطالب معينة لتطوير هذه المجالات، والارتقاء بها وفق متطلبات اللحظة الراهنة، ومتى شاركت آخر مرة في تلك الأنشطة العامة، وماذا قلت؟! وهذه الأسئلة الأخيرة هي الجسر الذي يربط المرشح كقامة مهنية وعلمية وكشخصية مرموقة بمسار الدولة، وجهودها الحقيقية والواقعية في تلك المجالات.

وفي الواقع، فمنظمة اليونسكو لا تطرح هذه الأسئلة، لأنها لا تعرف، وإنما لأنها تعرف جيدا ماذا يدور في تلك المجالات في كل دول العالم تقريبا؟ وفي دول المرشحين على وجه الخصوص، ولكنها تسأل من أجل تبرئة الضمير وغسل اليد من جهة، ولكي تبعث برسالة دبلوماسية وذكية إلى إدارات الدول، بدلا من الملاحظات الخشنة التي تضايق تلك الإدارات وتمنحها ورقة لتجاهل الموضوع الأساسي والالتفاف عليه واتهام المنظمة بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلادها!! وأيضا من أجل ألا تمتشق وسائل الإعلام “العرجاء”، سيوفها الخشبية متهمة المؤسسة بالصهيونية والخضوع لأمريكا والاستعمار، وكراهيتها للعرب والمسلمين والحقد على مصر…