واحد من أخطر عيوب مصر أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر، مما ينبغي، وتفسح له مكانًا أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدي إلى الركود والتخلف، وأحيانًا العجز والفشل والإحباط.

في حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز، وأفضل مكان له خارجها، فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتّباعيًّا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًّا، تقليديًّا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا.

في مصر بيئة طاردة لأبنائها الممتازين، تلفظهم بانتظام وإحكام، (بمثل ما أن المعارضة في مصر محكوم عليها بالإعدام سلفًا كمسألة روتينية)، وللإمعات والتافهين طول البقاء.

وهكذا بينما يتكاثر الأقزام على رأسها، ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامُها في العمالقة، وقد تطأهم وطئًا».

الكلام بنصه كتبه الدكتور جمال حمدان في الجزء الرابع من موسوعته الشهيرة (شخصية مصر ـ دراسة في عبقرية المكان).

آثرت أن أبتعد بهذا المقال عن ذكرى رحيل المفكر الكبير الدكتور جمال حمدان التي حلت يوم الإثنين الماضي (رحل في 17 إبريل سنة 1993)، لأن موضوع المقال يتناول «عيوب المصريين» كما رآها جمال حمدان، رأيت أنه من غير المناسب أن تقترن المناسبة بموضوع المقال الذي ربما يراه البعض نقدًا ثقيلًا للشخصية المصرية.

**

لا يكتب جمال حمدان كتابة الأستاذ الجامعي الذي تخصص في مادة الجغرافيا فقط، بل هو حديث المفكر العالم الذي قضى عمره يبحث عن صفات وسمات، وعيوب وميزات الشخصية المصرية، غاص في المكان، وارتحل عبر الزمان، وطاف بالتاريخ، ليدقق في طبيعة شخصية مصر، ويحقق في خصائص الشخصية المصرية.

يمكنك أن تتفق أو تختلف مع تشخيص صاحب شخصية مصر لعيوب الشخصية المصرية، لكنك لا تستطيع أن تزايد عليه، ولا تنتقص من وطينته، ولا تخدش صدق انتمائه الذي يصل حد الوله في محبة مصر والمصريين.

لا يشك أحدٌ في محبة الدكتور جمال حمدان لمصر، ولا يمكن أن يشكك أحدٌ في محبته لأهل مصر، وهو واحدٌ من أبرز رموزها، ومفكريها، وهو صاحب أهم موسوعة جغرافية تاريخية إنسانية كتبت عن مصر في العصر الحديث، وهي المرجع الذي لا يمكن تجاوزه أو إهماله لدى أي محاولة جادة للفهم والوعي بمصر في موقعها الجغرافي، وفي إطارها الجيوسياسي، وفي تدفقها التاريخي والانساني.

**

الاختلاف معه وارد، لكنك لا تستطيع إلا أن تفكر مليًا فيما يصدر عن الدكتور جمال حمدان إذا هو واجهك بعيوبك، بكل صراحة، ومن دون تحفظ، وهو الذي يرى ـ بحق ـ أن «ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى إنما هو وحده الذي لصالحها ينقدها بقوة، وبقسوة إذا لزم الأمر، وبلا مداراة أو مداورة».

صاحب شخصية مصر يحدثنا بصراحة جارحة عن شخصية المصريين، يشرحها بمشرط جراح بدون أن يضع على جروحها مُسكنًا، وبدون أن يزوق حديثه حين يتحدث عن عيوب المصريين القاتلة في رأيه.

وقد أعلن مرارًا عن قناعته بأن «مصر لن تتغير، ولن تتطور، أو تخرج من حمأتها التاريخية الراهنة، إلا حين يأتيها المفكر والحاكم الصادق كلاهما مع نفسه، والجريء مع جمهوره، فيواجه هذا الجمهور علنًا بعيوبه بلا وجل ولا دجل».

