ارتفعت معدلات التضخم بوتيرة غير مسبوقة تاريخيًا تؤكدها بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وقد زاد التضخم العام إلى أكبر زيادة له منذ 5 سنوات. كما زاد التضخم الأساسي -الذي يستبعد أسعار المواد غير المستقرة- إلى أعلى رقم له منذ إطلاق المؤشر. وهو ما يتضح جليًا في جميع مناحي الحياة، حيث يكابد المصريون موجة من الغلاء لم يواجهونها من قبل.

تشير البيانات إلى أن التضخم في الطعام والمشروبات وصل إلى 61%. بينما وصل في سلع بعينها إلى 320%. وهو ما يشكل خطرًا على الشرائح الأفقر، التي لا تتمكن من توفير احتياجاتها الأساسية، وكانت نسبتها من إجمالي المصريين تقترب من الثلث قبل عامين، وفقا لأحدث تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

الحكومة تعلق هذا التضخم بشماعة الحرب الروسية الأوكرانية، معللة بأن مصر تستورد تقريبًا 40% من غذائها من الخارج. وينصح المسئولون بالاستغناء عن السلع التي ترتفع أسعارها، أو البحث عن بدائل بروتينية بدلًا من الدواجن واللحوم -“أرجل الفراخ” كانت ضمن هذه البدائل المطروحة شبه رسميًا كبديل للبروتين.

في هذا التقرير نحلل ونرصد زيادة السلع الغذائية في كل محافظة وفي الريف والحضر وفقًا لنوع السلعة، وهل تزداد الأسعار مرة أخرى أم لا؟ ولماذا زادت سلع تحقق أو تقترب فيها مصر من تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر من سلع مستوردة؟ ولماذا زادت بعض السلع في الريف بشكل أكبر من الحضر؟ مع أنّها تنتج أو تزرع في الريف؟ وما هي أسباب الأزمة؟ وما هي آلية الخروج منها؟

وفقًا للبيانات، فإن الزيادة انعكست بشكل واضح على جميع مناحي الحياة وفي جميع الخدمات، وهو ما يجعل الشرائح الفقيرة تتأثر بارتفاع الأسعار بشكل أكبر من غيرها، ليس لمحدودية دخولها وحسب، ولكن لأن أكثر الخدمات تأثرًا بالتضخم كانت الطعام والمشروبات. فقد قد وصل التضخم السنوي إلى أكبر زيادة سنوية 61.8 في فبراير 2023.

الخبير الاقتصادي د/وائل النحاس
الخبير الاقتصادي د/وائل النحاس

يقول الخبير الاقتصادي د.وائل النحاس إن “هناك مشكلات تسببت في زيادة أسعار الغذاء مثل وجود سلع غذائية وحبوب موجودة في المواني لم يفرج عنها، هذا بخلاف عدم قدرة الدولة على ضبط إيقاع السوق الداخلي أو المحلي، وأيضًا المستجدات اليومية الخارجية التي تؤثر على الاقتصاد المصري. وكل هذا ينعكس على التضخم وفي النهاية على جيب المواطن”.

يرى “النحاس” ضرورة الحذر عند معالجة التضخم. وهو يصف ارتفاعه بأنه يشبه “السوستة المضغوطة”، نتيجة التعامل غير الحرفي في إدارة الأزمة.

مريم وهي عاملة زراعية وأم لـ3 أولاد من محافظ الشرقية، دخلها الشهري لا يتجاوز 3 الآف جنيه. تقول: “في العام الماضي كنت أذهب للسوق بـ100 أو 150 وكنت أشتري جميع متطلبات المنزل بالخضار لفترة تكفي اسبوع أسبوعين، أما الآن، فإن نفس المبلغ الـ150 جنيه لا يكفي إلا لشراء البطاطس والطماطم وباذنجان”.

وتكمل “أحتاج على الأقل 300 أو 400 جنيه على الأقل لشراء متطلبات المنزل الأسبوعية من الخضار فقط!، كل الخضروات سعرها ارتفع حتى التوابل، في العام الماضي كنت أشتري التوابل الأسبوعية بـ5 جنيهات الآن أحتاج إلى ثلاثة أضعاف المبلغ أو أربعة أضعافه وفقًا لكل بائع، لأن السعر يختلف من بائع لآخر.. لم أعد أستطيع شراء اللحوم والأسماك بعد تضاعف سعرها تقريبًا”.

تشير بيانات “المركزي” إلى أن التضخم في الطعام والمشروبات هو ما رفع معدل التضخم العام، وقد تأثرت معظم أنواع الطعام الرئيسية بزيادات كبيرة، وكان أبرزها تأثرًا الأرز، والخبز، واللحوم والدواجن، والألبان والجبن والبيض، والبصل والعدس.

