يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بمقالٍ أصدره في أواخر القرن الثامن عشر بعنوان “ما هو التنوير”: “التنوير هو تحرر الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه. الوصاية هي عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص دون توجيه من الآخر. ليس القصور العقلي سببًا في جلب الوصاية، بل السبب هو انعدام الإقدام والشجاعة على استخدام العقل دون توجيه من الآخر. تشجع لتعلم، فلتكن لديك الشجاعة لإستخدام عقلك الخاص”.
كان إيمانويل كانط يرى -رغم حماسه للثورة الفرنسية- أن طريق التنوير لا يمكن أن يُبنى على تغيير مفاجئ كما يحدث غالبًا في الثورات حيث لا يؤدى ذلك إلى تغيير ذا بال.
اتباعًا لمنهج كانط، يمكننا أن نحدد موقع التنوير في مجتمعاتنا العربية من خلال التعرف على طبيعة البيئة الثقافية بكل مجتمع وتقييم مستواها في مفهومها الشامل كَجُملةٍ من البِنَى الذهنية التي تتحكم في سلوك الكم الأكبر من الطبقات أو الفئات أو الشرائح الاجتماعية حسب تعريف المرحوم الدكتور غالي شكرى.
فالتنوير -كعملية مستمرة لا تتوقف- يلزمه بيئة ثقافية تعكس العملية الاجتماعية من ناحية وتحمل قيمًا فنية متميزة في قوالب التعبير المختلفة من ناحية أخرى، بحيث يتحدد مسار التنوير ومداه في ضوء درجة جاهزية تلك البيئة وإستعداد مكوناتها وقدرة رموزها على لعب دورٍ عضوىٍ في النهوض لأجل الخلاص من الوصاية التى يأتى تأسيسها بدفع من الإحساس “بتفوق” الآخَر ثم “الانبهار” به “فالرضوخ” التام له لدرجة تصل في نهايتها إلى الاستسلام لمنتجاته الفكرية باعتبارها نهاية المسار ومُطلق اليقين وسواء كان هذا الآخَر مُعاصِرًٍا أم كان من الماضي.
يرى كثير من المفكرين الليبراليين وبعض من اليساريين العرب أن ثورة 1952 حَالت دون تطور ثقافي منفتح في مصر مما أدى حسب وجهة نظرهم إلى انقطاعٍ تاريخيٍ أثر سلبًا على مسيرة التنوير التي بدأت منذ عهد محمد على باشا عندما أرسل بعثات للدراسة في أوروبا ثم ما تلا ذلك من تغيرات سياسية وإقتصادية واجتماعية خلال الفترة الليبرالية التى توقف تطورها إيجابًا باندلاع الثورة. شخصيًا، لا أجد نفسى على اتفاقٍ كاملٍ مع وجهة النظر تلك رغم تقديري البالغ لأصحابها من الأساتذة الذين تعلمنا على أياديهم البيضاء، فعلى الرغم من أن بعثات الباشا وأولاده من بعده قد ساهمت بشكل ملحوظ في نقل بعض مصادر النور وبالأخص من باريس، إلا أن تلك البعثات لم يكن هدفها الأساسي هو نقل الثقافة والحضارة الغربيتين للشعب المصري قدر ما كانت للاستفادة من خبرات المجتمعات الأوروبية في بناء وتطوير أجهزة دولة محمد على.
وقد أدى أسلوب العمل الأوتوقراطي بالدولة والذى كان متأثرًا لدرجة كبيرة بالأصل الأجنبي للباشا، بالإضافة إلى من أحاط نفسه بهم من دوائر انتهازية غربية ومحلية عَمَدَ رموزها إلى تبنى نمطًا مُتَخَلفًا للإنتاج يقوم على الزراعة والتجارة وتملك العقارات والأطيان والمضاربة ببورصات القطن والأوراق المالية مع التركيز على أعمال الخدمات دون التصنيع (عدا حالات محدودة أعاقت المكايدات السياسية والاستعمار الأجنبي إمكانات تطورها كحالة طلعت حرب)، أدى ذلك كله إلى تعطل تكوين طبقة عاملة حقيقية تسهم في خلق ثقافة أكثر تقدمية لينتهى الأمر بتغيير في “الشكل” الثقافي دون “جوهره” الاجتماعي، مما أفضى إلى حالة من الانفصال الفكري بين مثقفي المدينة البورجوازيين ورفاقهم من الإقطاعيين من أصحاب الذائقة الثقافية الشكلية وبين باقي عموم شرائح المجتمع المصري الذي ظل مصدر ثقافته الأساسي -على المستوى الجمعي وبالذات في الريف وفي الجيوب السكانية الفقيرة المحيطة بالمدن الكبرى- مقصورًا ما يستقيه من معلومات نقلًا عن رجال الدين.