أعداء مصر كثيرون، منهم أعداء بالداخل، وهؤلاء في نظر جمال حمدان هم من أعدى أعداء مصر: «مصريون يدفنون بإصرار رؤوسهم في الرمال، ويتغابون، أو يتغافلون، عمدًا عن عيوبنا، زاعمين باستمرار أن (أم الدنيا) بخير، وأن ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، متشنجين على كل مصري ينقد مصر لصالحها، يتهمونه بالتعنت، أو بالتخابث، بعدم الولاء، أو بالخيانة».

**
في لقائهما بفندق شهير يطل على نهر النيل دار الحديث بين محمد حسنين هيكل وجمال حمدان بحضور مصطفى نبيل رئيس تحرير مجلة الهلال حول مصر والمصريين، بدا الحوار وكأنه جدل الجغرافيا والتاريخ، كانت ملامح حمدان تكسوها مسحة حزن ضغط انطباعها على قسمات وجهه، وشاعت في نبرة صوته ـ على حد وصف هيكل له ـ وهو يجيب على تساؤلاته بكبرياء حزنه:
«إن حركة التاريخ دائمة، ولكن اتجاهها ليس ثابتًا، وكان عهدنا أن تكون إلى الأمام خطوتين، إلى الوراء خطوة، ولعلنا الآن نرى بعدًا مغايرًا، نرى حركة إلى أسفل، نحن شهدنا انقلابًا لأنه كان بين السكان من لم يٌقدِر ولم يرع حرمة وحق المكان».

كان حمدان يدرك حسبما كتب في مقدمة كتابه الموسوعة أن مصر تجتاز اليوم أخطر عنق زجاجة، وتدلف أو تًساق إلى أحرج اختناقة في تاريخها الحديث وربما القديم كله.

وحذر طويلًا من أن هناك انقلابًا تاريخيًا في مكان مصر ومكانتها، ولكن من أسفٍ إلى أسفل وإلى وراء، نراه جميعًا رؤي العين، ولكننا فيما يبدو متفاهمون في صمت على أن نتعامى عنه، ونتحاشى أن نواجهه (في عينه) وجهًا لوجه، ونُفضل أن ندفن رؤوسنا دونه في الرمال.

**
إننا لم نكن أحوج مما نحن الآن إلى فهمٍ كاملٍ معمقٍ موثقٍ لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكاننا، لإمكانياتنا وملكاتنا، ولكن أيضًا لنقائصنا ونقائضنا، كل أولئك بلا تحرج ولا تحيز أو هروب..

في هذا الوقت الذي تأخذ مصر منعطفًا خطرًا، ولا نقول منحرفًا خطئًا، فكل انحراف مهما طال، أو صال وجال، إلى زوال، ولا يصح في النهاية إلا الصحيح.

هكذا يضع حمدان مقدمته للحديث عن «عيوب المصريين «، وضرورة فحص المآلات التي صارت إليها «الشخصية المصرية»، خاصة في هذا الوقت «الذي تتردى بلدنا فيه إلى منزلق تاريخي مهلك، قوميًا، ويتقلص حجمها ووزنها النسبي جيوبوليتكيًا بين العرب، وينحسر ظلها ـ بحسب حديث حمدان ـ في هذا الوقت تجد مصر نفسها بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر، والتفكير في كيانها، ووجودها، ومصيرها بأسره: من هي؟، ما هي؟، ماذا تفعل بنفسها؟، بل ماذا ـ بحق السماء ـ يُفعل بها؟ إلام؟ إلى أين؟ الخ.

مثل هذه الأسئلة المفروضة على المصريين اليوم، ليست أسئلة اختيارية، يمكن التغاضي عنها، أو التعامل معها عن طريق ما سماه حمدان «الإعلام الأعمى، والدعاية الدعية، والتوجيه القسري، المنحرف، المغرض».

أراد حمدان أن يضعنا في مواجهة حقيقة أن ظروف العالم المعاصر تغيرت، وتبدلت أحوال العالم العربي من حولنا، فلم يعد العالم بعيدًا نائيًا، ولا عاد العرب مجرد (أصفار على الشمال).

