ما الذي قد يحدث للسودان إذا امتدت الحرب لأيام وأسابيع أخرى في شوارع عاصمته الخرطوم وعلى امتداد أراضيه؟

هذا سؤال جوهري يطرح نفسه على وقع الترويع والتقتيل ووطأة الكوارث الإنسانية التي تضرب مواطنيه.

القضية ليست من ينتصر أو يخسر في تلك الحرب بين الجنرالين “عبدالفتاح البرهان” قائد الجيش و”محمد حمدان دقلو” الشهير بـ”حميدتي” قائد قوات الدعم السريع.

كلاهما عبء لا يحتمل على مستقبل السودان ومصيره.

أخطار التفكيك تطرح نفسها مجددا على بلد مستنزف وهش اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا وتتناوشه صراعاته العرقية والجهوية.
هنا موضع الخطر الماثل تحت النيران المشتعلة.

في هدنة اليوم الواحد، التي أعلنت بواسطة أمريكية، بدت الخروقات الواسعة تعبيرا عن عمق التناقضات بين حلفاء الأمس وانسداد الأفق السياسي على أية تسوية محتملة قابلة للصمود والبقاء.

هدنة موقوتة في بلد أوضاعه هشة يجد مصيره معلقا على حسابات متناقضة دوليا وإقليميا وداخليا دون أن تتبدى أمامه فرصا مؤكدة للوقوف مجددا على أرض صلبة في أي مدى منظور.

بالحساب الإنساني لا تتوانى التقارير الدولية عن رصد انهيار الأوضاع الصحية وخروج المستشفيات تلو بعضها الآخر من الخدمة، كأننا أمام أحكام إعدام بالجملة على أعداد يصعب حصرها من المواطنين.

إذا كانت الحياة كادت تستحيل بعد خمسة أيام فقط بشح في المياه وانقطاع للكهرباء وأية خدمات ضرورية أخرى، فماذا قد يحدث إذا تمددت الحرب إلى تخريب بنية الحياة نفسها؟

وبالحساب السياسي، اغتيلت العملية السياسية ويصعب عودتها للحياة في ظل الجنرالين المتحاربين.

إذا كسب أحدهما الحرب، وتصور أن بوسعه أن يملي إرادته المنفردة، فهو واهم.

وإذا ما تصور المجتمع الدولي، رغم كل تناقضاته، أنه يمكن جمعهما على مائدة واحدة للتباحث في المستقبل، فإنه الوهم مجسدا.

مرحلة كاملة في التاريخ السوداني الحديث انتهت ولا سبيل إلى العودة إليها مهما استبدت الأوهام بأصحابها.

كلاهما، “البرهان” و”حميدتي” انتهجا النظرة ذاتها للثورة السودانية التي أطاحت في (11) إبريل (2019) ثلاثين سنة من حكم “عمر البشير”، صعدا معا إلى السلطة العليا بعدها وعملا معا بكل طريقة ممكنة على إجهاض هدفها الرئيسي: نقل السلطة إلى المدنيين.

تصور “البرهان” أن بوسعه من موقعه على رأس مؤسسة الجيش إعادة إنتاج نظم الحكم العسكرية، أو أن يحكم منفردا كأسلافه “إبراهيم عبود” (1958- 1964)، و”جعفر النميري” (1969- 1985)، و”عمر البشير” (1993- 2019).

رغم أن النظم العسكرية أطيحت جميعها بثورات وانتفاضات شعبية أعقبتها حكومات مدنية سرعان ما سقطت بانقلاب عسكري جديد، وهي ظاهرة يطلق عليها في الأدبيات السودانية “الباب الدوار”، إلا أن الحكم العسكري بقى ماثلا فوق السطح وتحته.

الجديد هذه المرة أن الجيش لم يكن وحده من ينازع على السلطة، فقد نشأت في أحضان نظام “البشير” قوة عسكرية موازية أطلق عليها قوات الدعم السريع.

بصورة أو أخرى فإننا أمام إرث “البشير” مجددا.

هكذا برز “حميدتي” منازعا على السلطة، باسم ما يحوزه من قوة عسكرية موازية، رغم أنه لم يدخل أي كلية عسكرية في حياته ولا حاز أي قسط من التعليم يعتد به، وبداياته ارتبطت بتجارة الإبل.

في ظل “البشير” والحرب في دارفور وجد طريقه للصعود من ضمن ميليشيا “الجنجويد” سيئة الصيت، التي ارتكبت فظائع وجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمة الجنائية الدولية.

كلاهما انقلب على “البشير” دون إيمان بالثورة التي أطاحته، تقاسما السلطة دون أفق سياسي مشترك، ادعيا الإيمان بأهدافها في بناء دولة مدنية وحاولا بالوقت نفسه الانقضاض عليها مرة بعد أخرى في جرائم ومذابح طالت نشطائها.

قاما سويا بانقلاب عسكري مباشر على أول وآخر حكومة مدنية بعد الثورة، التي كان يترأسها الدكترور “عبدالله حمدوك”.

قبل الحرب مباشرة حاول كلاهما أن يستقطب المشاعر العامة لصالحه بالادعاء أنه مع مدنية الدولة والاتفاق الإطاري وملتزم بالعملية السياسية.

نحن أمام شخصيتين انقلابيتين، الأولى بإرث المؤسسة رغم محدوديته، والثانية بطموح جامح رغم قلة تأهيله.

