يمثل الإشراف القضائي أهمية بالغة في سير العملية الديمقراطية المرجوة عند كل الشعوب، وفي مصر لا يزال الجدل يدور حوله، ودوره، ومدى قدرته على ضبط العملية الانتخابية، ومنع عمليات التلاعب والتزوير في مراحلها ونتائجها. وعلى الرغم من أن مصر شهدت عدة انتخابات منذ 2011، ولكن حتى اليوم لم تستقر عناصر التحول الديمقراطي، وأبرزها العملية الانتخابية.
واقترح مجلس أمناء الحوار الوطني مد الإشراف القضائي للانتخابات الرئاسية المقبلة، ورحبت القيادة السياسية بهذا الاقتراح، ومن المنتظر أن تقدم الحكومة مشروع القانون للبرلمان، وقال المستشار محمود فوزي رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني بأن مسالة الإشراف القضائي للانتخابات ستشمل جميع الانتخابات القادمة وليس فقط الانتخابات الرئاسية.
وفي ضوء ذلك، لا يجب أن يكون النقاش محدودًا حول الانتخابات الرئاسية القادمة، فقط، فهناك مؤشرات بأن الإشراف القضائي قد يعود مجددًا في جميع الانتخابات المقبلة، تشريعية ومحليات. ورغم أن البعض عارض المقترح وآخرين أيدوه، لكن يجب النظر إلى التجارب السابقة في مصر وخاصة القريبة منها وربطها بالسياق الانتخابي والسياسي العام من أجل التوصل إلي رؤية أوضح حول مدى جدوى الإشراف القضائي.
ضمانة محدودة
لطالما كان الإشراف القضائي نتائجه محدودة في الحد من عمليات التزوير. فانتخابات عام 2000 التي كانت خاضعة للإشراف القضائي، لم تمنع نظام مبارك من تزوير الانتخابات. ولكن ربما في انتخابات عام 2005 كان الوضع أفضل نسبيًا حيث أن القضاة طالبوا بأن يكون لهم صلاحيات واسعة في مراقبة جميع مراحل العملية الانتخابية وإلا سيكون الرد مقاطعة الانتخابات. وبالفعل، الإشراف القضائي هذه المرة حد من تلاعب السلطات بالانتخابات داخل اللجان.
ولكن، على الرغم من ذلك، استطاع نظام مبارك تزوير الانتخابات باستخدام عنف البلطجية والشرطة لمنع المصوتين من دخول اللجان، فضلًا عن اعتقالات تمت للمعارضة، وغيرها من الوسائل للتلاعب بالأصوات. تظل انتخابات 2005 واحدة من الانتخابات التي حققت بها المعارضة مكاسب جيدة نسبيًا.
هنا، تجدر الإشارة إلي أن الاشراف القضائي وحده لم يكن السبب في هذه المكاسب، ولكن صاحب الإشراف القضائي قيام نظام مبارك بالتخفيف نسبيًا عن القيود المفروضة ضد المعارضة، مما سمح للمعارضة بالمشاركة في الانتخابات.
لم ترض نتائج انتخابات 2005 نظام مبارك، ولذلك تم إدخال تعديلات دستورية في 2007 تستبدل الإشراف القضائي على الانتخابات بلجنة انتخابية مما سمح للسلطات بمساحة أكبر بتزوير الانتخابات في نفس العام.
مشكلات الانتخابات
هناك عدة أسباب جعلت تأثير الإشراف القضائي محدودًا. أولا، التلاعب بالأصوات الانتخابية قد يأخذ أشكالًا عديدة ومن أبرزها استخدام العنف الانتخابي من قبل دولة مبارك ضد المعارضين، والعنف الانتخابي هنا يشير إلى استخدام الدولة العنف بواسطة أدوات الدولة أو مجموعات تابعة لها لتغيير نتيجة الانتخابات مثل الاعتقالات أو التخويف أو منع المصوتين.
ثانيا، أهمية الانتخابات كأداة محورية لبقاء واستمرار نظام مبارك في الحكم، مما جعل العملية الانتخابية آلية تُدار من قبل النظام السياسي لتحقيق أهدافًا سياسية، وليست آلية ديمقراطية حقيقية.
تجادل ليزا بلايدس أستاذة العلوم السياسية بجامعة ستانفورد، بأن نظام الانتخابات خلال عهد مبارك سعى لاحتواء النخبة ذات التأثير مثل رجال الأعمال وكبار العائلات وغيرهم من المؤثرين في المجتمع، ولكن وعلى عكس بعض النظم الأخرى، التي يتم احتواء النخبة في المؤسسات التشريعية عن طريق تمكينهم من المشاركة في تشريع القوانين، نظام مبارك لم يسمح بمساحة حقيقية للتشريع، ولذلك يكون مكسب تلك النخبة من المشاركة مقتصرًا على المزايا المادية التي يحصلون عليها من مقاعد برلمانية حصنتهم “من تهم الفساد”.
تضيف بلايدس بـأن هذا النظام ساعد على احتواء غضب المجتمع أيضًا، حيث أن هؤلاء المرشحين يمثلون حلقة وصل بين السلطة والشعب. فتلك النخبة القريبة من السلطة قادرة على التفاوض مع السلطة أفضل من المعارضة، ما يمكنهم من تقديم خدمات للمواطنين في دوائرهم الانتخابية، كذلك كان هؤلاء القريبون من السلطة يستخدمون ثروتهم الشخصية لتقديم الخدمات. وحينها كانت السلطة تعاقب القرى التي تصوت للمعارضة بعدم تقديم الخدمات لها.
كان من المأمول أن ينتهي هذا النظام الانتخابي بعد الإطاحة بنظام مبارك. ولكن تجادل سحر عزيز أستاذة القانون بجامعة روتجرز، في دراستها عن الانتخابات البرلمانية لعام 2015 بأن النظام الانتخابي الذي يهدف لاحتواء النخبة ومكافأة الأفراد القريين للسلطة لم ينته. فهو تغير في بعض صفاته ولكن ظل جوهره واحد.
ففي انتخابات 2015 استمر توزيع المقاعد على شبكة من الأفراد الموالين للسلطة، ولكن هذه المرة تم توزيع المقاعد على أفراد غير مسيسين، تحركهم مصالحهم الخاصة لمنع تشكل معارضة في البرلمان.
وربما في انتخابات البرلمان عام 2020، كان الأمر أكثر وضوحًا. أشار تقرير لبي بي سي لوجود تسريبات حول استخدام المرشحين للمال السياسي للدخول في القائمة الوطنية المقربة للسلطة التي من المتوقع فوزها، فضلًا عن التدخلات الأمنية. في واقعة شهيرة قدم النائب السابق أحمد الطنطاوي وحملته وثائق يقولون بأنها تثبت حصوله على المركز الأول في الانتخابات، ورغم ذلك خسر. قبلها، كان قد صرح بأنه تم منعه من عقد مؤتمر انتخابي خلال الانتخابات.
أيضًا، في ضوء المخالفات التي شابت انتخابات 2020 قدم النائب عبد الحميد كمال بلاغًا للنائب العام ضد حزب مستقبل وطن، واتهمه بإفساد العملية الانتخابية لعدة أسباب منها جمع تبرعات من رجال أعمال مقابل ضمهم الى قائمتهم الانتخابية، بالإضافة الى استخدام الحزب المال السياسي لحشد المصوتين.
وبالنظر إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2018 يتضح أيضًا أنها لم تخلو من توجيه الاتهامات بسبب غياب المنافسة الحقيقية، بالإضافة إلى شبهات وجود بعض المخالفات لزيادة تعداد المصوتين. خلصت دراسة لنيل كيتشلي، قسم العلوم السياسية جامعة أوسلو، أجريت على الانتخابات الرئاسية الأخيرة باستخدام أدوات كمية تحلل نتائج الانتخابات لتبيان مدى نزاهة الانتخابات إلى أن هناك انحرافات إحصائية في نتائج الانتخابات مما يشير إلى حدوث تلاعب من نوع ما في أعداد المصوتين، وهذا ما يقول كيتشلي يتوافق مع التقارير الصحفية التي رصدت اللجان بها أعداد قليلة من المصوتين.
كما رصد تقرير لنيويورك تايمز وقائع شراء للأصوات عن طريق مبالغ مالية ومواد غذائية.
غياب الثقة
نص قانون الهيئة الوطنية للانتخابات لعام 2017 على أن تكون الانتخابات في العشرة سنوات التالية للعمل بالدستور تحت الإشراف القضائي، ثم بعد العشر سنوات ينتهي الإشراف القضائي ويتولى أعضاء تابعون للهيئة الوطنية إدارة الاقتراع والفرز، وبإمكانهم الاستعانة بأعضاء من الهيئات القضائية. ولكن المقترح المتعلق بمد الإشراف القضائي قد يعبر عن عدم ثقة تجاه الهيئة الوطنية.
فعلى الرغم من وجود مخالفات في الانتخابات الأخيرة وتقديم طعون عديدة، لم تصدر الهيئة الوطنية للانتخابات قرارات في صالح أغلب الطعون، وأعلنت الهيئة بأنه لا توجد مخالفات في المرحلة الأولى تؤثر على النتائج، وفي المرحلة الثانية أصدرت الهيئة الوطنية تصريحًا مماثلًا بعدم وجود مخالفات.
كان الطنطاوي من أشهر مقدمي الطعون في هذه الانتخابات، تظلم فيها بشأن عد الأصوات، ولكن اللجنة العامة للانتخابات رفضت الطعون المقدمة. وأشار تقرير للعربي الجديد بوجود انقسامات داخل الهيئة نتيجة اتجاه رئيسها إلى رفض الطعون المقدمة بشكل مستمر، كما أضاف التقرير أن الرفض الموسع للطعون أدى إلى لجوء المرشحين لمحكمة القضاء الإداري التي حكمت بتعديل نتائج بعض الدوائر بالفعل.
في هذا السياق يبدو أيضًا أن تأثير الإشراف القضائي في الانتخابات المتتالية منذ إصدار قانون الهيئة للانتخابات كان محدودا.
المهمة شبه المستحيلة
الواقع يقول بأنه لا توجد وسيلة فعالة لمنع التزوير أو التلاعب بالانتخابات بشكل كامل، حتى بأكثر الوسائل تقدمًا. خلصت دراسة عن “الاستخدام الاستراتيجي للشفافية واستمرار تزوير الانتخابات” إلى أن، حتى استخدام الأدوات التكنولوجية المتقدمة لمنع التلاعب بالانتخابات مثل الكاميرات في مراكز الاقتراع واستخدام الصناديق الشفافة، لا تمنع التلاعب بالانتخابات من قبل النظم الأوتوقراطية، فدائمًا ما تنجح النظم السياسية باستبدال الوسائل القديمة للتلاعب بالانتخابات بوسائل جديدة للتحايل على وسائل منع التزوير.
ربما قد يكون الإشراف القضائي له مزاياه في الحد من التلاعب في الانتخابات نسبيًا، ولكن كما أثبتت التجارب أن الإشراف القضائي وحده ستظل نتائجه محدودة نتيجة لسهولة التلاعب بالانتخابات خارج مراكز الاقتراع. ولكن يظل مد الإشراف القضائي قرارًا جيدًا في هذه المرحلة حيث أنها حدت نسبيًا من تزوير الانتخابات خلال عهد مبارك، مع التأكد من أن الهيئة الوطنية للانتخابات لم تقم بدورها بكفاءة في انتخابات السنوات السابقة.
ولكن مهما كثرت الضمانات تظل نزاهة الانتخابات رهينة وجود إرادة سياسية تسعى لتغيير البناء السياسي للانتخابات. ليتحول الأمر من أداة للحفاظ على السلطة إلى آلية ديمقراطية حقيقية تعبر عن الشعب. هذا الأمر يتضمن عدم تدخل النظام السياسي بأية وسيلة في العملية الانتخابية قد تغير من نتائج الانتخابات مع توفير المناخ السياسي الذي يسمح للمعارضة بالمشاركة في العمليات الانتخابية بحرية.
ترحيب القيادة السياسية بالإشراف القضائي هو مؤشر جيد، وهو خطوة في الطريق الصحيح نحو الديمقراطية، ولكن الإشراف القضائي وحده لن يكون مؤثرًا دون الإصلاحات السياسية الأخرى التي تضمن حرية الانتخابات.
الإعلان عن الجمهورية الجديدة وإصدار الاستراتيجية الوطنية الوطنية لحقوق الإنسان وبدء الحوار الوطني، جميعها مؤشرات إيجابية تنبئ بأن هناك اتجاه نحو نظام أكثر ديمقراطية ولكن الانتخابات الرئاسية المقبلة ستكون الاختبار الحقيقي.