إن استقلالية السلطة القضائية وحياد القاضي من أهم الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة وقد تضمنتها الاتفاقيات والمواثيق الدولية المختلفة لحقوق الإنسان، كما تعتبر كذلك ضمانة لحق المتهم في الدفاع للوصول إلى محاكمة عادلة. فمن باب العدل أن يتقاضى الشخص سواء أكان مشتبها فيه أو متهما أن يدافع عن نفسه أو عن طريق موكله أمام محكمة مستقلة وقاض محايد بعيدا عن كل الضغوطات سواء أكانت سياسية أو اجتماعية وأن تتحرر هذه السلطة القضائية من جميع المؤثرات وتضطلع بالرسالة المنوطة بها، حيث تعطي لكل فرد الحق في اللجوء إليها واستفاء حقوقه او دفع الاتهام الموجه ضده وحمايته من أي اعتداء و هذا لن يتحقق إلا إذا كانت السلطة القضائية مستقلة عن باقي السلطات الأخرى. وعليه فإن استقلال القضاء وتمكين المتهم من حقه في الدفاع يعتبران الأداة الفعالة لتحقيق العدالة وحماية حقوق و حريات الأفراد.
يعتبر استقلال القضاء إحدى الركائز الأساسية للإدارة الفعالة للعدالة. فعدم تدخل السلطة التنفيذية يكفل تمتع المعتقلين بالضمانات القانونية الأساسية المنصوص عليها للجميع. وغياب التدخل والضغوطات من أي نوع كانت يضمن نزاهة عمل المحاكم والقضاة بما يتوافق مع القانون، ويتيح للمواطن الشعور بالطمأنينة من عدم وقوعه ضحية لسوء المعاملة. لذلك، وإدراكاً منها لأهمية الأمر، اعتمدت الأمم المتحدة، في العام 1985 المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية.
وفي ظل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة من الناحية الدستورية والقانونية في مختلف الأنظمة القانونية المستقرة علي الساحة العالمية والوطنية تعتبر “السلطة القضائية” هي أحد السلطات الثلاث التي يتشكل منها الكيان القانوني للدولة الحديثة في الزمن المعاصر وأحد الأركان الأساسية لمظاهر سيادة الدولة على أراضيها حيث تتولى هذه السلطة القيام بمهام تحقيق العدالة بالفصل في الخصومات وإقامة الإنصاف في مختلف المجالات بين أفراد المواطنين والكافة، وهى بذلك تعد السلطة الواجب تواجدها وقيامها ليكتمل بها البناء القانوني للدولة التي تلتزم بتشكيلها وفق لضوابط ومعايير موضوعية مجردة – وهي المعايير المستقرة على مدى التاريخ – وتكون الدولة في ذات الوقت الضامنة لأداء دورها في الالتزام بتطبيق القانون وإرساء الحق والعدل والإنصاف بين أفراد المجتمع الممثلة له في إطار نطاقها المكاني أو اختصاصها الموضوعي، ومن هذا المنطلق وسعياً لتحقيق هذا الهدف تلتزم السلطة الوطنية (الدولة) بتسهيل الوصول إلي القضاء وتقريب مقاره للأفراد وضمان استقلاله ونزاهته وعدم التدخل في شئونه أو التأثير علي أعضاءه أو ما يصدر عنه من أحكام والالتزام الكامل بتنفيذ ما يصدر عنها من أحكام
وتبدو العلاقة جلية بين استقلال السلطة القضائية ومبادئ المحاكمات العادلة والمنصفة، والتي هي البغية الرئيسية والمطلب الذي لا غنى عنه لتحقيق العدالة في المجتمع المصري، إذ أنه بدون قاضي مستقل وغير خاضع لولاية سلطة مغايرة عن السلطة القضائية، لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون كلمته الفاصلة في أية خصومة قضائية كانت ذات دلالة محايدة وبعيدة عن الميل للسلطة التي هو خاضع لها، أيا ما كانت، وهذا مرجعه الرئيسي يعود لكون القاضي في موقعه غير مستقل وغير خاضع لذاته أو لسلطته الضمائرية أو للسلطة القضائية، أما في الحالة الإيجابية والمتمثلة في استقلال السلطة القضائية، فإن ذلك يضمن وجود جدوى من المحاكمات ووجود سعي من القضاة نحو تحقيق العدالة بشكل غير تابع لأية سلطة مغايرة.