كلاهما حاول الاستثمار إلى أقصى حد ممكن في تناقضات “قوى الحرية والتغيير” رافعة الثورة السودانية، التي سرعان ما تفككت وانقسمت وتراجع حضورها.

البدايات بشرت بنخبة سودانية جديدة شابة وحديثة قبل أن تتقوض الرهانات الكبرى.

الخطأ الجوهري، الذي ارتكبته “قوى الحرية والتغيير”، أنها طلبت وألحت وفرضت تمديد الفترة الانتقالية لأربع سنوات بظن أنها في حاجة إلى وقت كاف لكسب الانتخابات العامة عندما يجئ وقتها، أو حتى لا تعود القوى التقليدية للحكم من جديد وتكرر قصة الفشل المعتادة.

وافق ذلك الطلب الملح أهواء ورغبات “البرهان” و”حميدتي”، فالفترة الانتقالية الطويلة تسمح لهما بالبقاء على رأس السلطة الانتقالية رئيسا للمجلس السيادي ونائبا للرئيس.

في اختبار السلطة تمزقت الصفوف المدنية وجرى التلاعب بوحدتها، وكانت العواقب وخيمة.

رغم تلك التشققات حافظ الشارع السوداني على حضوره داعيا دون توقف إلى تسليم السلطة للمدنيين.

تبارى الجنرالان “البرهان” و”حميدتي” في بذل الوعود دون أدنى جدية، وكانت نقطة الارتطام بينهما: “الاتفاق الإطاري”.

حاول “حميدتي” أن يفسره لصالحه بالتركيز على ما يصب في صالح تدعيم مركز قواته في معادلات الدولة والمستقبل والتحلل بالوقت نفسه من مشروع دمجها في الجيش.

البرهان يطالب ألا تزيد فترة الدمج عن عامين، فيما “حميدتي” يطالب أن تمتد لعشر سنوات!

كان ذلك تعبيرا عن نوايا الطرفين قبل انفجار الحرب في شوارع الخرطوم وبامتداد البلد كله.

لم يكن الانفجار محض شأن سوداني.

بتعبيرات دبلوماسيين سودانيين في الجامعة العربية فإن ما يحدث شأن سوداني يحله السودانيون وحدهم.

الحقيقة أن التدخلات الإقليمية والدولية أوضح من أن تخفى، الجيش يعرب عن خشيته من إدخال أسلحة لمن بات يطلق عليهم صفة المتمردين.

بالمقابل أعربت قوات الدعم السريع عن خشية مماثلة من تدخلات إقليمية مضادة.

بثقل الحقائق الجيواستراتيجية فإن السودان موضوع صراع عليه باختلاف العصور والتحديات.

بأي نظرة جادة للصراع على البحر الأحمر، السودان حاضر ومؤثر.

وبأي نظرة إلى القرن الإفريقي، السودان طرف أصيل في تفاعلاته وأزماته.

بالنسبة لمصر، فإنه قضية مصير وأمن قومي وارتباط تاريخي يستحيل فصمه.

أهمية السودان بالنسبة لمصر لا تلخصها أزمة السد الأثيوبي.

بتراجع الدور المصري وزنا وحضورا منذ اتفاقيتي “كامب ديفيد” تداخلت قوى دولية وإقليمية عديدة في الملف السوداني استهدافا لمصر وعملا على عزلها عن عمقها الإفريقي في السودان.

خسارة الظهير السوداني في أزمة سد النهضة الأثيوبي يعني بالضبط أن تكون مصر وحدها في العراء التفاوضي، لا سند في جوار مباشر ولا دعم قاري متوقع ولا أحد في العالم مستعد أن يتحرك بالنيابة.

قبل أن تنفجر نيران الحرب بدت زيارة رئيس الوزراء الأثيوبي “أبي أحمد” للخرطوم داعية للتساؤل عن مغزاها في توقيتها وإذا ما كان “البرهان” يتحلل من أية التزامات سابقة مع مصر.

بتوقيت مقارب استدعت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى الخرطوم، التي كان يطلق عليها “عاصمة اللاءات الثلاثة- لا صلح لا تفاوض لا اعتراف” مخاوف حقيقية عن المستوى الذي قد يصل إليه التغلغل الإسرائيلي عند منابع النيل.

كلا الجنرالان المتحاربان تربطه علاقات وصلات معلنة وغير معلنة مع إسرائيل، وقد كان مثيرا للالتفات أن الدولة العبرية عرضت ضمن من عرضوا جهود الوساطة بينهما لتسوية الأزمة.

كان احتجاز (30) ضابطا وجنديا مصريا مكلفين بمهام تدريبية في مطار “مروي” وفق بورتوكول مع الدولة السودانية داعيا لتساؤل إضافي عن مغزى ذلك الاستهداف في الساعات الأولى للاشتباكات.

لم يكن ذلك عملا غير مقصودا تتحمله قوات “حميدتي” وحدها.

هناك محرضون ومستفيدون آخرون.

سلامة أولادنا لها الأولوية، غير أن التعبير بوضوح عن الغضب واجب وطني في كل حساب وإعادة النظر في السياسات والتصرفات المتبعة بشأن الأمن القومي واجب وطني آخر أكثر إلحاحا وأهمية.