**

لا يُحمل جمال حمدان السلطة في مصر وحدها المسئولية الكاملة عن سوء الأحوال التي تردينا إليها.

بل يكاد يصرخ في وجوهنا بأننا: «كشعب لابد لنا بصراحة أن نعترف ـ بأننا لا نُحب فقط أن نمجد ونطري أنفسنا بحق وبغير حق، ولكننا أيضًا نُحب أن نسمع عن أنفسنا ما يرضينا ويعجبنا، أو يرضي إعجابنا بذاتنا الوطنية، وشخصيتنا القومية.

والأسوأ أننا نكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا، ونرفض بإباء أن نواجهها، أو نُواجَه بها، ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا، ونلصقها بها، وأيما رذيلة أو عيب فينا، فلا محل لها لدينا من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا على مضض واستثناء، فلها عندنا العذر الجاهز، والمبرر والحجة المقنعة، أو المقنَّعة.

وربما ارتسمت على شفاه المفكر الكبير بسمة حزينة وهو يشير إلى أننا: «حين نرجع مثلًا فيما نكتب عن أنفسنا إلى كتابات الرحالة والمؤرخين العرب في العصور الوسطى، أو نراجع ما كتبه الكتاب الأجانب المعاصرين فإننا نختار منها تلك الإشارات الطيبة المرضية ونحشدها حشدًا (كفضائل مصر)، ونهمل بكل بساطة كل الإشارات العكسية أو المعاكسة التي أوردها الكتاب نفسه والتي قد تكون أضعاف الأولى كمًا وكيفًا، ليس هذا فحسب أو ليت هذا فحسب، فما أكثر بعد ذلك ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا، ونقائصنا إلى محاسن، بل أسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها».

هذا بالضبط ـ كما يرى حمدان ـ من تجليات ما يسميه البعض «الشخصية الفهلوية».

**
ما الذي أوصلنا إلى هنا؟

يضع جمال حمدان يده على أصل الداء، ويؤكد على أنه لا خلاف بين الذين تصدوا لدراسة الشخصية المصرية على أن معظم سلبيات وعيوب هذه الشخصية إنما يعود أساسًا – وفي الدرجة الأولى- إلى القهر السياسي الذي تعرض له المصريون ببشاعة وشناعة طوال التاريخ.

يقول حمدان: «هذه ولا سواها، نقطة الابتداء والانتهاء، مثلما هي نقطة الاتفاق والالتقاء: السلطة، الحكم، والنظام: الطغيان، الاستبداد، والديكتاتورية: البطش، التعذيب، والتنكيل: الإرهاب، الترويع، والتخويف».

حالة القهر السياسي المستمرة من دون توقف هي الآفة الأم، وهي أم المأساة.

هذا الجانب من الشخصية المصرية جذبت كثيرًا من العلماء والمؤرخين للحديث عنها، اتفقوا على بعض سماتها الرئيسية،

واختلفوا على بعضها الآخر، ولكنهم كادوا يجمعون على أن وجود هذا التناقض البادي في علاقة المصري بالسلطة، يخافها دائمًا ويطيعها غالبًا، وهو لا يجد غضاضة في تملق السلطة، ولا يتورع عن سلخها بلسانه بالنقد اللاذع، وسلاحه الذي لا يفارقه هو التنكيت مأمون العواقب بخفة دم مشهودة.

حكم الأجانب لمصر، وتحكمهم في المصريين تسبب في صناعة تلك السمة اللصيقة بالشخصية المصرية، التي استطاع المصريون من خلالها أن يتعاملوا مع اشتداد الكرب في حياتهم، وواجهوا بها عسف الحكام وجورهم.

ابن خلدون رأى الشخصية المصرية «تميل إلى الفرح، والمرح، والخفة، والغفلة عن العواقب».

