كما حرصت بعض الشعوب على اتباع تقليد سنوي في اليوم الأول من شهر أبريل، تُطلق فيه النكات والشائعات فيما عرف بـ«كذبة أبريل»، دون التاريخ المصري في ذات الشهر ما أطلق عليه المؤرخون «مؤامرة أبريل»، تلك التي جرى حبكها ونسج خيوطها قبل نحو 140 عاما وانتهت بحصار الإنجليز للإسكندرية واحتلال مصر بعد هزيمة العرابيين في التل الكبير.
بدأت المؤامرة، بعدما انفض دور انعقاد أول مجلس نواب مصري بصلاحيات وسلطات حقيقة، في نهاية مارس عام 1882، ثم تحولت إلى أزمة كبيرة إثر تصاعد المواجهة بين حكومة محمود باشا سامي البارودي والخديوي توفيق.
في الأسبوع الأول من شهر أبريل عام 1882، طلب اللواء طلبة عصمت باشا لقاء وزير الحربية أحمد باشا عرابي؛ ليخبره بما وصله من تفاصيل مؤامرة لاغتياله، هو وعدد من قادة الجيش والوزراء، يدبرها بعض الضباط الشراكسة ممن صدرت بحقهم قرارات نقل إلى السودان.
تلقى عرابي الأمر وسارع بعرضه على مجلس الوزراء ثم على الخديوي توفيق، فصدر القرار بإحالة المعلومات إلى مجلس عسكري للتحقيق فيها، بدأ المجلس التحقيق، وسأل من عُرفت أسماؤهم من المتآمرين، فدلوا على غيرهم فقُبض عليهم، حتى بلغ عدد المعتقلين نحو 40 ضابطا وفي مقدمتهم عثمان رفقي باشا وزير الحربية السابق، خصم عرابي اللدود، وسيق المقبوض عليهم إلى ثكنات قصر النيل.
خلال التحقيق اعترف أحد الضباط الشراكسة، وهو القائمقام يوسف بك نجاتي بالضلوع في المؤامرة، وأقر بأن راتب باشا هو مدبرها، وأنه أغرى باقي الضباط في حضور عثمان باشا رفقي بقتل عرابي.
وفي 30 إبريل أصدر المجلس العسكري حكمه على المتهمين بالنفي إلى أقاصي السودان، مع تجريدهم من رتبهم العسكرية والامتيازات والنياشين، وذكر المجلس في حكمه أن الخديوي إسماعيل الذي تم عزله قبل سنوات من الواقعة، وتنصيب ابنه توفيق هو المحرض الرئيسي لهذه المؤامرة، ودعمها من المخصصات التي كانت تصرف له من خزانة الحكومة، لذا أوصى المجلس بالنظر في أمر قطع تلك المخصصات.
في كتابه «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه»، قال المؤرخ محمود الخفيف: إن المؤامرة بدأت بتذمر عدد من الضباط الشراكسة في الجيش، من الإجراءات التي اتخذها عرابي وأدت إلى تخطيهم في الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم.
واتهم الخفيف الإنجليز بالاصطياد في الماء العكر، وتحريض الضباط الشراكسة على عرابي والوزارة الوطنية، لافتا إلى أن قرارات نقل الضباط إلى السودان شملت ستة وثمانين من المصريين وتسعة فقط من الشراكسة فحسب وستة من الأتراك، ويتساءل «أي معنى للكيد والانتقام في هذا؟».
ونقل الخفيف ما كتبه الشيخ محمد عبده، إلى صديقه المستشرق الإنجليزي مستر ألفريد سكون بلنت ليبرئ ساحة عرابي، وحكومة البارودي من التهم التي حاول البعض إلحاقها بهم، «أما عن ترقية الضباط فاسمح لي أن أشرح لك الحقائق، فأول كل شيء أن هذه الترقيات ليست من عمل عرابي باشا وحده، ولا كانت رشوة يقصد بها اجتذاب الضباط نحوه، فإنها كانت نتيجة للقوانين العسكرية الجديدة، التي تقضي بأن يحال على المعاش من يبلغون سنًّا معينة ومن يصابون بالمرض، أو التقاعد أو العجز، وقد بدأ تنفيذ هذا القانون من عهد شريف باشا، ووضع في قائمة الإحالة على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابطا، ثم أُرسل ستة وتسعين إلى حدود الحبشة وإلى زيلع وأماكن أخرى، وأخرج من الجيش نحو مائة ضابط ألحقوا بالوظائف المدنية، ويبلغ عدد هؤلاء جميعًا أربعة وخمسين وسبعمائة ضابطا، فكان من الطبيعي إذن أن تُجرى ترقيات لملء المناصب الخالية، ولا يزال في الجيش خمسون منصبًا يحتفظ بها لخريجي المدرسة الحربية».
وفقا للشيخ محمد عبده، لم يتجاوز عرابي القانون ولم يكن مثيرا للفتن كما زعموا، فالرجل لم يميز بين الضباط المصريين وزملائهم الشراكسة والأتراك، ومع ذلك تآمر عليه هؤلاء الضباط وخططوا لاغتياله.
استغل قنصلا إنجلترا وفرنسا ورجالهما الفرصة، وعرضا بحكومة البارودي بدعوى أنها «قدمت رشوة إلى رجالها في الجيش»، وأحالت الضباط الشراكسة إلى محاكمة ظالمة، وروج رجالهم في الصحافة بأن تلك المؤامرة ما هي إلا «وهم في رأس عرابي»، وأن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الشراكسة بأي وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر، كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير به عرابي.
أما مستر ألفريد سكون بلنت فأشار في كتابه «التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر»، إلى استخدام الإنجليز وأتباعهم في القاهرة لتلك الحادثة للتعريض بعرابي وزرع الفتن بين الحكومة والخديوي «أمدت تلك الواقعة وما جرى حولها الساسة الإنجليز بفرصة طالما ترقبوها، كي يوقعوا الخلاف الصريح بين الخديوي توفيق ووزرائه».
عُرض قرار المحكمة العسكرية على الخديوي فأسقط في يده، أيوافق على هذا الحكم؟ فيظهر أمام الإنجليز أنه يجامل وزراءه فيخسر الذين يدعمونه، أم يرفض التصديق عليه؛ فيرضي الإنجليز ويقضي على كل أمل في إرضاء عواطف قادة الثورة التي كادت أن تفتك به وبحكمه؟
استدعى توفيق قنصلي فرنسا وإنجلترا واستشارهما في الأمر، فأشارا عليه بألا يقر الحكم، وكان من حقه تخفيفه وتعديله دون الرجوع إلى الوزارة، «لكن ما جبل عليه من التردد والضعف جعله يستشيرهما فيما لا دخل لهما فيه، فأثار ذلك سخط العرابيين، وزاد سخطهم أنه شرع أيضا في عرض الحكم على السلطان بحجة أن بعض المحكوم عليهم نالوا منه الرتب العسكرية، فعد العرابيون ذلك تنازلا عن الامتيازات التي نالتها مصر في استقلالها بشئونها الداخلية»، يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي».
وفي 6 مايو عرض الوزراء على الخديوي حسما للخلاف، ومنعا لتدخل السلطان أن يصدر أمره بتعديل الحكم، وأن يستبدل به النفي خارج القطر، على أن يختار المحكوم عليهم الجهة التي يريدونها، لكن الخديوي رفض هذا الحل، بحجة أن الأمر عرض على السلطان، ثم عرض الخلاف مجددا على قناصل الدول الأجنبية، فأشاروا عليه بتعديله، فأصدر قراره بنفي المحكوم عليهم أنى شاءوا خارج القطر المصري مع عدم حرمانهم من رتبهم ونياشينهم.
لم يُحسم الخلاف بين الخديوي والوزراء، إذ ذهب البارودي إلى توفيق، ووجه له اللوم على نزوله على إرادة القناصل الأجانب، وإهماله رأي الحكومة، وطلب منه إضافة عقوبة التجريد من الرتب العسكرية إلى أمر التعديل، فاجتمع الخديوي مرة أخرى بالقناصل الأجانب لاستشارتهم، وانتهى الاجتماع بالإصرار على قراره السابق، فهاج الوزراء واجتمعوا في 10 مايو اجتماعا مطولا، دام نحو 8 ساعات انتهوا فيه إلى وجوب انعقاد مجلس النواب للنظر في الخلاف بينهم وبين الخديوي.
بدا على الحكومة معارضتها الشديدة للخديوي، خلال اجتماعها، حيث أنكروا عليه حق العفو، ولما وصل الأمر إلى توفيق صرح أنه لا يطيق استمرار تلك الحالة التي تمس بامتيازاته، ولما طال الاجتماع قلق قناصل الدول الأجنبية، وجاءوا أثناء الاجتماع، وسألوا عما إذا كان ثمة خطر يتهدد حياة الرعايا الأوربيين، فأبلغهم مصطفى باشا فهمي وزير الخارجية بأن لا شيء يتهددهم، وأعلمهم باستحالة الاتفاق مع الخديوي، وأن الحكومة تنوي دعوة مجلس النواب للانعقاد للنظر في الخلاف القائم.
