لم يكن الشرق الأوسط بمنأى عن أحداث الغزو الروسي لأوكرانيا المستمرة لعامها الثاني منذ اندلاعها في فبراير/ شباط من العام الماضي؛ إذ تسببت الحرب بشكل مباشر في زيادة أسعار الحبوب وعلى رأسها القمح والذرة، كون الدولتان المتصارعتان تُمثلان 30% من إمدادات القمح في العالم.

تُحاول هذه المادة تقديم قراءة في تطور/ تعمق علاقة الدول العربية بروسيا خلال الفترة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، مقابل زيادة مساحة الجفاء مع الولايات المتحدة الأمريكية والتي بدأت تسحب نفسها من الشرق الأوسط منذ العام 2010، فيما عُرف باستراتيجية التحول شرقًا.

روسيا.. سلة غذاء الشرق الأوسط

في 18 من مارس/ آذار الجاري، مُددّت مبادرة حبوب البحر الأسود 60 يومًا أخرى، وهي الصفقة التي توسطت فيها الأمم المتحدة لتسهيل الملاحة الآمنة لصادرات الحبوب والمواد الغذائية والأسمدة من المواني الأوكرانية.

كانت مبادرة الحبوب التي بدأ تنفيذها في يوليو/ تموز الماضي، واحدة من المجالات القليلة التي تمكّنت فيها الحكومتان الروسية والأوكرانية من التوصل إلى اتفاق بشأنها، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط العام الماضي.

منذ توقيع المبادرة، تم نقل ما يقرب من 25 مليون طن متري من الحبوب والمواد الغذائية إلى 45 دولة، وكان لها الفضل في المساعدة على تهدئة أسعار المواد الغذائية العالمية، التي وصلت إلى مستويات عالية في مارس/ آذار 2022. وبعد عام من تنفيذ المبادرة، بدأت الأسعار في التراجع إلى أن انخفضت بسنبة 18% مقارنة بأسعار بداية الغزو.

تعتمد بلدان الشرق الأوسط المُستوردة للقمح، على اختلاف مستويات مداخيلها، على حبوب القمح الروسي والأوكراني في تغطية استهلاك شعوبها للحبوب. إذ استوردت مصر العام الماضي 5.9 مليون طن من القمح تُمثل نصف وارداتها من روسيا، ومثلها الجزائر ثاني أكبر مُستورد للقمح في إفريقيا التي استوردت نصف هذه الكمية من روسيا.

كما باتت المملكة العربية السعودية عميلاً مهمًا لسوق الحبوب الروسي، إذ بلغ حجم استيرادها من القمح خلال عام 2022/ 2023 قرابة 2 مليون طن. ولم يختلف الوضع كثيرًا في الإمارات العربية التي استوردت من روسيا نحو 318.52 ألف طنًا من القمح تُمثل نحو ثلث وارداتها خلال عام 2020/ 2021.

وفي الأردن أيضًا لازالت روسيا تُمثل رقمًا مهمًا في وارداتها من الحبوب خاصة القمح، إذ استوردت الأردن نحو 300 ألف طن من القمح الروسي، ونحو 470 ألف طن من الشعير خلال عام 2020/ 2021.

كيف تأثرت الأسواق العربية؟

اختلفت تبعّات الغزو الروسي لأوكرانيا على دول الشرق الأوسط، إذ استفادت دول الخليج العربي المصدّرة للنفط من زيادة أسعاره وارتفاع عوائده على موازنات هذه الدول، الإمارات والسعودية والكويت وقطر، في حين تكبدت موازنات دول الشرق الأوسط غير المصدرة للنفط أموالًا إضافية لشراء الحبوب التي زادت أسعارها، أو لمعالجة آثار التضخم الذي ارتفع في جميع البلدان دون استثناء.

في مصر، كانت الفاتورة الأكبر، حيث تكبدت الحكومة المصرية قرابة 465 مليار جنيه كتأثيرات مباشرة وغير مباشرة نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا. وبحسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، فإن الاقتصاد المصري تكلف نحو 130 مليار جنيه تأثيرات مباشرة للأزمة الراهنة تمثلت في أسعار السلع الاستراتيجية والوقود بالإضافة إلى أسعار الفائدة والسياحة.

الخسائر الكبيرة جاءت نتيجة ارتفاع أسعار القمح بمستويات عالية جدًا خلال الفترة الماضية بسبب حرب أوكرانيا، وبلغ سعر الطن 435 دولارًا مقابل 270 دولارًا قبل هذه الأزمة. كما تكبد الاقتصاد المصري فاتورة تقدر بنحو 335 مليار جنيه كتأثيرات غير مباشرة ممثلة في زيادة الأجور والمعاشات والحماية الاجتماعية بالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية.

وفي الأردن زاد عجز الموازنة خلال الشهور العشرة الأولى من عام 2022 إلى نحو 1.78 مليار دينار “نحو 2.5 مليار دولار”، بما يوازي نسبة 6.3% من إجمالي الناتج المحلي الأردني.

