شكّل انعقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بشأن السودان، مؤشرا واضحا على مركزية السودان في المصالح المصرية، واهتمام القاهرة بكل ما يجري في السودان بسبب عدد من المعطيات، جلها يرتبط بعدد من الملفات الاستراتيجية المصرية. منها، تصاعد التهديدات الأمنية الناتجة عن الصراع الداخلي السوداني، وذلك على محاور كل من سد النهضة وأمن البحر الأحمر، والسيولة السياسية في ليبيا. فضلا عن تنامي الظاهرة الإرهابية في كل من شرق وغرب إفريقيا. وكلها ملفات يتم تقديرها من جانب الجيش المصري بأنها مهددات مؤثرة بامتياز على الأمن القومي المصري بشكل شامل.
في هذا السياق، يمكن اعتبار تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن عدم التدخل في الشئون السودانية، واعتباره موقفا داخليا لا علاقة لمصر بأي من أطرافه المتصارعة، أحد المحددات الرئيسية في قراءة الموقف المصري، خصوصا على الصعيد العسكري. حيث أنه من الواضح أن القاهرة -وعلى عكس التوقعات- لن تدعم طرفا عسكريا ضد آخر، وذلك على الرغم من وجود قوات عسكرية مصرية في السودان، تم تحديد دورها من جانب الرئيس في مهام تدريبية.
وقد تكون هذه التصريحات ردا. ربما على مزاعم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” بوجود طائرات أجنبية تدك مواقعه، خاصة في البحر الأحمر. وهو ادعاء يجد أرضية له في المجال العام السوداني، ويتم عكسه في وسائل الإعلام العالمية، وغالبا ما يتم نسبه لمصر من جانب أطراف إقليمية لها مصلحة مباشرة في توتر العلاقات المصرية- السودانية. وذلك على الرغم أن حميدتي لم يوثق هذه الادعاءات.
كما أنه -حميدتي- قد بلور تقدير موقف يفيد بأن القاهرة سوف تتدخل لصالح القوات المسلحة السودانية. وربما هذا ما دفع رتل من عرباته المدرعة نحو مطار مروي عشية الأحداث، وهو الأداء الذي ساهم في انطلاق الرصاصة الأولي في الاشتباكات الراهنة بالسودان.
وإذا كان اجتماع وبيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، قد حدد الموقف العسكري المصري بشكل واضح. فقد أعلنت مصر، أيضا، موقفا سياسيا واضحا من طبيعة المعادلة السياسية الحاكمة في أي عملية سياسية مستقبلية في البلاد الشقيقة، وذلك طبقا لما قال به مندوب مصر في الجامعة العربية في الاجتماع الطاري الذي انعقد على خلفية الأحداث في السودان. حيث طرح مندوب مصر نقطتين، الأولى أن مصر تدعم شراكة بين المدنيين والعسكريين في الفترة الانتقالية، والثانية الدعوة لعدم التدخل الدولي في الشأن السوداني، تأسيسا -ربما- على علاقة قائد قوات الدعم السريع بروسيا، والتي تستدعي استنفارا أمريكيا. وهو ما يدخل الأزمة السودانية في نفق الصراع الدولي، ويوسع حالة الاشتباك الراهن ولا يحجمها.
وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع التقدير المصري الرسمي، الذي يتمسك بدور مشارك للمكون العسكري السوداني، فيبدو أنه قد تم بناءه على ثلاثة معطيات.
الأول، أن حالة السيولة السياسية السودانية ومتطلبات الموقع الجيوسياسي للسودان لا تحتمل انفراد المكون المدني بقيادة التفاعلات السودانية، في ضوء واقع الانقسام والتنافس التاريخي بين مكوناته.
والثاني، أن أطراف من المكون المدني تبدو متأثرة بالفاعل الدولي الغربي، إلى حد استفزاز عناصر النظام القديم، الذي يملك قدرات اقتصادية وعسكرية، ويعبر عن قواعد اجتماعية من الخطأ الاستهانة بطبيعة تأثيرها على الأمن الداخلي السوداني.
أما المعطي الثالث، فهو أن قطاعا من المكون المدني السوداني، وهو الداعي للتحول الديمقراطي، قد استعدى مصر بأداء سياسي قد لا يملك الخبرة المطلوبة له. كما أنه متأثر بحمول تاريخية في العلاقات الثنائية، وتقدير ممتد بأن مصر -بالضرورة- داعمة للقوات المسلحة السودانية، تحت مظلة نظام حكم مصري انتمى للمؤسسة العسكرية منذ عام 1952.
ويمكن القول إن السيناريو الأكثر رعبا للقاهرة هو الانزلاق للحرب الأهلية الشاملة في السودان. وذلك بطبيعة تداعياتها على الأمن الإقليمي من ناحية، وخطورة أن تتحول إلى أحد مفردات الصراع الدولي المترتب على الحرب الروسية- الأوكرانية من ناحية أخري. وكذلك لتداعياتها المتوقعة بشأن نزوح سكاني سوداني نحو مصر، بدأ بالفعل مع انهيار حكومة عبد الله حمدوك، وافتقاد وجود حكومة سودانية تقوم بمهامها الوظيفية، بما عطل القطاع التعليمي وأضعف القطاع الصحي. وهما المفردتين الرئيستين المؤثرتين على حياة الناس اليومية.
في هذا السياق، تطرح القاهرة وساطات سياسية تأخذ بعين الاعتبار مفردات الصراع في السودان، وتنوعها السياسي والعرقي من ناحية، وحالة التضاغط الإقليمي بشأن السودان من ناحية أخرى. حيث طرحت مبادرتين، الأولى بشراكة مع دولة جنوب السودان، والثانية بشراكة مع دولة الإمارات. وذلك بعد وضوح دخول الاستقطابات الإقليمية على خط المبادرة الأولى.
وقد تأسست المبادرة مع دولة جنوب السودان، على أن كل من طرفي الوساطة يملكان علاقات مباشرة ومؤثرة بطرفي الصراع السوداني الراهن. كما أن دخول الرئيس سلفا كير في هذه الوساطة يعني تأثيرا، ليس فقط على محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع، ولكن كير، أيضا، يملك علاقات متميزة بأطراف سلام جوبا من الفصائل المسلحة الدارفورية، الذين سوف يكون لهم أدوارا متوقعة، سواء في حالة السلم أو اتساع حالة الاشتباك والانزلاق إلى حرب شاملة.
كما يوفر وجود الرئيس سلفا كير في هذه المبادرة مخاطبة لحالة التنوع العرقي السوداني، المنعكسة على المعادلة السياسية الداخلية. وقد وجد التحرك المصري تحركا مضادا، ومتوقعا، من جانب أديس أبابا، تحت مظلة منظمة “الإيجاد” التي أعلنت عن تحرك رئاسي إفريقي مشترك للتهدئة في السودان.
جذب الرئيس سلفا كير خصما من القاهرة، فضلا تواجد كل من رئيسي كينيا وجيبوتي في مبادرة “الإيجاد”، وذلك في أداء إثيوبي يحرص على محاولة تقويض كل دور مصري في السودان التاريخي، والحرص على تصنيف السودان كبلد إفريقي الانتماء، وليس متنوعا يتم احترام الوزن والوجود العربي فيه. حيث تم تحييد مصر في كل أزمة سودانية أو شرق إفريقية، كما تم مقاومة أي محاولة للتواصل والتوافق مع دول شرق إفريقيا، أو وجود قوات مصرية لحفظ السلام في هذه المناطق. وهو ما نجحت مصر في اختراقه أحيانا، وفشلت في أحيان أخري.
أما المبادرة المصرية الثانية، فهي مع دولة الإمارات، وتتأسس على فعالية الأخيرة في السودان بعد ثورة 2018، وبناء قواعد ارتكاز لها هناك على الصعيدين السياسي والاقتصادي مؤسسة على أمرين. الأول، اعتبار البحر الأحمر يملك أهمية استراتيجية للإمارات، والثاني، طبيعة اتجاهات شركة موانئ دبي للاستحواذ على موانئ ومناطق اقتصادية على شواطئ البحر الأحمر، تلبية لشروط التنافس الخليجي- الخليجي من ناحية، ولتحقيق مصالح اقتصادية ومالية من ناحية أخرى.
وتملك الإمارات على الصعيد السياسي بعض الأوراق المؤثرة على المعادلة السودانية، منها علاقات ممتازة مع حميدتي قائد القوات الدعم السريع تصل لحالة الكفالة. وذلك لطبيعة أدواره في كل من حرب اليمن، وكذلك حصول الإمارات على معدن الذهب في السودان من الأراضي التي يسيطر عليها حميدتي.
كما يمثل وجود د. عبد الله حمدوك في الإمارات فرصة مناسبة لأن يلعب دورا في إطار المبادرة المصرية- الإمارتية المشتركة، وأيضا مجهودات التهدئة ومحاولة وقف إطلاق النار. كما أن الرجل مرشح للعب أدورا مستقبلية في العملية السياسية السودانية المستهدف استمرارها في حال النجاح في وقف إطلاق النار. وذلك تأسيسا على خبرته العملية في التعامل مع التضاغط وحالة التنافس الداخلي السوداني.
أما على المستوي المصري، فإن أوراق القاهرة تبدو متنوعة على المستويين السياسي والعسكري. على الصعيد الأول، فإن علاقات القاهرة ماثلة في القوي السياسية السودانية، والشخصيات التي حضرت ورشة القاهرة في فبراير/ شباط الماضي. وهي كل من فرع من الحزب الاتحادي الأصل بقيادة جعفر الميرغني، والفصائل الدارفورية المسلحة. أما على المستوي العسكري، فإن لديها توافق مع القوات المسلحة السودانية مؤسس على عقيدة عسكرية متقاربة.
إجمالا، يبدو أن توقيت طرح المبادرات، أيا ما كانت معطياتهم أو أطرافهم الشريكة، وكذلك البحث في آليات تفعيلهم -سواء من جانب مصر أو غيرها- هو مرتبط لحد كبير بالموقف الميداني على الأرض لكل طرف، ومدي تحقيقه لأهدافه التي توفر له وزنا مناسبا -طبقا لتصوراته- على أي مائدة مفاوضات قد تكون مرتقبة. وذلك بالتوازي مع احتمال انزلاق السودان لحرب أهلية شاملة على الجغرافيا السودانية.