ساعات وينتهي شهر رمضان، بعدها يتوقف أو على الأقل تنحسر بعض أو كل مظاهر الخير ممثلة في الأعمال الخيرية، وأعمال الإغاثة، ونجدة المحتاج، وتسبيح الغارمين، والعطف على غير المقتدرين، ممن يتلمسون الحاجة الماسة للقمة العيش أو العلاج أو شربة مياه نظيفة أو مسكن ملائم أو ستر فتاة أو سداد دين أو خلافه.
منذ سنوات عديدة توارث الناس في مصر وغير مصر إخراج زكواتهم وصدقاتهم خلال شهر رمضان، لما يعتبر كون هذا الشهر شهر مضاعفة الإثابة عند المولى عز وجل، إذ يرى الناس بداية الحول أو العام الذي يمر على الأموال المستحقة للزكاة والذي من خلاله تبدأ عملية إخراج الزكاة هو شهر رمضان من كل عام، حتى أصحاب المزارع والتي يقول المولى عنهم بإخراج الزكاة يوم الحصاد، يفضل الكثير منهم الانتظار إلى رمضان، كي يخرج هؤلاء زكاة زروعهم من حبوب وغلال وخلافه. من هنا يحتاج الأمر إلى وقفة مهمة لوضع ضوابط، حتى لا تتوقف تلك الأعمال في باقي شهور العام.
سبب آخر للاهتمام بهذا الموضوع، هو أن أعمال الخير هي من الأهمية بمكان ليس فقط لإغاثة المحتاج، رغم أنه هو المستهدف الأول والأخير، ولكن إلى جانب ذلك انتشال الحكومة من عثرتها ومن مسئوليتها الاجتماعية التي باتت تعجزها يومًا بعد يوم، وتعرضها للانكشاف أمام ذاتها وأمام الغير، حتى أنها أصبحت هي ذاتها في حالة عوز. بعبارة أخرى، كيف للحكومة أن تنفذ مهامها المتصلة بالضمان الاجتماعي، وتأمين حياة الناس، وهي تهمل هذا الجانب، أو ترفض تنظيمه، أو تقف أحيانًا في وجهه تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه مثلا.
منذ أكثر من عقدين من الزمان، اعتبرت أعمال الإغاثة في مصر، من الأهمية لدرجة أنها ترفع ثلث الأعباء عن الحكومة في تدبير الحاجات الاجتماعية عن الطبقتين الدنيا والمتوسطة، وإذا كان هذا التقدير لا زال قائمًا، فالسؤال، ألا يكون من الأجدر اليوم أن نخترق هذا المجال كي نحقق له الاستمرارية. بعبارة ثانية، ألا نحتاج من الأعمال الخيرية أن يُخرج بها من طوق شهر واحد، للولوج بها لباقي الشهور، لأن بقاء هذا الأمر على ما هو عليه، لا سيما في مثل تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية الممثلة في ارتفاع الأسعار وانتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر والفقر المدقع المصاحب لخفض قيمة العملة المحلية وارتفاع الدين العام الداخلي والدين الخارجي لمعدلات غير مسبوقة، (كل ذلك) يترك المستهدفين من الأعمال الخيرية -خلال باقي أشهر العام- عرضة للعوز والفاقة والاستدانة والمرض وكشف كل مستور من عيوب وافتضاح ومهانة وإذلال وتعذيب النفس البشرية التى كرمها المولى عز وجل. هنا من المهم أن نذكر أنه في الدولة الإسلامية القديمة، عندما كان بيت المال -الذي أسسه الخليفين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأشرف عليه أولا أبو عبيدة بن الجراح- هو الموكول له توزيع الزكوات والصدقات، كانت تلك المهمة عامة وغير مخصصة في شهر رمضان، حتى أنه في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز كان القائمين على بيت المال لا يجدون فقراء أو محتاجين أصلا بسبب فائض المال بالبيت، وعدم وجود من يحتاجه.
واحد من الأسباب التي تجعل من الضروري اليوم توزيع أعمال الخير على باقي أشهر العام، هو أن هناك مناسبات عديدة وظروف كثيرة يكون المواطن الأكثر احتياجًا في أمس الحاجة ليد المساعدة. خذ ولاحظ على سبيل المثال، حالة الكثير من الطبقتين الدنيا والمتوسطة خلال شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام، وهم يصرخون من مصروفات بدء دخول الأبناء المدارس. إذ رغم أن تلك المدارس حكومية، إلا أن الحاجة إلى رسوم العام الجديد واستلام الكتب أو التبرعات التي باتت ديدن مدراء تلك المدارس من أولياء الأمور، بسبب فقر وعجز موازنة وزارة التربية والتعليم رغم النسبة الدستورية المخصصة للتعليم في الموازنة والتي لم تنفذ إلى اليوم، ناهيك عن الدروس الخصوصية التي لا غنى عنها في باقي أشهر العام الدراسي اللاحقة، كل ذلك يعد ظرف مهم لا يرتبط بشهر رمضان.
المؤكد أن كثير من المانحين –إن جاز استخدام هذا التعبير غير الدقيق- اعتادوا تصعيب الأمور على أنفسهم، فهم عادة لا يميلون إلى منح أموال الزكاة إلى مؤسسات خيرية خاصة، فهم يفضلون أن يقوموا بأنفسهم بذلك العمل الشاق، المتضمن البحث والتحري والتمحيص في ظروف كل طالب حاجة، ومن ثم فإن التخلي ولو جزئيا عن هذا الأمر هو من الأهمية للخروج من شرنقة رمضان، لأن رمضان هو مناسبتهم الفريدة للقيام بهذا العمل بشكل فردي. صحيح أن بعض المانحين يلجأون إلى غيرهم من الأفراد لمساعدتهم في البحث في هذه المحافظة أو تلك عن اليتيم، أو طالبة الزواج، أو الغارم، أو المريض، أو حتى الجائع، لكن هم يقومون بكل ذلك أيضًا في شهر رمضان بشكل رئيس. رجال الأعمال أنفسهم وفي مشهد إعلامي دعائي فج، لا يخلو من إذلال الناس ومهانتهم، رغم أن الزكاة فرض وليست هبة، هؤلاء يعدون مئات الآلاف من “كراتين” المواد التموينية خلال شهر رمضان فقط، لتوزيعها أمام الكاميرات، رغم أن البحث عن فرص عمل للمحتاجين ربما يقي هؤلاء من فقر البطون أكثر من “كراتين” الغذاء، التي تنتهي خلال بضعة أيام.
على هذا الأساس فنحن في حاجة إلى خطاب ديني قوي ومستمر من قبل المؤسسة الرسمية الأزهر والإفتاء، حتى لا يركز المانحون أعمال الخير في رمضان. بالطبع دور المساجد والأوقاف هنا معتبر في إيصال تلك الرسالة، من خلال خطب الجمع. إضافة إلى ذلك فإن الإعلام بكل أنواعه من مكتوب ومرئي وحتى المسموع مثل إذاعة القرآن الكريم، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي، كلها يجب أن تحمل رسالة عدم التقيد بشهر رمضان في أعمال الخير. ولا غرو أن نفس الرسالة تنطبق على المسيحيين، فعلى الكنيسة هي الأخرى أن توصى أبنائها بتوزيع العشور دون التركيز على الإطلاق على وقتي عيدي الميلاد والقيامة مثلًا، بمعنى أن يبقى العمل الخيري موزعًا على جميع أشهر العام من قبل المسلم والمسيحي على السواء. هب مثلا لو أن فكرة تقرير توزيع مبلغ مستحق قدرة 12 ألف جنيه يقع على عاتق شخص ما كزكاة أو عشور، أليس من الأجدر والأفضل أن ينفق هذا المال بمعدل ألف جنيه كل شهر للمستحقين بدلًا من أن ينفق في أيام ومناسبات محددة؟.
واحد من الأمور المهمة التي تشجع المانحين على الخروج من شرنقة رمضان، هو رؤيتهم للرقابة الشديدة التي يجب فرضها على مؤسسات المجتمع المدني الكبيرة المخصصة لتوزيع الزكوات والصدقات، لا سيما الجمعيات الخيرية. بعبارة أخرى، إن إشعار المانحين (إن جاز التعبير) بأن تلك الجهات مأمونة ومكفول لها القيام بهذا العمل بشفافية كاملة هو من الأمور التي تدعم الثقة في النقلة الفكرية للمانح لإخراج زكاة ماله بعد أو قبل رمضان عبر تلك الجهات، ودون أن يكلف نفسه عناء البحث عن المستحق في وقت محدد. هناك بالطبع مؤسسات خيرية لها جهات راعية لا غبار عليها، مثل بيت الزكاة والصدقات المصري التابع للأزهر الشريف، والذي يشرف عليه شيخ الأزهر، لكن هناك حاجة للمزيد من الجهات، بعيدًا عن الجمعيات التي تنفق الكثير على الدعاية في قنوات التليفزيون خلال رمضان نفسه، أي أن سلوكها ذاته يدعم “شرنقة رمضان”، وهذا الأمر يكرس الوضع القائم ولا يغيره.
أمر آخر، وهو أن توسع الجهات والمؤسسات الخيرية المانحة مجالات الاستفادة من أموال الزكاة التي تقوم بتجميعها، لما هو خارج نطاق كفالة اليتيم أو زواج الفتيات أو إعانة المريض، كي تزيد على كل ذلك تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر للمحتاجين، بل وطالبي العلم الأشد فقرًا، هو أمر مهم للغاية. بعبارة أخرى، أن تضع جهات العمل الخيري المختلفة ضمن أهدافها انتشال الناس من الفقر كمبدأ، وليس مجرد إنقاذ موقف وقت العوز، أي تقديم علاج أو زواج أو إعداد وجبة طعام. هنا من المهم التأكيد أن دعم المشروعات وطالبي العلم هي أمور تنتشل الناس على المديين المتوسط والبعيد من الفقر أصلا.
شيء آخر، هو توعية الناس دومًا، بعدم منح زكواتهم وصدقاتهم للمتسكعين في الشوارع، وهم أناس يستغلون رغبة بعض المانحين في تسهيل وتيسير مهمة البحث عن المحتاجين والمستحقين. وهذا الأمر ينتشر في شهر رمضان على وجه الخصوص، حيث يظهر الكثير من الناس في أزياء معينة على قوارع الطرق والنواصي وإشارات المرور. هنا لا يدعم المانح والمتسكع معًا فكرة “شرنقة رمضان” فحسب، بل إنه يمنع مد يد العون للمستحق الفعلي للزكاة أو الصدقة، لذلك يجب محاربة هؤلاء بشتى السبل القانونية والفردية المشروعة.