من الصعب التعامل مع الأزمة السودانية بمعزل عن الأزمة الليبية، وعن طموحات وأدوار كل من روسيا وتركيا في ليبيا والسودان، وعن مستقبل وتوزيع القوى في شرق أفريقيا والبحر الأحمر.
هذا المشهد يُظْهِر مصر بين فكي كماشة من الجنوب والغرب، بينما تشكل الضغوط الخليجية عليها عبء من الشرق والجنوب الشرقي، ولا يمكن فصل هذه الضغوط عن تحركات كل من روسيا وتركيا.
هناك مقالات وملفات تناولت الطموحات والأدوار الروسية في السودان وفي شرق أفريقيا والناحية الغربية من البحر الأحمر، بما في ذلك تحركات فصائل شركة “فاجنر” التي ظلت موسكو الرسمية تنكر علاقتها بها منذ عام 2007، غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا أظهر أن هذا الكيان جزء من المنظومة العسكرية- الأمنية الروسية، وأحد أذرعها الضاربة في الخارج، وبالذات في أفريقيا.
هذا إضافة إلى ملف “الذهب” السوداني والعلاقة الوثيقة لروسيا به، وإصرار موسكو على التواجد بأي شكل وبأي صيغة في أفريقيا وفي غرب البحر الأحمر. وفي أسوأ الأحوال إن لم تتمكن من التواجد وشغل أي فراغات، فمن الممكن أن تثير الفوضى في تلك المناطق وتحولها إلى ساحة صراع مع الغرب.
اقرأ أيضا: هل الأصابع الروسية تساهم في غزل اشتباكات السودان؟
من سواكن التركية إلى القاعدة البحرية الروسية
شهد عام 2017 تحركات كارثية للرئيس السوداني المخلوع عمر البشير الذي كان يشعر بدنو أجله فأراد أن يكوِّن تحالفات تنقذ نظامه، أو على الأقل تنقذه شخصيا. فلم يجد إلا روسيا وتركيا. فقام بزيارة إلى روسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، أسفرت عن اتفاقه على إقامة قاعدة بحرية روسية في السودان. وفي 25 ديسمبر/ كانون الأول 2017، حصلت تركيا أيضا على حق إدارة جزيرة “سواكن” السودانية، لإعادة تأهيلها لتصبح مدينة سياحية هامة على البحر الأحمر. وهي تبعد نحو 70 كم عن بورتسودان، التي تحتوي على الميناء الرئيسي في السودان حاليا. وتمتلك “سواكن” موقعا استراتيجيا هاما. فهي تقع الساحل الغربي للبحر الأحمر، شرقي السودان، وتعد جزيرة محمية، حيث أنها تقع وسط مدينة سواكن، وبها طريق واضح من سواكن إلى جدة. وتعد سواكن “جزيرة مرجانية”، انهارت منازلها وعمرانها، وتحولت إلى أطلال وحجارة تحكي ثراء تاريخ غابر. ووجود جزيرة “سواكن” داخل لسان بحري، جعلها ميناء استراتيجيا هاما.
هناك بعض الأساطير التي ارتبطت دوما بتاريخ “سواكن”، حيث ربط كثيرون بين التسمية وبين كلمة “سجون”، حيث كانت سجنا لكل من “الإنس والجن” في عهد النبي سليمان وبلقيس ملكة “سبأ”. ولكن البعض أشار إلى أن التسمية ترجع إلى “سوا- جن”، حيث أنهم رأوا أن مبانيها الضخمة لا يمكن أن يبنيها إلا الجن. كما يتداول الكثيرون أحاديث عن أساطير عديدة مرتبطة بالجزيرة، حول الحيوانات الخاصة بها وامتلاكها قدرات خارقة. غير أن المهم هنا هو “سواكن العثمانية” التي أصبحت عاصمة للدولة العثمانية في الحبشة منذ عام 1517، بعد أن غزاها السلطان سليم الأول، ثم انضمت في وقت لاحق إلى ولاية “الحجاز”، خاصة وأن الطريق البحري إلى جدة، كان هو طريق الحج الرئيس لمعظم القارة الأفريقية. ثم تم ضم الجزيرة إلى مصر، خلال فترة حكم محمد علي، بمقابل مادي وجزية، ثم تم ضمها فيما بعد إلى الخديوي إسماعيل في مصر بمقابل مادي يمنحه للسلطنة العثمانية، ولكن تم إهمال الجزيرة خلال الاحتلال البريطاني، في إثر فشل الثورة المهدية عام 1899، لأن ميناءها لم يكن يصلح للسفن الكبيرة.