ويرى الرافعي في كتابه أن قرار دعوة البرلمان للانعقاد كان له خطورته «عرض الخلاف على مجلس النواب مع إصرار الخديوي على موقفه معناه التمهيد لخلعه، وهذا ما كان زعماء العرابيين يتحدثون به في مجالسهم».
لبى أكثر النواب الدعوة، فجاءوا للقاهرة وتعددت اجتماعاتهم الخاصة، وفي 12 مايو 1882 اجتمعوا في مجلس البارودي ومعهم بعض قادة الجيش، وتحدثوا في أمر الأزمة، وكان فريق من النواب يميل إلى حسم الخلاف بالحسنى، ولم يوافق النواب على عقد المجلس بصفة رسمية لعدم مشروعية الاجتماع غير العادي إلا بأمر الخديوي.
وفي 14 مايو زار وفد من النواب الخديوي، وعرضوا عليه استقالة وزارة البارودي وبقاء الوزراء في مناصبهم، وأشاروا عليه بإسناد الوزارة إلى مصطفى باشا فهمي وزير الخارجية، فوعدهم توفيق بالجواب بعد أن يفكر في الأمر، وكلفهم بالرجوع إليه في مساء ذات اليوم، فجاء أعضاء الوفد في الموعد المحدد، وكان الخديوي كعادته قابل قنصلي فرنسا وإنجلترا، إلا أن مصطفى باشا اعتذر عن قبول رئاسة الوزراء.
وفي 15 مايو قابل الخديوي الوفد مجددا الذي عرض عليه استمرار وزارة البارودي؛ حلا للأزمة فوافق وتوجهوا إلى بيت البارودي، وأبغلوه بأن توفيق قبل باستمرار وزارته، ثم ذهبوا جميعا إلى السرايا، وتم تسوية الخلاف مؤقتا ببقاء الوزارة في عملها مع تعديل حكم المجلس العسكري طبقا لما رآه الخديوي، ونشرت الوقائع المصرية القرار في 16 مايو 1882.
انتهت الأزمة مؤقتا، لكن توابعها لم تنته، فالخديوي ضمر في نفسه الانتقام من العرابيين الذين تحدوا قراره وإرادته بشكل معلن، ودعوا مجلس النواب إلى الانعقاد وتجاهلوا سلطاته الدستورية، ما عده إعلان تمرد، وزاد من الأمر سوء ما علمه الخديوي أن الضباط ومن خلفهم الوزارة جاهروا خلال اجتماعهم برغبتهم في خلعه، وتعيين الأمير حليم باشا بن محمد علي خلفا له.
وفي الوقت الذي اشتد فيه الخلاف بين الخديوي والوزارة، قررت إنجلترا وفرنسا إرسال أسطوليهما إلى الإسكندرية، إذ عرض اللورد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا الفكرة يوم 12 مايو على سفير فرنسا في لندن المسيو تيسو، باعتبار أن ما يحدث في مصر ثورة تضر بمصالح البلدين ورعاياهما، وصادفت الفكرة قبول الحكومة الفرنسية، وكان ذلك القرار مقدمة التدخل الأجنبي المسلح في مصر.
وفي مساء الاثنين 15 مايو قابل السير إدوارد مالت قنصل إنجلترا العام وقنصل فرنسا الخديوي مجتمعين وأبلغاه رسميا بأن الأسطولين سيصلان مياه الإسكندرية صباح الأربعاء 17 مايو.
وأذاع القنصلان منشورا بقرب قدوم الأسطولين، «بصفة ودية وبطريق المسالمة»، وبلغ ذلك البارودي باشا رئيس الحكومة، فأرسل إلى محافظ الإسكندرية تلغرافا يخبره فيه رسميا بقرب حضور مراكب حربية أجنبية بطريقة سلمية، «أرجو ألا يحصل بجهتكم توهم وتشويش في الأفكار، إن المودة والألفة بين حكومتنا السنية والدول المتحابة أكيدة».
بدأت البوارج الحربية تصل مياه الإسكندرية صباح يوم الجمعة 19 مايو 1882، وأُطلقت المدافع التحية لقدومها باعتبارها جاءت «بصفة ودية». وفي اليوم التالي نزل القائدان إلى البر مرتديين ملابسهما الرسمية، وزارا محافظ الإسكندرية في مكتبه فرد لهما الزيارة تبعا للتقاليد.
وتوالت الأحداث بعد ذلك وتحولت لغة إنجلترا وفرنسا إلى النقيض، وأغلقت صفحة «الودية والمسالمة»، لتبدأ صفحة «التهديد والوعيد وفرض الشروط المجحفة»، والتي لم تقبلها الحكومة حتى انتهى الأمر باحتلال مصر بعد هزيمة عرابي في معركة التل الكبير.