**

إجماع الآراء على أن النغمة الأساسية أو اللحن الخلفي المستمر وراء الشخصية المصرية في علاقتها بالسلطة، ومفتاح هذه العلاقة التعسة، هي العداء المتبادل، والريبة المتبادلة، هي الحب المفقود، والبغض الموجود بلا حدود.

في نظر جمال حمدان فإن سلبية المواطن الفرد إزاء الحُكم «جعلت الحكومة هي كل شيء في مصر، والمواطن نفسه لا شيء؛ فكانت مصر دائمًا هي حاكمها».

وهذا أُسُ وأصل الطغيان الفرعوني والاستبداد الشرقي المزمن حتى اليوم أكثر مما هو نتيجة له، فالمواطن بفرط الاعتدال مواطن سلس ذلول، بل رعية ومطية لينة، لا يحسن إلا الرضوخ للحكم والحاكم، ولا يُجيد سوى نفاق السلطة والعبودية للقوة».

مسئولية الشعب نفسه عن هذه العلاقة المأساوية أو المأساة العالقة، ومَن السبب ومَن النتيجة، ومَن الفاعل ومن المفعول به؟، تلك قضية أخرى، قد تكون موضع خلاف، وقد ترتب فروقًا ونتائج جذرية في المواجهة، كما يقول جمال حمدان.

لكنه يعود ليؤكد مجددًا على أن المتفق عليه هو أنه «لا حل، ولا أمل للشخصية المصرية حتى اليوم في التغير، ولا في التخلص من سلبياتها الخطيرة المعقدة، إلا بتغيير وتصفية القهر السياسي أساسًا، وأولًا، وأخيرًا».

**

الشعب المصري ليس بدعة بين الشعوب، فالديكتاتورية والقهر أصل الأدواء التي تعاني منها كثيرٌ من البلاد وعديدٌ من الشعوب.

وقد أثبتت حوادث التاريخ وحركة المصريين وأشواقهم إلى الانعتاق من جعبة الحاكم أن الشعب المصري حين يحضر ويكون مؤثرًا في المعادلة تنعدل الأحوال، ويظهر معدنُه الذي يتوارى خلف الأوضاع السيئة التي يعانيها، وينزوي تحت وطأة الأحوال المهينة التي تُفرض عليه طول الوقت.

ومجريات ثورة يناير 2011 تقدم الشواهد على أصالة معدن هذا الشعب ونقائه، حيث أظهرت أفضل ما فيه، وانزوت في عنفوانها كل السلبيات التي يتحدث عنها راصدوا عيوب تلك الشخصية.

**

لا يمكنني أن أختم هذا المقال بدون الإشارة إلى أن الدكتور جمال حمدان يبقى طول الوقت عاشقًا لمصر، وغيورًا على المصريين؛ فتجده كلما ذكر سلبية فيهم أو عيبًا أو نقيصة إلا وحاول أن يخفف من وطأتها وشدتها على الأنفس، يتحدث عن العيوب لنواجه بها أنفسنا، ويعدد النقائص عملًا بالقول الحكيم: صديقك من صدقك لا من صدقك.
رسالة جمال حمدان ووصيته إلى المصريين تتلخص في نداء إليهم: لابد أن ندرك بوعي وعمق أن عيوب الشخصية المصرية خطيرة، وليست بالهينة، أو الشكلية، فهي ـ كما يقول حمدان: التي أوردتنا مورد التهلكة في الماضي، ووسمت، أو وصمت، وسودت تاريخنا بالعبودية والطغيان في الداخل دائمًا، وللاستعمار في الخارج غالبًا.

هذه العيوب هي أيضًا التي تهدد حاضرنا بنفس الشكل بالخضوع للديكتاتورية الغاشمة في الداخل، والركوع للعدو الأجنبي الغاصب في الخارج.

كفانا إذن حديثًا عن مزايانا، ومناقبنا، فهي مؤكدة ومقررة، وهي كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا في عيونها، في مواجهة شجاعة لها، لا لننسحق بها، ولكن لنسحقها، لا لنسيء إلى أنفسنا، ولكن لنطهر أنفسنا.