وباعتبار نزاهة السلطة القضائية واستقلالها وحيادها تمثل شروطا لازمة وأساسية لحماية حقوق الإنسان وحرياتهم ولتنمية الاقتصاد وضمان تحقيق السلم الاجتماعي، بما يستوعبه معناه العام من قيم ومبادئ وقواعد السلوك والقيم الأخلاقية الذي يجب أن يتحلى بها المنتسبون إلى السلطة القضائية، فقد استأثرت هذه القيم بمكانة مميزة في المجتمعات الديمقراطية التي تسعى إلى الرقي بأنظمتها القضائية وفق ما تؤسس له تلك المعايير الدولية وتترجمها على أرض الواقع، وذلك بتبني المبادئ التي جاءت بها والحلول التي اقترحتها في تشريعاتها الوطنية حتى تعتمد كمؤشرات على توفر مقومات الأمن والسلم والاستقرار والازدهار في المجتمعات.
وقد كرست المواثيق الدولية استقلالية السلطة القضائية من ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالمادة 10 “لكلِّ إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحقُّ في أن تَنظر قضيتَه محكمةٌ مستقلَّةٌ ومحايدةٌ، نظرًا مُنصفًا وعلنيًّا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أيَّة تهمة جزائية تُوجَّه إليه”. وكذلك المبادئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع في ديسمبر 1985وتتعلق: بالاستقلالية وبحرية التعبير وتكوين الجمعيات و بالمؤهلات والتدريب (ليشغل الوظائف القضائية أفراد من ذوى النزاهة والكفاءة) وبشروط الخدمة ومدتها (يضمنها القانون للقضاة بشكل مناسب عند المباشرة وحتى في قترة التقاعد تمنح القاضي الأمان، وحصولهم على أجر ملائم…) وبالسرية والحصانة المهنيتان وبالتأديب والإيقاف والعزل. علاوة على المبادئ التوجيهية في شأن دور أعضاء النيابة العمومية اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة في سبتمبر 1990 التي تمثل اعترافا بالدور الهام الذي يؤديه أعضاء النيابة العمومية في تحقيق محاكمات عادلة، من خلال ضمانات من الواجب توفيرها لأعضاء النيابة العمومية لأداء وظائفهم على الوجه الأكمل، ووجوب اتخاذ الدولة التدابير اللازمة لضمان قدرة أعضاء النيابة العمومية على أداء واجباتهم ومسؤولياتهم المهنية في ظل أوضاع قانونية وتنظيمية ملائمة، وإتاحة الوسائل الملائمة، البشرية والمالية والمادية.
ولا يمكن بحال من الأحوال تصور وجود قضاء مستقل، في حالة مزاحمة التشريعات التي تصدر مكبلة لاستقلاليته، أو داعمة لخضوعه بشكل أو بآخر للسلطة التنفيذية ، ويأتي ذلك من خلال سيطرة الحكومات على الأغلبية البرلمانية عن طريق تغولها في مضمار الأحزاب السياسية، وأن يكون لأحزابها الغلبة في الكتل النيابية داخل المجالس التشريعية، وبالتالي تستطيع تمرير ما يعن لها من قوانين دون وجود معارضة قادرة على مقاومة تلك الكتل التصويتية، وهو الأمر الذي يصب في خانته الأخيرة على مسار العدالة، إذ أنه لا يمكن تخيل أمر وجود محاكمات عادلة ومنصفة، وبشكل خاص في قضايا المعارضين السياسيين، أو تلك المرتبطة بحريات الرأي، غذ أنه في حالة غياب الاستقلال القضائي سوف تنحاز الأمور إلى الجانب الذي تريده السلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي يبعد عن المحاكمات العادلة، ويغيب العدالة عن المجتمعات، ومن هنا تبيت المجتمعات في ظلام وتبقى سلطتها القضائية ملاذ غير آمن لتحقيق العدالة، أو ضمان وجود محاكمة عادلة ، والتي تعبر عن الصورة المثلى لرؤية حقيقة الحياة داخل المجتمعات.