أن تنتظم التيارات السياسية في أطر تنظيمية كالأحزاب على سبيل المثال، لتعبر عن وجودها وأفكارها ورؤاها وبرامجها السياسية، هذا شيء جيد ومطلوب ويثري الحياة السياسية بالكامل، لكن أن يذهب هذا التيار أو ذاك إلى النزوع  للانفصال عن باقي أطراف التيار المدني الديموقراطي أو أن يعطي البعض لنفسه الحق في الانفراد بقيادة التيار المدني بكامله في ظروف بلد تعاني من ضعف وهشاشة جميع الفاعليات السياسية المدنية، كنتيجة طبيعية لعمليات التجريف الممتد لسنوات طوال، ما أصاب جميع مكونات التيار بالانحسار والغياب عن ساحة العمل الجماهيري والسياسي بالكامل تقريبًا، اللهم النذر القليل من المحاولات الأكروباتية والألاعيب البهلوانية التي يقوم بها بعض أطراف، بل وأقطاب التيار للحفاظ على ذلك القدر القليل جدا من التواجد على ساحة الحياة السياسية بالشروط التي تسمح بها السلطة الحاكمة وفي إطار محكوم بقيودها غير المواتية لجميع الفصائل والتيارات السياسية، سواء من المعارضة أو الموالاة على حد سواء، فإن ذلك أمر يدل على عدم نضج سياسي، ولا أريد أن أذهب إلي ما هو أبعد من ذلك؟!!

أن تقوي الأحزاب السياسية من بناها التنظيمية الداخلية وتدعم وجودها على الأرض وتعمل على نشر أفكارها وبرامجها للإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد، وأن تسعي إلى كسب الأنصار استعدادا لخوض جميع أشكال الانتخابات القادمة والمتوقعة، للفوز بها أو تحقيق مكانة جيدة بها كحد ادني، فذلك أمر مفهوم ومحمود، بل ومطلوب أيضا.

أن يسعى كل فصيل سياسي على حدا نحو تجميع شتاته وصولا إلى تكوين رؤية تشكل الحد الأدنى المطلوب للتوافق فيما بين عناصره وأطرافه المتباينة بما يسمح لهم بحضور جيد وكبير ومتماسك على الساحة السياسية وبما يعبر عن الحجم الطبيعي المستحق لهذا التيار أو ذاك، إلى جانب القوى والتيارات الديموقراطية الأخرى، فذلك ليس فقط أمر طبيعي بل هو واجب تحتمه وتفرضه ضرورات السياسة وأحكامها، لأنه سيكشف ويعبر في هذه الحالة عن الأوزان الحقيقية للقوى بما يجعلها تشغل الحيز الملائم الذي يعكس وزنها الفعلي ودرجة فهمها لمجريات الأمور على أرض الواقع وقدرتها على التأثير فيها.

لكن الفرضيتين الأخيرتين لا تنفيان ولا تتعارضان، بل تعززهما وتثبت جذورهما فرضية ثالثة أساسية، وهي فرضية التحالفات الواسعة التي تتبنى وتدافع عن رؤية سياسية شاملة للاصلاح السياسي والاقتصادي في إطار من العمل الجبهوي الواسع والتفاعل السياسي السلمي الذي يحميه وينظمه الدستور والقانون، ذلك أن مكونات التيارات السياسية في مصر وبسبب ما مرت به البلاد في السنوات العشر الأخيرة، سواء التيار الليبرالي أو القومي أو اليساري، أصابها الوهن الشديد وما هو باق منها حتى الآن وبعد الحصار الشديد والحرمان من التواجد الطبيعي كأي قوى سياسية تعمل في إطار نظام سياسي ديموقراطي، لا يقوى كل بمفرده على مواجهة التحديات السياسية الكبرى ومتطلبات العمل الديموقراطي للمرحلة القادمة.

إن فرصة التيار المدني الوحيدة في التصدي بنجاح لمهمة إنجاز عملية التحول نحو الديموقراطية وتحقيق شعار “الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة” على أرض الواقع، تكمن في قدرة ذلك التيار علي الاصطفاف في إطار واحد متماسك وقوي، وأن لا يسمح بانفراط حباته، لأن ذلك الانفراط أو التبعثر، مهما كانت مسمياته، أو الدعاوى البراقة له، سيفضي إلى المزيد من الهشاشة والضعف، فهو نوع من أنواع الانتحار الجماعي.

ان البلاد تمر بأزمة اقتصادية شديدة الوطأة نراها ونلمسها جميعا، كما تعاني في نفس الوقت من التضييق الشديد، الذي يصل إلى حد الاختناق شبه الكامل سياسيا، وليس لدينا أمل جميعا سوى في قرارات شجاعة وجريئة تسمح بانفراج سياسي حقيقي وليس شكلي، والحركة المدنية الديموقراطية بما لها من رصيد وقدر من المصداقية اكتسبته من خلال انحيازاتها طوال الوقت لمصالح الوطن العليا ومصالح الشعب المصري ولمدينة الدولة وللحداثة ووقوفها دون تردد إلى جانب الدولة في جميع معاركها ضد الإرهاب المتستر وراء الدين وضد أفكاره الظلامية، وبما لها أيضا من إصرار مصحوب بحكمة وحنكة سياسية في المطالبة بإصلاح سياسي شامل، بات شديد الإلحاح، هي المرشح السياسي المدني الوطني للعب الدور الأكبر في المرحلة القادمة من مراحل التحول نحو الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، شرط التمسك بوحدتها كإطار سياسي جبهوي جامع لتيارات سياسية متكافئة.