بشكل مفاجئ، انفجر المشهد السوداني في أعقاب المعارك الدامية، بين القوات النظامية ممثلة في القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، وسط تساؤلات بشأن الأسباب التي دفعت إلى ذلك، رغم اقتراب موعد التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي كان يُعول عليه للانتقال لمرحلة الحكم المدني.

لم تتوقف التساؤلات عند الأسباب التي دفعت المشهد السوداني إلى حافة الهاوية، ولكنها تطرقت إلى مستقبل العملية السياسية برمتها في البلد الذي يعيش أوضاعًا اقتصادية ومعيشية صعبة، في ظل حالة من التجاذب والاستقطاب الإقليمي.

لماذا انفجر الخلاف الآن؟

يمكن تلخيص المشهد المتصاعد في السودان على وقع الاشتباكات، وأصوات القذائف الصاروخية المتبادلة بين قوات البرهان وحميدتي، في أنه صراع محتدم على السلطة بين الرجلين، بعدما وجد كلاهما أن السلطة قد تكون قريبة منه، على ضوء علاقات ومصالح داخلية وإقليمية ربط كل منهما نفسه بها.

في بادئ الأمر، ظن كلا الرجلين أنه من الممكن أن يستخدم الآخر للوصول إلى السلطة، فالبرهان ربما اعتقد أن حميدتي من الممكن أن يكتفي مستقبلًا بدور الرجل الثاني، فيما اعتقد دقلو أن رئيس مجلس السيادة، ربما يزهد في السلطة، أمام حالة الضغط الداخلي من جانب القوى المدنية.

كان من الممكن أن تسير الأمور وفقًا لما خطط له كل منهما، أو أن يصلا إلى صيغة من الشراكة، إلا أن أصحاب المصالح الإقليميين كانت لهم أراء أخرى وفق مصالح كل طرف، وهو الأمر الذي عجل بالانفجار في ظل صراع مصالح القوى الإقليمية على النفوذ في السودان.

في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، نفذ البرهان انقلابًا عسكريًا بمشاركة حميدتي، أطاح خلاله بالمكون المدني الذي كان يتقاسم السلطة مع المكون العسكري لإدارة مرحلة انتقالية، تم الاتفاق عليها بعد فترة من الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019، وتولى البرهان رئاسة مجلس السيادة الانتقالي الحاكم، وكان دقلو نائبًا له وفق اتفاق قائم على المصلحة فقط، ولا يعبر عن شراكة حقيقية، أو رؤية موحدة.

وأمام حالة الرفض الغربي والأمريكي من جهة، وعدم قدرة الأطراف الإقليمية الداعمة لكلا الرجلين (مصر مع البرهان والإمارات مع حميدتي)، على تسويق أيا منهما كحل يحفظ تماسك البلد المضطرب، عدلت أبوظبي خطتها من خلال إعادة تقديم حميدتي المعروف بتاجر الجمال، حيث حاول التقرب إلى المكون المدني عبر تملصه من المسؤولية عن انقلاب أكتوبر، وتحميل المسؤولية كاملة للبرهان.

في فبراير/شباط الماضي، وصف قائد قوات الدعم السريع انقلاب البرهان بأنه “خطأ فتح الباب أمام عودة النظام القديم”، في إشارة إلى أنصار عمر البشير، وهو ما قربه كثير من قوى الحرية والتغيير، التي أصبحت بعض مكوناتها ترى في قوات الدعم السريع “جيشها”، في مواجهة الجيش النظامي الذي تصفه بأنه “جيش الكيزان”، أي جيش النظام السابق.

في الخامس من ديسمبر/كانون أول 2022، وقّعت قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري الاتفاق السياسي الإطاري، الذي تضمّن في مبادئه العامة “التأكيد على جيش مهني قومي واحد ملتزم بالعقيدة العسكرية الموحدة، مع التأكيد على مسألة دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي”، وهو الاتفاق الذي زاد الشقاق بين البرهان وحميدتي، فمن جهة لم يحدد جدول زمني واضح لعملية الدمج، ومن جهة أخرى منح دقلو مكانة مساوية تماما مع البرهان بعد أن كان نائبًا له.

وتسببت حالة الغموض التي فرضها الاتفاق الإطاري في مزيد من الأزمة، بعدما جعلت من وضع قوات الدعم السريع في الاتفاق، الشماعة التي يتمسك بها كل من البرهان وحميدتي؛ لإطالة أمد الفترة الانتقالية، حيث يصر الأول على دمج هذه القوات بشكل عاجل في الجيش، تنفيذًا للاتفاق وشرطًا مسبقًا لقبول القوات المسلحة لتنفيذ الاتفاق، في حين يتحدث الثاني عن قبوله الدمج وفق الجدول الزمني الذي تضمّنه الاتفاق، وهو يعلم بغياب هذا الجدول.