ولعل معركتي “الإسلام وأصول الحكم” للمرحوم الشيخ على عبد الرازق ثم “في الشعر الجاهلي” للمرحوم الدكتور طه حسين ومن قبلهما “الإسلام بين العلم والمدنية” للمرحوم الإمام محمد عبده هي خير دليل على أن البيئة الثقافية في العصر الليبرالي لم تكن على أحسن حال، وهو ما أكده الكاتب الفرنسي جان كوكتو حين زار مصر في أربعينيات القرن الماضي فقال في عبارةً بليغةٍ مُلَخِصَة: “مشكلة طه حسين هى أنه يرى أبعد بكثير مما تستطيع مصر تحمله، إنه حقًا كثير على مصر والعرب، مثلما كان ابن عربى كثيرًا عليهم، وكذلك ابن رشد، وابن خلدون والمعرى، وسائر المبدعين الكبار”.
مرت تحت جسر التاريخ مياهٌ كثيرة لم يتمكن التطور الثقافي في ستينيات القرن الماضي من تحريك الموروث الراكد منها، فلم يُكتَب النجاح لمحاولة خلق خطابِ تحديثٍ ثقافيٍ مختلف، ليطغى على الساحة خطاب دوجمائي مَاضَوى أكثر تشددًا أعاد الثقافة العربية برُمتها عشرات السنين إلى الوراء إثر كارثة 1967 التي أدت لهزيمة خطاب التحديث -مع كل تحفظاتنا على ما شابَهُ من معوقات ذاتية ليس هذا مجال الحديث بشأنها- أمام خطاب المرجعيات المَاضَوى الذي ظهر على إستحياء في البداية ثم ما لبث إلا وقد تصاعد مُتناميًا برسمٍ من تحالفاتٍ سياسيةٍ ثبت فشلها عبر ما يقترب من نصف القرن من عمر الزمان. فخطاب المرجعيات، الذي انكشف واقعيًا في 2013، يعيق -بحُكم طبيعة تكوينه- انعتاق العقل وانفتاحه، الأمر الذي لم يُمَكِن أصحابه من ابتكار ومن ثم طرح بديل عملي وواقعي لمعضلات العصر، فلم يفلحوا في تقديم برنامج وطني عملي للتنمية المستقلة والتخطيط والقضاء على البطالة والفقر.
ولعل أزمة البحث العلمي في بلادنا هي أهم مظهر من مظاهر تأثر المستوى الثقافي بمثالب خطاب المرجعيات المَاضَوى، حيث حَال ذلك الخطاب المبني على الطاعة المطلقة التي تتناقض مع الإقدام والشجاعة على استخدام العقل حسب كانط، دون تطوير البحث العلمي القائم بالأساس على النقد والتحليل.
وقد أشار المرحوم الدكتور فؤاد زكريا إلى مسألة بالغة الأهمية في تأثير فلسفة التعصب التي تحكم بناء هذا الخطاب على البحث العلمي من ناحية أنه يُلحِق بالعقل تشويهاتٍ خطيرة إذ يوهم الإنسان بأنه يملك اليقين المطلق ما يجعله يميل دومًا إلى الجزم والتأكيد القاطع، فلا يؤمن بتعدد طرق الوصول إلى الحقيقة، بل يريد رأيًا واحدًا يرتاح له ويتوقف عنده ويكف بعده عن التساؤل. “وحين تصبح هذه عادة عقلية مستحكمة فإنها تطمس الروح النقدية وتهدم القدرة على الإبتكار وتجعل من التجديد آفة ينبغى تجنبها ومن الإبداع بدعة لابد من محاربتها.”*
تكفيك نظرة بسيطة للثقافة باعتبارها تعبيرًا عن واقع إجتماعي نَحيَاهُ لِتُدرِك كم هو مُضن وطويل طريق التنوير وإن كان ليس مستحيلًا.
*الصفحة 17 من كتاب “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة”- الطبعة الأولى الصادرة في 1986 عن دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع.