بينما تتطور الأوضاع بشكل مأساوي في السودان، وبينما تقوم كل دول العالم تقريبا بإجلاء مواطنيها وبعثاتها الدبلوماسية من الخرطوم، وبينما تُجري كل دولة بشكل منفرد ومع حلفائها حساباتها السريعة لما يَجري في شرق إفريقيا والبحر الأحمر، تتنامى في هدوء فصول “حكاية” روسية أخرى على هامش المأساة والحسابات والدماء.
بدأت فصول القصة عندما ورد خبر، ظهر يوم الأحد 23 إبريل الجاري بوكالة أنباء “نوفوستي” الحكومية الروسية، يفيد بفقدان يخت روسي باسم “30 minutes”. وفي الحقيقة، الخبر غامض وملغوم بما فيه الكفاية. إذ أكدت ناديجدا راسينا زوجة قبطان اليخت الذي فقد في البحر الأحمر بأنه تعرض لهجوم من قراصنة. ويبدو أن ناديجدا راسينا كانت قد أدلت بتصريحات متفرقة قبل ذلك، تفيد فيها بأن اليخت، الذي يتكون طاقمه من 3 أفراد، اختفى في البحر الأحمر.
ووفقا للوكالة الحكومية الروسية، قالت إن “السفينة غادرت المملكة العربية السعودية قبل أسبوع تقريبا، أي يوم 16 إبريل. وكان من المفترض أن تصل إلى جيبوتي بحلول 19 إبريل، لكنها لم تصل إلى هناك، وفقدت في الطريق ما بين السعودية وإريتريا واليمن”.
وأشارت راسينا إلى أنها “ناشدت وزارة الخارجية الروسية بطلب المساعدة في البحث عن المواطنين الروس المفقودين، وأن مالك السفينة أطلق نداء استغاثة “SOS”، وأن ساحل البحر الأحمر بأكمله على علم بأن السفينة فقدت، ولكن إريتريا ليس لديها موارد كافية لإرسال مروحيات وقوارب بحث، والوضع في اليمن صعب”. وأكدت راسينا أن “القارب تعرض للمداهمة من القراصنة والمجرمين. والمملكة العربية السعودية تلقت هذه المعلومة كحقيقة، لكن بدون توفر أي تفاصيل تساعد في البحث”.
وبعدها بساعات قليلة ظهر خبر آخر. ولكن في هذه المرة من السفارة الروسية في الرياض، تؤكد أن موسكو على اتصال دائم بالسلطات السعودية بعد اختفاء اليخت الروسي قبالة السواحل السعودية. وقالت السفارة “إننا نواصل اتخاذ جميع الخطوات اللازمة بالتعاون مع السلطات السعودية للكشف عن مصير اليخت المفقود، وكذلك تقديم المساعدة الفورية للمواطنين الروس الموجودين على متنه”.
وأكد السكرتير الثالث في السفارة الروسية بجدة أندريه بريخوفسكيك أن السفن السعودية تشارك في البحث عن اليخت الذي يتكون طاقمه من ثلاثة مواطنين روس.
الحكاية في ظاهرها تبدو بوليسية بامتياز. ولكنها تتمحور حول ظهور القراصنة في البحر الأحمر، وفقدان الممتلكات والقطع البحرية “المدنية” في المياه الدولية أو في المياه الإقليمية لبعض الدول، وعدم امتلاك الدول المطلة على البحر الأحمر الإمكانات اللازمة لحماية القطع البحرية.. أي ببساطة وجود عدم استقرار في البحر الأحمر وتضرر دول وقطع بحرية “مدنية” من جراء عدم الاستقرار، خاصة وأن دول البحر الأحمر ليس لديها إمكانيات لحماية هذه القطع البحرية!!
