منذ عدة أيام قرأت هنا في “مصر 360” مقالاً للكاتب الصحفي الكبير الأستاذ عبد العظيم حماد عنوانه: “حديث الضمانات المستحيلة”، ورغم محبتي للأستاذ عبد العظيم حماد وتقديري الكبير والدائم لكتاباته المهمة والعميقة؛ وجدتني مختلفاً مع ما جاء في مقاله الأخير، متمنياً أن يتقبل هذا الاختلاف بنفس المحبة التي تجمعنا دائما، وبالمنطق الخالد أن اختلاف الرأي لا يفسد للود الموصول قضية.

في “حديث الضمانات المستحيلة”، بدا لي أن المقال يتحدث عن زمن آخر وليس عن مصر بوضعها السياسي والاقتصادي الذي يعرفه الجميع في وقتنا الحالي، وما رسخ عندي هذا الشعور هو تأكيد الأستاذ عبد العظيم حماد فكرته حول استحالة حصول المعارضة المدنية على ضمانات تخص انتخابات الرئاسة المقبلة بمثالين أحدهما في عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والآخر في عصر الرئيس السابق حسني مبارك، وهو ما يعني أن الأمثلة التي ساقها المقال بنت عصرها ولحظتها التاريخية، ولا يمكن القياس عليها في زمننا الحالي الذي يختلف بشكل كبير في الظروف والتفاصيل السياسية، وهذه الظروف هي التي تفرض على أي نظام سياسي البدائل والحلول والخطوات التي يتخذها والإجراءات التي يمررها، فلا يمكن أن يتخذ أي نظام سياسي خطوات أو إجراءات تتشابه مع غيره إذا اختلفت الظروف الداخلية والأوضاع الإقليمية والدولية.

أتفهم بالقطع أن فكرة المقال تقوم على تشابه-أو استمرار- النظام السياسي بعد 23 يوليو 1952 حتى الآن بنفس سياساته وأدواته، حتى ولو اختلفت أسماء الرؤساء، وصحيح أن ذلك- حسب المقال- يستدعي بالضرورة تشابه المواقف في الماضي والحاضر من فكرة الانتخابات والتعددية وغيرها من قيم ديمقراطية لا يتقبلها ولا يؤمن نظام يوليو 1952، إلا أن الصحيح أيضاً أن خيارات كل سلطة – حتى لو تشابه النظام وأدواته- تحكمها ظروفها وأوضاع البلد السياسية والاقتصادية، ثم التوازنات الإقليمية والدولية التي تشكل عاملاً رئيسيًا وفاعلاً في المشهد السياسي الداخلي.

 

المؤكد في تقديري أن الديمقراطية ليست من بين أدبيات السلطة الحالية، والمؤكد أيضاً أن هذه السلطة ليست لديها قناعة كبير بفكرة التعددية وتداول السلطة وغيرها من القيم الديمقراطية، وهي في الغالب لا تريد تقديم تنازلات كبيرة في مسألة الضمانات الخاصة بالانتخابات الرئاسية، لكن نجاحها في عدم التنازل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف السلطة ذاتها، ثم بمدى قدرة المعارضة المدنية على ممارسة ضغوط جادة للحصول على مكاسب تخص الضمانات الانتخابية، ثم قبل كل هذا وبعده بظرف إقليمي ودولي يجب أن يكون داعماً ومؤيداً للسلطة وخياراتها.

في حسابات السياسة لا تبدو السلطة الحالية في أفضل أحوالها، فرغم ما يبدو من تماسكها وقوتها إلا أن خنق المجال العام، وإغلاق كل قنوات التعبير السياسية الدستورية، وحصار الحياة العامة خلق غضبًا كبيراً ضدها، من النخبة السياسية على الأقل- وأفقدها كثيراً من مصداقيتها التي اكتسبتها بعد عام 2013، ثم إن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلد – لا سيما الغلاء وتدني قيمة العملة-باتت تضغط على أعصاب الطبقات الفقيرة والمتوسطة بشدة، وبشكل أفقد السلطة كثيراً جداً من أنصارها ومؤيديها، وأضحت رغبة الناس العادية في تغيير الوجوه والسياسات واضحة ولا تحتاج إلى برهان.

على خلفية الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تحاصر السلطة الحالية تبدو تحالفاتها الخارجية ليست في أفضل الأوضاع، فالعلاقات مع دول الخليج، لا سيما السعودية، تراجعت عن السابق وحاصرتها الأزمات أكثر من مرة، وبات الدعم الاقتصادي -والسياسي- الخليجي أقل كثيراً من سنوات مضت، أضف على كل هذا أن التراجع في ملفات حقوق الإنسان والحريات العامة سبب ضغطاً خارجيا على السلطة طوال الوقت.

في كل محاولات قراءة إمكانية استجابة السلطة لضمانات حقيقية حول انتخابات الرئاسة لا يمكن استبعاد كل ما سبق، ولا يمكن قراءة المشهد بحسب تصنيف النظام السياسي ودرجة إيمانه بالديمقراطية والانتخابات فقط، وبالطبع لا يمكن اتخاذ فترات زمنية سابقة معياراً لقياس اللحظة الحالية المختلفة التي نعيشها، بل في تقديري أننا لا نستطيع القياس حتى على أي انتخابات أجرتها السلطة الحالية ذاتها- مثل انتخابات 2018 مثلا- فببساطة لم تكن الأزمات السياسية والاقتصادية قد حاصرت المشهد العام بهذا الشكل، فضلاً بالطبع عن الموقف الإقليمي والدولي الذي تغير الآن عن بضع سنوات مضت، بما يصعب على السلطة رفض إجراءات تضمن نزاهة الانتخابات وتقتضيها المرونة السياسية التي لا يمكن لنظام أن يعيش بدونها.

تقديري أن النجاح في معركة ضمانات الانتخابات الرئاسية ممكن، ولكن المؤكد حتى لا نقع فريسة للتفاؤل المفرط أن الممكن هو الحصول على الحد الأدنى لضمانات النزاهة، وليس كل المطلوب بالفعل، لا سيما إذا تمسكت المعارضة المدنية بمطالبها واعتبرت أن هذا الحد الأدنى لا يجب أن يقل عن حياد أجهزة الدولة، ووضع سقف للإنفاق، ومراقبة جادة من منظمات مصرية ودولية، ومساحات متساوية لكل المرشحين في وسائل الإعلام، وضمان شفافية ونزاهة التصويت والفرز، أما التسليم مبكراً بأن “معركة الضمانات” محسومة سلفاً لصالح الرفض، فهذا معناه التسليم بالهزيمة قبل أن ينزل الفريق إلى أرض الملعب أصلاً.