وهناك أيضا “سواكن القطرية”. إذ يبدو أن تطوير “سواكن” والاستفادة منها جعل عدد من الدول، يسعى لاستغلالها، خاصة وأن موقعها استراتيجي بصورة كبيرة على البحر الأحمر. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، كشفت تقارير أن قطر تقدمت بطلب إلى الحكومة السودانية لإدارة “سواكن”. ووعدت الدوحة بإنشاء ميناء جديد بها لتجعله منافسا لبورتسودان، وكافة الموانئ على البحر الأحمر. ولكن الحكومة السودانية لم توافق على الطلب القطري. وفي نفس عام 2017 قررت حكومة الرئيس البشير منح حق إدارة سواكن إلى حكومة الرئيس أردوغان، لتعود الجزيرة إلى الحكم العثماني مجددا. لكن خلع البشير كان أقرب من تحقيق الحلمين الروسي والتركي.
الصراع بين حميدتي والبرهان
في مايو/ أيار 2021 ظهرت معلومات تفيد بوجود صراعات مكتومة (كانت تتم إدارتها حتى هذا التاريخ بعقلانية)، يمكن أن تتحول لإجراءات شديدة الخطورة في السودان بين قائد قوات الردع السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” ومعه مليشيات الجنجويد النظامية، وبين الفريق عبد الفتاح البرهان ومعه القوات المسلحة. وفي الحقيقة، كانت المعلومات تدور حول تحركات “قطرية- تركية” لدعم حميدتي من أجل التمرد على القوات المسلحة وتفكيكها أو في أحسن الأحوال السعي إلى إعادة هيكلتها بما يضمن وجود قوى مسلحة أخرى في البلاد مدعومة من دول إقليمية معروفة. بينما كانت القاهرة تدعم وحدة القوات المسلحة السودانية في مواجهة أي مخططات شبيهة بما هو مذكور أعلاه. تزامن ذلك مع مؤشرات لوجود عمليات استقطاب غير مسبوقة في داخل السودان وبأيدي قوى خارجية. وكان من الواضح أنه في حال تحقق أي من المخاوف أعلاه، أو في حال نشوب صراع حاد، فإن ذلك قد يؤثر على وضع السودان بعد رفعه من قوائم الإرهاب، وانفتاح القنوات لحصوله على مساعدات وتمويلات واستثمارات ودعم، وخروجه إلى العالم بوضع جديد يساهم بدرجات ملموسة في تحسين أوضاعه، وفي إمكانية حصوله على مساحة من حرية الحركة وسيادة القرار. أي ببساطة يمكن أن يعود السودان إلى وضعه السابق، أو إلى وضع أسوأ منه. الأمر الذي قد يجبر أي سلطة جديد على تنازلات إقليمية ودولية ليست في صالح السودان كدولة، وليست في صالح السواد الأعظم من الشعب السوداني.
تزامنا مع هذه المواجهات المكتومة كانت موسكو تعول على حميدتي الذي يبدو أنه كان يتمتع بثقة لا بأس بها من جانب موسكو ومن جانب مجموعات “فاجنر” التي تتعاون معه في داخل السودان في عدة مجالات منها المعلن ومنها الخفي. وليس مصادفة أن يقوم حميدتي بزيارة لموسكو في 23 فبراير/ شباط 2022، وهو اليوم الذي سبق بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي الحقيقة، كانت زيارته في غاية الأهمية، لأنه أدلى بتصريحات نارية، على رأسها نيته إقامة قاعدة بحرية روسية في السودان. وهي أوراق اعتماد مهمة لدى موسكو. إضافة إلى أنه أظهر جانبا من توجهاته بالنسبة لدول المنطقة. ويبدو أنها راقت لموسكو التي تفضل سياسات دق الأسافين والاستفادة القصوى من التناقضات. وكانت رؤيته عدوانية للغاية في اتجاه القاهرة.
إن زيارة حميدتي لموسكو جاءت بعد حوالي 50 يوما فقط من استقالة عبد الله حمدوك رئيس وزراء الحكومة الانتقالية في السودان (ترأس الحكومة خلال الفترة من 21 أغسطس/ آب 2019 إلى 2 يناير/ كانون الثاني 2022)، وبعد الأحداث المؤسفة التي جرت له واعتقاله وتعميق الشقاق والتناقضات بين “قوى الحرية والتغيير” في السودان وبين المكون العسكري بشقيه (الجيش وقوات الردع السريع). وكان هذا الخبر من أسوأ الأخبار الإقليمية والعالمية التي عكست ماذا ينتظر السودان خلال الأشهر المقبلة. إذ كان من الواضح أن هناك من يُعَقِّد الأمور في السودان لصالح البرهان من جهة، ولصالح حميدتي من جهة أخرى. وذلك على خلفية التصدعات والانشقاقات التي يعاني منها المكون العسكري الذي كان موحدا منذ قليل ضد حمدوك وضد “قوى الحرية والتغيير”. وظهرت مخاوف إضافية بشأن تشتت مكونات السودان بين روسيا وتركيا وأثيوبيا، مع الإضرار المباشر بمصالح مصر، وعلى رأسها ملف سد النهضة، والملف الأمني المصري عموما على الاتجاهين الجنوبي والغربي. وتطورت المخاوف لتصل إلى أن ما حدث في ليبيا من جانب كل من تركيا وروسيا للإضرار بمصالح الدولة الليبية وبمصالح دول الجوار، يمكن أن يتكرر في السودان أيضا في حال بدأت الصراعات بين أجنحة المكون العسكري، وتهميش “قوى الحرية والتغيير”.