ربما لا يوجد داع الآن للتوقف أمام استخدام كلمة “يخت” تارة، و”سفينة” تارة أخرى. المهم أن القطعة البحرية “مدنية” وعلى متنها أفراد مدنيون. والمثير للتساؤلات أن “اليخت” انطلق من المملكة العربية السعودية تقريبا مع اندلاع أحداث السودان ووقوع الاشتباكات الدامية هناك. والأكثر إثارة للتساؤلات أنه كان متجها إلى “جيبوتي” على وجه التحديد في ظروف حرب حقيقية غير مفهومة في إحدى أكبر الدول المطلة على البحر الأحمر والقريبة من جيبوتي. فهل كانت هناك ضرورة ملحة لتحرك “اليخت” من المملكة العربية السعودية إلى جيبوتي؟! وما هي تلك الضرورة التي تجبر ثلاثة أفراد “مدنيين” على التحرك الفوري في مثل هذه الظروف؟!
أما الأمر الآخر الذي يتطلب إبداء بعض المخاوف، هو أن جيبوتي تحديدا تشكل عقدة صعبة أمام روسيا، لأن الأخيرة تحاول طوال السنوات الأخيرة الحصول على قاعدة عسكرية بحرية في هذا البلد الذي يضم عشرات القواعد لعشرات الدول. وكانت روسيا قد حاولت أن تضع قدمها في جيبوتي قبل سنوات عن طريق اتفاقات بينية مع الصين. لكن الدول الغربية الكبرى هددت بإبعاد الصين من جيبوتي في حال ساعدت روسيا على الالتفاف وإقامة قاعدة هناك. وبالفعل، استجابت بكين وتوقفت عن مناوراتها، وتم إغلاق الملف.
إضافة إلى ذلك، كانت روسيا هي الدولة الأعلى صوتا بشأن “المعاناة الدولية” في مواجهة القراصنة الصوماليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي والمناطق القريبة من باب المندب. وكثيرا ما وصفت المنطقة بعدم الاستقرار. وبالتالي، ضرورة وجود قوات دولية وقواعد، بما فيها قوات وقواعد روسية في المنطقة لحماية السفن والناس و”المصالح الدولية المشتركة”.
وفي الحقيقة، ظهرت تقارير تشير إلى أن روسيا تثير الكثير من القلاقل والحملات الإعلامية والرعب من أجل توسيع دائرة المخاوف في شرق أفريقيا والبحر الأحمر ومنطقة باب المندب من أجل إقامة قواعد عسكرية روسية هناك.
وفي الوقع لا توجد أي معلومات حتى الآن عن الأفراد الروس الثلاثة وطبيعة عملهم ونشاطاتهم، ولا عن الأسباب القهرية التي دفعتهم للانتقال بـ “يخت” مملوك لأحدهم إلى منطقة فيها حرب، وإلى دولة تشكل عقدة بالنسبة لروسيا وتضم العديد من القواعد العسكرية البحرية، خاصة وأن كتائب “فاجنر” الروسية تنشط في العديد من دول شرق ووسط أفريقيا، وفي السودان على وجه التحديد. إضافة إلى مساعي روسيا للتواجد بأي شكل في المنطقة.
من الواضح أن التوجه الأولي لصياغة “الحكاية” أو “السردية” الروسية الجديدة، يتجه نحو ضرورة إرسال روسيا قطع بحرية ليس فقط للبحث عن “مواطنيها” ويختهم، وإنما لتأمين السفن والمصالح الروسية في البحر الأحمر. وكان من الممكن التعامل مع “حكاية اليخت” باعتبارها حدثا عاديا، إلا أن اهتمام وكالات الأنباء الحكومية الروسية به، وظهور دور للسفارة الروسية في الرياض، ومن ثم دور لوزارة الخارجية الروسية، يدفع بهذه السردية إلى مجال أكثر جدية وخطورة، وينذر بتطورات أخرى تتعلق بتحركات روسية قريبة ووجود عسكري روسي في المنطقة، خاصة وأن السعودية واليمن وإريتريا ليس لديها الإمكانات الكافية للحفاظ على الأمن والاستقرار في البحر الأحمر. ولكن كان من المهم أن تتم صياغة “سردية” مقنعة ومتوافقة مع القانون من أجل حماية “المواطنين الروس وممتلكاتهم”.