أيضًا، من بين الأسباب التي سرعت بتقاتل الرجلين، كان الإفراج عن موسى هلال، وهو عم حميدتي وينافسه في النفوذ على قيادة القبائل العربية في دارفور، والذي كان مسجونًا بأوامر من البشير

كذلك تسبب قرار البرهان بمنع سفر أعضاء مجلس السيادة الانتقالي من دون إذن منه، في غضب حميدتي معتبرًا أن القرار يأتي ضمن خطة ممنهجة لتقليص نفوذه، ومنعه من ممارسة أدوار سياسية في ملفات المنطقة بشكل يعزز من مكانته.

مستقبل عملية الانتقال السياسي

تقود كافة المؤشرات إلى أن العملية السياسية في السودان، قد دخلت مرحلة التجميد وفقًا لأكثر السيناريوهات تفاؤلًا، وذلك لحين أن تهدأ أصوات البنادق.

وفي هذا الإطار يقول الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي السوداني عمر الطيب إن المعارك الجارية ستضع العملية السياسية في “ثلاجة”، إن لم تكن دخلت غرفة “العناية المركزة”، مستبعدًا في الوقت ذاته استئنافها قريبا.

ويتوقع الطيب أن يفرض البرهان حالة الطوارئ في البلاد، ويعلن لاحقًا عن تشكيل حكومة تصريف أعمال برئيس وزراء مدني ويكلفها بإجراء الانتخابات في فترة لا تتجاوز 18 شهرًا، لافتًا إلى أن قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي سترفض هذه الإجراءات، في حين ستؤيدها أطراف سياسية أخرى، مما يدخل البلاد في حالة التجاذب والصراع واستمرار حالة اللا استقرار.

الدكتورة مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السودانية السابقة، ونائب رئيس حزب الأمة القومي، أكدت في حوار سابق مع “مصر360 “، أن الصراع بين البرهان وحميدتي يمثل التهديد الأكبر للعملية السياسية، مشددة وقتها أن الصراع داخل المكون العسكري نفسه من شأنه أن يقضي على المسار السياسي.

وقالت الوزيرة السابقة: إن ” الصراع بين البرهان وحميدتي يظهر بموجبه استقطابات واضحة ما بين القوى السياسية الداخلية، والقوى الإقليمية التي لديها اهتمام بالسودان”، مشددة على أن تلك الثنائية العسكرية، هي الخطر الأكبر على مستقبل السودان.

المحلل السياسي السوداني النور عبد الله جادين، يؤكد أن الاشتباكات والمواجهات العسكرية بين الجيش، وقوات الدعم السريع ستعطل العملية السياسية التي كانت جارية طوال الأيام، والأشهر الماضية لكن بشكل مؤقت.

ويشدد جادرين على أنه لا يمكن أن يستمر حكم عسكري، أو شمولي في ظل الواقع الذي تشكل بعد الثورة الشعبية، التي أطاحت بالنظام السابق من أجل الديمقراطية، وما أحدثه التغيير الثوري من وعي عند عامة الناس بضرورة الحكم المدني، والحريات العامة والتبادل السلمي للسلطة”.

كما لفت جادين إلى أن ” الواقع الدولي يفرض ضرورة وجود حكم ديمقراطي، يتم فيه تبادل السلطة سلميًا، فضلًا عن أنه لا يمكن أن يستمر نظام حكم في السودان في ظل واقع البلاد الاقتصادي المنهار، وتدهور قيمة الجنيه السوداني ومقاطعة مؤسسات التمويل الدولية مثل، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما، لأن القرارات التي اتخذت في هذا الشأن تقضي بأنه لن يتم التعامل إلا مع حكومة شرعية ذات مصداقية تأتي بتوافق السودانيين، إضافة إلى أن الشعب السوداني والثوار ،والكيانات السياسية لن ترضى بتوقف العملية السياسية التي كانت قريبة من الاتفاق السياسي النهائي، وتشكيل حكومة جديدة يرضى عنها أكثرية السودانيين”.

خريطة المصالح الإقليمية

أمس تحدث الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، عن أهمية دور مصر في تجنيب السودان نتائج الأحداث الجارية، وعن أن بعض المصالح العربية قد تتعارض مع مصالح مصر الأكثر عمقًا في السودان، حسب قوله.

