كَتبتُ كثيرًا عن مأزق الرأسمالية العالمية، وكنت -وما زلت- واحدًا من دعاة ضرورة فك الارتباط بالدولار كعلامة للتحكم الأمريكي المنفرد بالاقتصاد الدولي. ولم يكن ذلك يمثل بالنسبة لي تصورًا طوباويًا حَفَزته عاطفة سلبية تجاه السياسات الاقتصادية الأمريكية التي عَاينتُ آثارها، وتابعتُ نتائجها الكارثية شخصيًا في الداخل الأمريكي وفي مناطق أخرى بالعالم، لكنه كان دومًا ما يستند إلى محاولة تحليل علمي لمعطيات واقعٍ مُتعدد المستويات، يأخذ بالاعتبار التأثيرات المُتبادلة للأحداث والعلاقات المُتداخلة للأطراف التي تصنع تلك الأحداث. صحيحٌ أن المُنجزات الإنسانية الكبرى تبدأ بحُلمٍ لتغيير الحال، لكن إن لم يُبْن أساس تلك المُنجزات على قواعد علمية، لتحليل عناصر الواقعٍ موضوعيًا وفق مرتكزات تُراعي مكامن القوة، والضعف والمخاطر والفرص المتاحة والتوقيت المناسب، فقد يصير الحُلم قفزةً في الفراغ يتحول على إثرِها إلى كابوسٍ كَونيٍ مُزعج.

كانت أغلب تعليقات المُحللين التي تناولت مؤخرًا مساعي قوى عالمية، وإقليمية لفك الارتباط بالدولار الأمريكي في ظرف عالمي شديد الاضطراب، مدفوعة في سياقها العام بحالة ثقافية لعبت فيها أمنيات العاطفة المتأثرة بما حاق بالعالم من مظالم السياسات الإقتصادية الأمريكية، دورًا فاق في الاهتمام به أسس التحليل العلمي المُتجرد الذي يَنْفَذ إلى أصول الأزمة (أزمة الرأسمالية العالمية)، بتجليها الأعظم في أمريكا وبما لا يقف عند حدود الظاهرة في صورتها البدائية، أو قِشرتها الخارجية التي تتمثل في عُملةٍ لم تعد تستخدم فقط بغرض التبادل، لكنها امتدت لتصير رمزًا للهيمنة والرغبة العارمة في قيادة العالم بإنفراد. وأنا لا أقدم للقارئ الكريم بهذا المقال دراسة متكاملة عن مستقبل العملة الخضراء، لكني سأقتصر فقط على تسليط الضوء على مجموعة من النقاط والحقائق ذات الأهمية الخاصة، عَلَّها تكون مدخلًا لدراساتٍ أكثر شمولًا ولنقاشاتٍ أكثر تَعمقًا بشأن مسألة “فَك الارتباط بالدولار” شديدة الصعوبة، سواء على مستوى مجتمعات منفردة بعينها أم على مستوى تكتلات دولية عالمية وإقليمية.

وصل تعداد المجتمع الأمريكي وقت كتابة هذه السطور إلى 335 مليون نسمة، يُشَكِل أصحاب الأعمال من الحجم المتوسط إلى الحجم الكبير منهم نسبة لا تزيد عن 5% بما يعني أن نحو 320 مليون أمريكي يقومون بالإنفاق من خلال دخولهم النقدية المتوسطة والمنخفضة -المنتظمة منها وغير المنتظمة- على الاستهلاك بدءًا من الطعام والشراب ووقود السيارات والغاز الطبيعي والكهرباء والمياه وانتهاءً بالملابس، وتعليم الأبناء ناهيك عن الاستثمار متوسط وصغير الحجم في الودائع البنكية والعقارات والأسهم، والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.

يقوم هذا الاستهلاك الضخم على نظام مالي بالغ التعقيد ومتشابك للغاية يمتد بِعَرضِ الكوكب من وول ستريت حتى شنجهاى وطوكيو؛ مرورًا بالباهاماز وبنما وجزر العذراء البريطانية ولندن وزيوريخ ودبي كمراكز وثيقة الصلة تتحرك خلالها يوميًا مليارات الدولارات ذهابًا وإيابًا، والتي يمكن -من خلال شاشة كمبيوتر تقبع على أصغر مكتب فى الاحتياطي الفيدرالي- متابعة كلٍ دولار منها وسواء كان مصدره شرعيًا أم كان غير ذلك (بمناسبة ما هو “غير ذلك”، أشارت منظمة الشفافية الدولية إلى أن تقديرات الثروة العالمية مجهولة المصدر والمُرجح أن تكون غير شرعية تتراوح ما بين 7 تريليون إلى 32 تريليون دولار تم تجميد 2.6 مليار دولار منها فقط وهي قيمة ما تم التأكد بالفعل من عدم شرعيته).

من المهم أيضًا أن نشير إلى أنه رغم أن الدين العام الأمريكي قد وصل وقت كتابة هذه السطور إلى رقم قياسي بنحو 31.7 تريليون دولار (حوالي 10% من إجمالي الدين العام العالمي)، إلا أن حجم الناتج المحلى الأمريكي قد وصل إلى 26.3 تريليون دولار وهو أعلى ناتج محلى في العالم يليه في الترتيب حجم الناتج المحلى الصيني المنافس بنحو 17.6 تريليون دولار والذي ينتجه مجتمع قوامه 1.5 مليار نسمة وهو ما يعني أن نصيب المواطن الصيني من الناتج المحلي لبلاده هو 11.7 ألف دولار بينما نصيب المواطن الأمريكي من الناتج المحلي لبلاده هو 78.5 ألف دولار وهو أمر بالغ الأهمية يثير العديد من الأفكار ويدعو لإعادة النظر في أصول المقارنة وأسس تقييم المنافسة. فحجم ما يقوم المجتمع الأمريكي بإصداره من الدولارات، هو حجم هائل للغاية يتم على أساسه تسعير وتقييم السلع، والخدمات في كل بقاع الدنيا تحت حمايةٍ من قوةِ ردعٍ عسكريةٍ تقليديةٍ وغير تقليديةٍ، مازالت تتمتع بتفوق كبير، مُعَزَزَةً بتحالفاتٍ راسخة متماسكة في كُتل جغرافية بالغة الأهمية، وعظيمة الثروة.

فمن ناحية، ترتبط أمريكا مع دول المركز بحلف استراتيجي لا يمكن للصين -مثلا- أن تحل محل أمريكا فيه، وبالتالي فلا يجب بناء رؤية متكاملة للتعامل مع فك الارتباط بالدولار دون الأخذ بالاعتبار مدى متانة، وصلابة العلاقات الأمريكية بباقي دول المركز وحجم التبادل التجاري بينها، وهو أمر يعزز دومًا من قدرة الدولار ويزيد من الطلب عليه، وبخاصة في تسعير النفط، ولعل هذا الأمر (تسعير النفط)، على وجه الخصوص كان واحدًا من أهم أسباب تعويق التوجه العالمي لمصادر طاقة أكثر نظافة، تزخر بها بعض مجتمعات التخوم التي تسعى للانعتاق من التحكم الأمريكي من خلال فك الارتباط بالدولار، والبدء بوحدات تسعير جديدة. وفي هذا الخصوص، لا أظن أبدًا أن الميعاد الذي تم تأسيسه أُمميًا لعالمٍ خالٍ من الكربون (منتصف 2050) سيتم الالتزام به ليبقى الدولار هو سيد الموقف حتى إشعارٍ آخر.

لا شك، أن الصراع العالمي الدائر حاليًا بأوكرانيا، هو أمر جدير بالاهتمام لدى دراسة دعاوى فك الارتباط بالدولار التي تقتضي نظرة موضوعية لتقدير ما يمكن أن يسفر عنه هذا الصراع الخَطِر من نتائج، قد يأخذنا الحُلم بفك الارتباط بالدولار إلى التغافل عنها في إطار المنافسة الشرسة بين أمريكا والصين، وتأثيرات تدخلهما في هذا الصراع على الاقتصاد العالمي والاقتصاد الداخلى لكلٍ منهما. تفرض الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم حاليًا نفسها، كعائقٍ طبيعي يحول دون سلاسة إتمام فك الارتباط بالدولار، فإجراء مثل هذا لا يمكن تصور حدوثه سوى في ظروف طبيعية؛ لأن عدم القدرة على التنبؤ بمآلات الأزمة الأوكرانية وما ستسفر عنه من تغيير في موازين القوى على أرض الواقع يجعلان من أي حراك على الأرض في اتجاه فك الارتباط بالدولار ضربًا من ضروب المقامرة التى تفتقد إلى ما يلزم من تقديرات علمية لاحتمالات ما بعد انتهاء الأزمة.

المسألة في تقديري أشمل وأعَم من التعامل مع الدولار “كظاهرةٍ”، تمثل تعبيرًا عن شبكة من العلاقات التجارية والسياسية والعسكرية شديدة التعقيد ينبغى فَك الإرتباط بها “كإجراءٍ”، للخلاص من الهيمنة الأمريكية، بل يجب أن يتم التعمق في دراسة آليات تفكيك الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ترسخ الظلم والقهر الدَوليين، وإذلال الشعوب الفقيرة ونهب ثرواتها تحت دعاوى مختلفة، بحيث لا يكون فك الارتباط “الظاهري”، بالدولار -إن حدث- مجرد مقدمة لاستبداله بعُملةِ قوة عالمية أخرى تسعى في إطار الصراع المحتدم، لتكون بديلًا لأمريكا في الهيمنة والسيطرة.

وفق هذا التصور، يتطلب الأمر في مرحلة متقدمة، قيام المجتمعات في سلام،وفي ظروف عادية لا يقف فيها العالم على أطراف أصابع قدميه على حافة الهاوية، بالوصول إلى تفاهمات لتقرير سياسات مالية ونقدية، تسعى لتقريب التشريعات العامة بما يوفر عدالة التوزيع والتبادل، وتطوير أنماط الإنتاج بما يضمن تأسيسًا لتنمية شاملة ومُستدامة بِحق، تقضي على الفقر والجوع والتمييز وتحمى البيئة والمناخ. ربما يمكن، بل ينبغي الاستعداد لتلك المرحلة، بأن تقوم مجتمعات الأطراف التي تسعى للفكاك من أسر الهيمنة بصورها كافة -أمريكية كانت أم غير أمريكية- ببناء احتياطيات من النقد الأجنبي في صورة سلة متوازنة من العملات، تأخذ بالاعتبار مقتضيات الاستيراد والمدفوعات الأخرى، وبذل الجهد لتحقيق ما تيسر من الاكتفاء الذاتي من الغذاء، والمنتجات مع الترتيب للتكتل فيما بينها بغرض الانعتاق من ربقة ديونها السيادية، بالدخول في مفاوضات جماعية مع الدائنين الدوليين لإسقاط تلك الديون تمهيدًا للانطلاق صوب المستقبل على أسس علمية بعدما ينقشع غبار المعارك وتتضح ملامح ما هو قادم.