وبلغ متوسط بيع كـيلو الأرز البلدي 21 جنيهًا في شهر فبراير/ شباط 2023 مقابل سعر بيع 10 جنيهات في فبراير/ شباط 2022، بنسبة ارتفاع قدرها 114.2. كما بلغ متوسط بيع كيلو الدواجن 83.60 جنيه مقابل 34.6 جنيه في الفترة نفسها. وهو ما يعني أننا أمام زيادة وصلت إلى 141.6%، وقد وصلت نسبة الزيادة في كيلو البصل إلى 320%.

*اضغط على الفلتر للتنقل بين الأنواع المختلفة: بالضغط على كل عمود تتمكن من معرفة الزيادة بالجنيه

وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن الشرائح الأكثر فقرًا تنفق ما يقارب نصف دخلها على الطعام والشراب مقارنةً بالشرائح الأخرى الأعلى، وتقل النسبة قليلًا في الشريحتين الثانية والثالثة الواقعتين تحت خط الفقر، ولكنها تبقى قريبة من نصف النفقات.

وبحسب أحدث بيانات الجهاز “بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2020″، فإن 29.7% -أي حوالي 31 مليون مواطن- يعيشون تحت خط الفقر الوطني (857 جنيه للفرد الواحد شهريًا)، المبلغ الذي فقد أكثر من نصف قيمته نظرًا لتحرير سعر الصرف أكثر من مرة في العامين الماضيين. وهو ما يعني زيادة عدد الواقعين تحت خط الفقر وهم غير القادرين على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية من طعام وشراب ومسكن وملبس وخدمات تعليمية ورعاية صحية ونقل.

يقول “النحاس” إن “مصر ستشهد مزيدًا من ارتفاع الأسعار، سواء كان ذلك بسبب تأزم الوضع الداخلي أوبسبب تأزم الحرب الروسية الأوكرانية”.

ويوضح “النحاس” أنه مع أي تأزم جديد فيما يتعلق باتفاقية حبوب البحر الأسود، فإن هناك أزمة جديدة مرشحة لأن تواجهها مصر التي لم تتخط حتى الآن عقبات الأزمة الماضية. الآن.

تقول أحلام وهي ربة منزل من محافظة الإسماعيلية، إنها لم تعد قادرة على الذهاب للسوق إلا مرة واحدة شهريًا، وباقي الشهر لا يوجد ما يكفي من الأموال لتأمين بعض متطلباتها الأساسية. “أحاول أن أتكيف مع هذا الوضع بشراء القليل من الباعة الجائلين عن طريق الاقتراض من الجيران لشراء السلعة الضرورية فقط حتى تراكمت عليا ديون لا استطيع الإيفاء بها”.

أحلام ليست الوحيدة في هذا الأمر. إذ يعاني 70% من سكان الريف تقريبًا من أزمة نفاذ الغذاء، وعدم وجود ما يكفي من الأموال لشراء المزيد، وكذلك هي الأزمة في الحضر، بنسبة تقارب 65%. ما يعني أن نسبة تتجاوز النصف وتقترب من الثلثين من المصريين تعاني حاليًا من انعدام الأمن الغذائي، حسب تعريف منظمة الأغذية والزراعة، وفق استطلاع رأي الباروميتر العربي للدورة السابعة 2021/2022.

 

يختلف التضخم من محافظة لأخرى، فقد بلغت نسبة الزيادة السنوية في منتج “البصل” -على سبيل المثال- في محافظة بني سويف إلى 320%، بينما كانت في محافظة كفر الشيخ 7.2%.

ووفقًا للبيانات، فإن أكثر المحافظات تضررًا بارتفاع أسعار الغذاء في حضر الجمهورية هي محافظة جنوب سيناء، تليها محافظات المنيا والبحيرة والإسكندرية.

وفي الريف كانت أكثر المحافظات تأثرًا هي كفر الشيخ، حيث بلغ متوسط نسبة التغير السنوي في الطعام والشراب إلى 78%. وهو أعلى تغير سنوي في كل المحافظات، سواء كان في الريف أو الحضر. وجاءت بعدها محافظات دمياط والبحيرة والمنوفية.

تقول “أحلام”: “كنت أشتري كيلو الأرز بـ10 جنيه العام الماضي. لكن الآن بلغ سعر كيلو الأرز 30 جنيه، أحتاج إلى ثلث مرتبي لشراء الأرز فقط، في العام الماضي كنت بـ150 جنيه فقط أشتري جميع متطلبات البيت من الطعام، هذا العام 400 جنيه تكفي الخضار فقط، كيلو الفلفل بـ20 جنيهًا! كيلو الفراخ بـ85 جنيه!، كنت أشتري الفرخة بـ60 جنيهًا!! الآن أصبحت بـ 200جنيه ولا أستطيع الاعتراض على سعرها”.

“في رمضان الماضي كنت أشتري 20 فرخة قبل رمضان وأخزنهما لينا طوال الشهر، يكفونا أكل وعزومات. هذا العام لم أتمكن إلا من شراء 7 فرخات اشتريتها بالسلف.. حاولت قدر الإمكان الاستغناء عن بعض السلع. لكن ماذا عن المدارس والأدوية والملابس”؛ تضيف “أحلام”

وفق مسح أجراه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية على عينة من 6 آلاف أسرة فقيرة أو قريبة من الفقر في مناطق مختلفة داخل مصر، جاءت الإجابات بأن 85% خفضوا استهلاكهم من اللحوم، و75% خفضوا من استهلاكهم للبيض، و73% خفضوا استهلاكهم من البيض، و61% من السمك و60% من الألبان.

وقد أظهرت نتائج المسح أن انخفاض الاستهلاك يرجع إلى عوامل اقتصادية أبرزها غلاء الأسعار. وهو ما يتضح في لجوء البعض إلى زيادة استخدام بدائل بروتينة أخرى مثل المعكرونة والبطاطس، فقد زاد الاستهلاك المنزلي من البطاطس وأنواع المعكرونة غير المدعومة بين 21% و 14% وفقًا للمسح.

ويعدّ التحول من الأطعمة الغنية بالبروتين إلى الأطعمة الأقل تغذية أمرًا صعبًا، لأنه قد يؤدي إلى زيادة نسبة سوء التغذية التي وصلت إلى 5% وفقًا لبيانات البنك الدُّوَليّ،

ويعاني 43% من الأطفال في مصر من مرض الأنيميا وفقًا لبيانات المسح الصحي للأسرة المصرية ويؤدي إلى تفاقم معدلات زيادة الوزن والسمنة المرتفعة فعلًا في مصر، التي ترتبط بدعم المواد الغذائية والاستهلاك المرتبط بها. وهو ما يعني أن الأسر المصرية ستواجه صعاب هائلة في عام 2023، مما سيمنع الكثيرين من الخروج من دائرة الفقر.

هذا وقد شهدت مجموعة من السلع زيادات غير مبررة نظرًا للاكتفاء الذاتي منها أو لتوافرها في المناطق بشكل كبير، على سبيل المثال زادات سلعة الأرز زيادة سنوية كبيرة، مع أنّ مصر تحقق الاكتفاء الذاتي منه، وتحقيق فائض بنحو 400 ألف طن.

ووفقًا للبيانات التي حصلنا عليها من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن الزيادة في الأرز بلغت 194% في ريف محافظة البحيرة و181% في محافظة جنوب سيناء 187% في محافظة مطروح. والغريب في الأمر وجود زيادة سنوية ضخمة بلغت 174% في محافظة كفر الشيخ. مع العلم أنها توفر ربع إنتاج مصر من الأرز.

يعلق “النحاس” على تضخم أسعار الأرز في محافظة كفر الشيخ على الرغْم من كونها تمثل ربع إنتاج مصر من الأرز، بأن مواطني كفر الشيخ يعتمدون بشكل أساسي في دخلهم على زراعة الأرز وصيد الأسماك، ومع ارتفاع تكلفة مستوى المعيشة يمرر المزارعين والتجار التكاليف والزيادة على المنتج النهائي.

ويضيف: “لو جيت شوفت سعر السمك البلطي دلوقتي وصل لـ 90 جنيهًا والأرز أيضًا وصل إلى 31 جنيهًا. التجار واخدين قروض من البنوك واتعثروا مع الأزمة الاقتصادية، فحمّلوا خسائرهم على المنتج النهائي. وللأسف فقدنا العصر الذهبي الذي يستطيع المواطن فيه تحمل كل التقلبات والأزمات”.

كيف واجه المصريون الأزمة؟

وفقًا لنتائج مسح المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية تمثلت استراتيجيات المصريين في مواجهة التضخم في عدد من الخطوات:

إيقاف سداد الديون (84%)، يليه التحول إلى أطعمة وعلامات تجارية منخفضة الجودة (70%)، وتقليل استهلاك الغذاء (47%). وقد اضطرت نسبة كبيرة من الأسر كذلك إلى خفض النفقات على الصحة (43%) والتعليم (25%) وبيع المجوهرات والذهب (10%).