وقال عمرو موسى في تغريدات على صفحته الرسمية على تويتر، الاثنين إن “دور مصر في تجنيب السودان نتائج الأحداث الجارية، يجب أن يكون أساسيًا وصريحًا”، موضحًا أن “الصراحة مهمة مع إخواننا ومع غيرهم ممن نشطوا في موضوع السودان دائمًا أو بالذات مؤخرا”، حسب تعبيره.

وأضاف الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية أن “بعض المصالح العربية قد تتعارض مع المصالح المصرية الأكثر عمقًا في السودان، وكذلك الحال في إفريقيا، هنا يتوقع من مصر وقفة صريحة وجريئة، إذ أن مصالحنا الحيوية في تلك المنطقة بأسرها أصبحت مهددة وعلى المحك”، لافتا إلى إمكانية استغلال إثيوبيا للوضع الراهن في السودان من أجل التأثير على ملف أزمة سد النهضة.

حديث الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى، كشف عن صراع نفوذ من جانب قوى عربية وخليجية في السودان، وإن كان ما بين سطور حديثه يشير إلى الدور الإماراتي هناك، حيث تؤكد أطراف سودانية أن أبوظبي كانت وراء التحرك الأخير لحميدتي، وهندسته بكل تفاصيله، ودعمته عبر كافة الوسائل الإعلامية التي تمتلكها وتمولها.

بخلاف الدور الإماراتي، يأتي الدور السعودي في السودان، والذي تشير كافة التقديرات الواردة من الخرطوم أنه أكثر ميلًا لدعم المؤسسة العسكرية النظامية ممثلة في البرهان، والقوات المسلحة.

في هذا الإطار يشير اللواء دكتور سيد غنيم الأستاذ الزائر بحلف شمال الأطلسي، إلى أن البرهان وحميدتي أقاما علاقات وثيقة مع السعودية والإمارات، حيث قاتلت القوات السودانية المأخوذة من الجيش، وقوات الدعم السريع إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية في الحرب المستمرة منذ فترة طويلة في اليمن، وما زالت قوات عاصفة الحزم تتدرب في قاعدة مروي للآن.

حديث الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى كشف عن صراع نفوذ من جانب قوى عربية وخليجية في السودان

ويلفت غنيم الخبير الاستراتيجي إلى الجهود التي تقودها السعودية قائلًا إن ” السفير السعودي في الخرطوم يواصل التوسط ورأب الصدع بين البرهان وحميدتي، ويحاول محمد بن سلمان ووزير خارجيته دعوة الچنرالين إلى الرياض هذا الأسبوع”.

وبحسب غنيم “تمتلك السعودية النفوذ الأكبر نسبيًا في السودان الآن مقارنة بالإمارات، حيث تقلص نفوذ الإمارات لكنها عوضًا عن ذلك تستحوذ حاليًا على نفوذ أوسع في القرن الإفريقي، خاصة بعد خروج البعثة الإفريقية الانتقالية في الصومال (ATMIS) التابعة للاتحاد الإفريقي، حيث من المنتظر أن تقوم الإمارات بالالتزام بدور مهمة البعثة الانتقالية الإفريقية لتمويل تدريب القوات الصومالية بأموال إماراتية، وليس إفريقية وذلك بتوزيع 18 ألف متدرب صومالي لتدريبهم بدول مجاورة إحداها دولة عربية كبيرة. وبذلك تضع الإمارات نفسها كواحدة من أكثر الدول نفوذًا في منطقة الشرق الأوسط”.

وعن الموقف المصري، يقول غنيم : ” مصر دولة النفوذ الأهم في السودان، لها علاقات متجذرة مع الجيش السوداني، حيث يجري الجيشان مناورات عسكرية منتظمة ترسخت في إبريل/نيسان 2021، وكان آخرها الشهر الحالي”، مؤكدًا أن مصر لا تعترف بقوة الدعم السريع، ولكن دون عداء صريح معها.

وبخلاف الأدوار العربية والخليجية، تبدو إثيوبيا الجارة للسودان لاعبًا فاعلًا في الأحداث هناك، عبر علاقات وطيدة بين حكومة أديس أبابا وقوى فاعلة من المكون المدني، بخلاف حميدتي الذي يعد الأقرب إليها داخل المكون العسكري، وهو ما يشير مراقبون أيضًا لدور إماراتي في هذا التقارب، من خلال العلاقة القوية بين حكومتي أبوظبي وأديس أبابا.