اقرأ أيضا: إنذار في واشنطن.. السودان ينزلق إلى الفوضى
الظهور الروسي وأغرب رسالة حربية في مطلع القرن الواحد والعشرين!
اقتصرت التصريحات الروسية الرسمية على نوع من الخطاب الدبلوماسي التقليدي والعبارات المتداولة. غير أنه في 20 أبريل الجاري، قام مؤسس شركة “فاجنر” العسكرية الروسية يفجييني بريجوجين بتوجيه رسالة مفتوحة إلى ما وصفه بطرفي النزاع في السودان، أعرب فيها عن استعداده “الشخصي” للوساطة لوقف إطلاق النار، نظرا لما يحظى به من احترام لدى الجانبي، كما ورد في رسالته. وكتب بريجوجين: “أنا يفجيني بريجوجين، ارتبطتُ بالسودان لفترة طويلة وتواصلت مع جميع أصحاب القرار في جمهورية السودان.. ويشرفني أنني أحمل وسامين سودانيين، هما وسام جمهورية السودان الذي تسلمته عام 2018، ووسام النيلين عام 2020.. وأنا مستعد دائما لمساعدة السودان إن لزم الأمر، ومستعد أيضا لدعم حل النزاع بما يخدم ازدهار السودان، وأنا على استعداد للتوسط في مفاوضات بين رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد دقلو (حميدتي)، والأطراف الأخرى في النزاع… إن الأمم المتحدة والعديد من الأطراف والدول الأخرى تريد إراقة دماء السودانيين، لكنني أنا شخصيا الوحيد الذي يتمنى السلام للشعب السوداني. فما يحدث في السودان الآن ليس هو ما درّبنا السودانيين عليه، وقد زودناهم بالسلاح ليس من أجل ذلك.. أرجو إتاحة الفرصة لي، وعلى نفقتي الخاصة، لإرسال طائرات محملة بالأدوية وكل ما يلزم للمتضررين في السودان، وللجنود السودانيين من الطرفين الذين كانوا حتى وقت قريب إخوتنا المشتركين في قوات فاجنر”.
ربما تعكس هذه الرسالة مدى نفوذ هذه “الشركة” ليس فقط في السودان وفي أوضاعه الأمنية وفي مناجم الذهب هناك، بل وعلى الأشخاص المتنفذين أنفسهم. كما أن حصول بريجوجين على أوسمة وميداليات سودانية يشير إلى الكثير من المسكوت عنه. والغريب أن موسكو فضلت أن تظهر عبر بريجوجين وليس عبر الكرملين أو الرئيس بوتين. وهذا يعني فيما يعني تلويح روسيا بتلك الشركة وبإمكانياتها وبرصيدها السابق ليس فقط في السودان، بل في أفريقيا حيث تتواجد عناصرها في كل الدول المحيطة بالسودان تقريبا. بل ويعني أيضا توجه موسكو نحو المزيد من إثارة الفوضى التي ستكون بشكل أو بآخر امتدادا لما بدأته قوات “فاجنر” في ليبيا.
أما ظهور تركيا المتوقع في السودان، فسوف يزيد من تعقد الأوضاع، خاصة وأن الرئيس أردوغان بحاجة ماسة إلى أوراق جديدة في معركته الانتخابية، وبحاجة إلى تجاوز آثار الزلزال التي هزت أركان الاقتصاد التركي الذي يعاني أصلا من مشاكل كثيرة. وبحاجة أيضا إلى أوراق جديدة في مواجهة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه لا يمكنه أن يترك موسكو تتحرك بمفردها في السودان، لأن تحرك روسيا في السودان، يمكنه أن يؤثر على طموحات أردوغان في ليبيا التي تعاون فيها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين حتى وقت قريب. ولا تزال الأحلام تراود كل منهما هناك.
وبالتالي، فظهور كل من روسيا وتركيا سيزيد الأوضاع تعقيدا، وسيضاعف من خلط الأوراق في كل من السودان وليبيا، وبين مصر وأثيوبيا، وسيؤثر بدرجات ملموسة على إجراءات القاهرة في الحفاظ على أمنها. ولا شك أن ظهور موسكو وأنقرة سيدعم حميدتي المدعوم من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن دول خليجية أخرى ستظهر بوضوح في الفترة المقبلة. هذا المشهد السوداني قد يساهم ليس فقط في إشعال النار في ليبيا مجددا، بل ويمكنه أن يثير المزيد من الفوضى في العديد من الدول الأفريقية، وفي شمال أفريقيا. إذ أن بوتين بحاجة إلى إبعاد الأنظار عن أوكرانيا، وتصفية حساباته مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وامتلاك المزيد من أوراق الضغط على دول مثل مصر. وفي الواقع، فأردوغان يشترك معه في كل تلك الأهداف أيضا، ما عدا أوكرانيا.