ويرتبط الأردن بعلاقات تجارية متوسطة الحجم مع روسيا، وخلال الشهور الـ11 من عام 2021 استورد الأردن ما قيمته 255.8 مليون دولار من روسيا، مقابل صادرات بنحو 2 مليون دولار فقط.

أما الجزائر، فعلى العكس، كانت الحرب الروسية سببًا في زيادة وارداتها، استفادت بشكل مباشر من أزمة الطاقة الأوروبية جراء العقوبات الغربية على الغاز الروسي، حيث يُشكل الغاز الجزائري أكثر من ربع الاستهلاك في كل من إسبانيا وإيطاليا، كما تعتبر المؤسسة النفطية الجزائرية “سوناطراك” ثالث أكبر مورّد لأوروبا بعد روسيا والنرويج.

وقدرت الشركة وصول عوائد النفط والغاز خلال عام 2022 إلى قرابة 50 مليار دولار، مقارنة بـ 34 مليار في 2021. كما تتوقع الإحصاءات الرسمية الجزائرية تسجيل صادرات قياسية في القطاعات غير النفطية قد تبلغ 7 مليارات دولار.

وساهم تشجيع إشراك جهات أجنبية في قطاع الطاقة الجزائري في دفع عجلة الاستثمار وتطوير مشاريع جديدة. وفي يونيو/ حزيران الماضي، أعلنت الجزائر عن اكتشاف جديد في أكبر حقل للغاز، “حاسي الرمل”، ليضاف ما بين 100 مليار إلى 340 مليار متر مكعب من الغاز المكثف إلى مخزون البلاد، مع توقعات برفع حجم الإنتاج بحوالي 10 ملايين متر مكعب يوميًا بدءًا من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

أما دول الخليج العربي، فقد استفادت من الزيادات السعرية في أسعار النفط. ففي منتصف العام الماضي، وصل سعر البرميل إلى أكثر من 120 دولارًا، قبل أن يتراجع إلى نحو 85 دولارًا خلال الأيام الماضية من شهر إبريل/ نيسان الجاري.

كما توقع صندوق النقد الدولي، أن الدول المُصدرة للنفط في الشرق الأوسط ستُحقق نحو 1.3 تريليون دولار إضافية من عوائد النفط خلال السنوات الأربع المقبلة، وهذا سيعني تحقيق دول الخليج فوائض مالية في موازنتها للمرة الأولى من عام 2014.

تحالف خليجي روسي

ومع ذلك، فإن التأثير الأبرز للغزو الروسي لأوكرانيا، كان توثيق التحالف بين دول الخليج وروسيا، وظهر ذلك جليًا في اتفاق تحالف أوبك بلس “الدول المصدرة للنفط إضافة لروسيا” على خفض إنتاج النفط بما يمثل حوالي 2% من إنتاج النفط العالمي حتى نهاية العام الحالي. وتُنتج مجموعة أوبك بلس نحو 40% من النفط الخام عالميًا.

وجاء قرار أوبك بلس  في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعدزيارة تاريخية قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السعودية أكبر دولة مصدرة للنفط والزعيم الأبرز في منظمة أوبك. وصبّ هذا القرار في مصلحة روسيا بشكل مباشر للوقوف في مواجهة العقوبات الغربية عليها.

ثم وفي شهر إبريل/ نيسان الجاري، قررت الدول الخليجية الكبرى الثلاث “السعودية والإمارات والكويت” خفض إنتاجها اليومي بإجمالي 772 ألف برميل يوميًا، بدءًا من مايو/ أيار المقبل حتى نهاية العام الجاري. واتخذت العراق صف الدول الخليجية والجزائر أيضًا التي خفضت إنتاجها بشكل طوعي بنحو 48 ألف برميل يوميًا.

وكانت روسيا خفضت إنتاجها من النفط بمقدار 500 ألف برميل يوميًا أيضًا خلال اتفاقها مع الدول المصدرة للنفط، كما مددّت ذلك حتى نهاية العام الجاري. وبذلك بلغ حجم الخفض في إنتاج أوبك من النفط إلى نحو 3.7% حسب ما نقلت سكاي نيوز عن حسابات أجرتها وكالة رويترز.

ووصفت روسيا قرار خفض إنتاج النفط، بأنه يصب في مصلحة قطاع الطاقة العالمي، للحفاظ على أسعار النفط والمنتجات النفطية عند المستوى المناسب، سواء كانت البلدان الأخرى راضية أم لا، في إشارة لمعارضة الولايات المتحدة لقرار أوبك، بحسب المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف.

خبير الشأن الروسي ونائب رئيس الدراسات في مؤسسة كارنيجي للسلام، أندرو إس فايس، قال إن قطع الإنتاج الآن يذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا :”إجمالًا، انحازت هذه الدول بشكل فعال إلى الكرملين، الأمر الذي مكّن نظام بوتين من إعادة ملء خزائنه والحد من تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية”.

إضافة لذلك، اصطفت الإمارات إلى جانب الهند والصين في فبراير/شباط من العام الماضي في رفضهم لمشروع قرار أمريكي لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ويطالب إياها بسحب قواتها من أوكرانيا أثناء جلسات مجلس الأمن. وهو المشروع الذي نال تأييد 11 دولة عضوة بمجلس الأمن، بينما امتنعت الدول الثلاث السابقة عن التصويت.

فيما لخص الكاتب الصحفي، عبدالباري عطوان، الموقف السعودي من روسيا، بأنه “مؤيد” للغزو الروسي لأوكرانيا، ومتحديًا للولايات المتحدة، مدللًا على ذلك بالبيان الختامي الذي صدَر في أعقاب اتّصال هاتفي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، ونصّ صراحةً على حِرص المملكة على الالتِزام باتّفاق تحالف أوبك بلس حول كميات إنتاج النفط الذي تقوده إلى جانب روسيا، في رفض واضح للضغوط الأمريكيّة لزيادة الإنتاج لخفض الأسعار، وتخفيض الضغوط على الاقتصاديات الغربية.

القمح مقابل الروبل

مصر، التي هي من أكثر الدول تأثرًا بارتفاع أسعار الغذاء، حاولت العمل على تخفيف الأزمة العالمية، من خلال الاتفاق مع روسيا على التعامل بالعملات المحلية للبلدين في المعاملات التجارية. إذ اتفقت الدولتان في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، على اعتماد الروبل الروسي والجنيه المصري على ذلك، بعدما قرر البنك المركزي الروسي اعتماد الجنيه المصري ضمن تسع عملات أخرى في تحديد الأسعار الرسمية للروبل الروسي.

القرار الجديد يسمح لروسيا باستخدام الروبل والجنيه في المعاملات التجارية بين البلدين، بدلًا من الدولار الأمريكي. ويُقدر حجم التبادل التجاري بين البلدين قرابة 4.7 مليار دولار طبقًا لبيانات عام 2021.

وتعتمد مصر بشكل كبير على القمح الروسي في تلبية احتياجاتها، واستوردت مصر من روسيا وحدها نحو 4.2 مليون طن قمح بقيمة 1.2 مليار دولار بنسبة 69.4% من إجمالي واردات مصر البالغة 6.1 مليون طن خلال الـ11 شهرًا الأولى من عام 2021، بحسب بيانات الحكومة المصرية.

توصيفات استعمارية لممارسات الخليج

تجاوزت الدول الخليجية أزمة ارتفاع أسعار الغذاء عالميًا والذي بلغ خلال شهر مارس/ آذار من العام الماضي 17.9% حسب مؤشر أسعار الأغذية لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وذلك عبر سياسة شراء الأراضي في الدول النامية واستغلالها اقتصاديًا.

وتكشف ورقة بحثية أعدتها جامعة جورج تاون حول استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في الأراضي الزراعية بالخارج، أنه نتيجة لاعتماد الدول الخليجية على الواردات الغذائية لسد احتياجاتها، بدأت سياسة شراء أراضي في البلدان النامية واستغلالها لصالحها.

وتُوضح الورقة، أن تلك السياسة بدأت عقب ارتفاع أسعار المواد الغذائية في ظل الأزمة العالمية بين 2007 و2008 والفرض المفاجئ للرقابة على الصادرات من جانب بعض الشركاء التجاريين الرئيسيين.

لذا، كان أحد الخيارات البديهية أمام بلدان مجلس التعاون الخليجي شراء أراضي في بلدان أخرى من أجل زراعتها ثم إعادة إرسال المنتجات إلى أسواقها المحلية، وقد تعرضت تلك الاستراتيجية لانتقادات واسعة إذ اُعتبرت ضارة بالأمن الغذائي في البلدان النامية المستضيفة لتلك الاستثمارات، ووصُفت بالاستعمار الاقتصادي الاستغلالي، بحسب ورقة جامعة جورج تاون.

بعض الأراضي المشتراة من جانب الدول الخليجية في البلدان النامية

وقد مكّن هذا الاستثمار دول الخليج من توفير منتجات غذائية بأسعار أرخص، وعدم تعرضها لمشاكل في الأمن الغذائي، وظهر ذلك جليًا في احتلال دول الخليج مراكز متقدمة على مؤشر الأمن الغذائي الصادر عن مؤسسة Deep Knowledge Analytics عن الربع الثاني من العام الماضي.

وتصدرت الإمارات، الدول العربية بعدما حلّت في المرتبة 26 عالميًا، تلتها قطر في المرتبة الثانية عربيًا و29 عالميًا، ثم البحرين في المرتبة الثالثة عربيًا و30 عالميًا، وسلطنة عمان في المرتبة الرابعة عربيًا و41 عالميًا، ثم السعودية في المرتبة السادسة عربيًا و44 عالميًا، بعدما سبقتها الجزائر على هذا المؤشر.

في النهاية، يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا غيّر أو عدل من وجهة تحالفات دول الشرق الأوسط إزاء الولايات المتحدة إلى روسيا، بعد سنوات من القطيعة مع الشرق. وبدا موقف الولايات المتحدة أكثر ضعفًا من ذي قبل قياسًا بموقف روسيا الحالي رغم تضرر اقتصادها بسبب الحرب.