مع الظروف والأزمات العصيبة التي تمر بها الأوطان اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا تنتشر واحدة من أكثر الظواهر الاجتماعية التي تمر بها المجتمعات، وهي ظاهرة التسول.

يعرف التسول كأي مفهوم من مفاهيم العلوم الاجتماعية، بحسب تخصص القائم بالتعريف. فإذا ما كان عالم اجتماع، فنظرته تختلف عن نظره القانوني الذي يربطها بمكافحة الجريمة، ونظرة الأخير تختلف عن نظرة رجل الدين المتصلة بالشرع، وكل هؤلاء تختلف تعريفهم للظاهرة عن تعريف رجل الاقتصاد الذي يربطها بالحاجة.

لكن لكون الظاهرة تصب بالأساس في مجال علم الاجتماع، فإن هذا العلم هو من حصدها ودرسها بعناية، لكونها ظاهرة قديمة ومستمرة، غرضها الحصول على المال ماديًا (نقدًا) أو عينيًا (طعام/ ملبس/مأوى..)، عبر استغلال الأخر باستدرار عطفه وربما ابتزازه، وهي تأتي مرتبطة بظروف بيئية غالبًا ذات بعد اجتماعي واقتصادي وربما سياسي، ولها طرق عديدة تتطور بتطور الزمن، كما أن لها أماكن تسهل من عملية القيام بها، وهي في أغلب البلدان ظاهرة مجرمة بحكم القانون.

خمس تصنيفات للتسول

وظاهرة التسول رغم كونها عالمية، فهي تعتبر من الظواهر التي تنتشر في مصر، وهي تصنف من واقع المشاهدات والتطورات على الأرض في مصر إلى 5 تصنيفات، وفق دراسة أعدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية:

تصنيف يتعلق بمدى مباشرة الظاهرة، وفيه يصنف التسول إلى تسول مباشر بمعنى الوقوف أو الجلوس أو السير لطلب الحاجة بطريقة مد اليد. والتسول غير المباشر، ويعنى أن يكون طلب الحاجة متستر في تقديم سلعة أو خدمة بسيطة يكون ثمنها أكبر بكثير من ثمنها المعروف، كمسح زجاج السيارة، أو بيع مناديل ورق، أو الرغبة في العودة للمنزل بسبب سرقة أو فقد المال وهكذا.

تصنيف يتعلق بالجبر والاختيار من القائم بعملية التسول، وهنا تصنف الظاهرة إلى عمل اختياري يقوم صاحبه باقتناع منه، وأخر يقوم به مدفوعًا ومجبورًا من قبل أخر يستغله للقيام بالتسول بدلا منه، نظير أجر أو خلافه، مستغلا غالبًا ضعفه، وعوزه.
تصنيف يرتبط بزمن أو وقت التسول، وفي هذا الصدد يكون التسول مرتبط بموسم محدد كشهر رمضان مثلا، أو مرتبط بحدث عارض ألم بالقائم بالتسول مثل المرض، أو بوقت مفتوح لا يرتبط بأي حدث.

تصنيف يتصل بمدى قدرة المتسول، وهنا قد نجد متسول غير قادر على العيش هو وأسرته، فيلجأ للتسول بغرض سد حاجته. وآخر مقتدر، ومن ثم أصبح التسول لديه حرفه أو مهنة.

تصنيف متصل بالغرض من التسول، وفي هذا الشأن قد يكون التسول لغرض الكسب المادي أو المعنوي المباشر، وهو أغلب أهداف عمليات التسول. وقد يكون التسول ستار لارتكاب فعل أو جريمة أو تجسس أو تنصت وهو أمر نادر مقارنة بالغرض المتعلق بالكسب المادي أو المعنوي.

بالطبع يمكن وضع تصنيفات أخرى، تخص مكان التسول(شوارع رئيسة/ميادين/مساجد…). وتخص نوع المتسول، أو تواجده منفردًا أو مع مرافق (امرأة/طفل/ رجل/ طفل مرافق لامرأة …). وتصنيف يخص عمر المتسول (طفل/ شاب/ هرم…). وآخر يتصل بالحالة الصحية للمتسول(سليم الجسد، عاجز أو مريض بشكل حقيقي أو مدعي) …وهكذا.

عدد المتسولين وسبب زيادتهم

إما بشأن تقدير عدد المتسولين في مصر، فهو يتباين باختلاف المصادر المهتمة بهذا الشأن، فعلاء والي الذي كان يسعى لتعديل تشريع يجرم التسول، عندما كان عضوا بمجلس النواب، يقدر عددهم عام 2017 بنصف مليون منهم 97 ألف طفل.

وعامة، ويعتبر البعض أن العدد مرتبط بالزمن، فهو أمر موسمي إلى حد كبير، بمعنى أن عدد المتسولين في شهر رمضان على سبيل المثال يرتفع بشكل كبير. ووفقًا لوزارة التضامن فإنه خلال الفترة من أكتوبر 2020-يناير 2021 ضبطت 1690 حالة تسول كان منهم 870 طفل أي نحو 51.5%.

واحد من الأسباب الجوهرية المتعلقة باستشراء ظاهرة التسول في مصر يرجع إلى نوع المتسول ذاته ومرافقه. إذ يلاحظ أن90% من المتسولين الذين تم ضبطهم وفقًا لما رصدته وزارة التضامن هم من النساء والأطفال. وطالما الأمر كذلك، أي تواجد الأطفال في صدر مشهد التسول، استدرارًا للعطف والشفقة من الناس، يصلح للباحث في ظاهرة التسول أن يستنتج أن وجود الأطفال البدون مأوى أو المشردين في الشوارع هو أمر مهم للغاية لبقاء تلك الظاهرة. جدير بالذكر أن وزارة التضامن الاجتماعي قدرت مؤخرًا عدد هؤلاء ب 21738 طفل، وهو تقدير يخالف تقدير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2017، والذي قدرهم بـ 35 ألف طفل.

السبب الآخر لاستشراء مشكلة التسول في مصر هو الفقر والبطالة، هنا يرجع المرء مرة أخرى إلى بحث الدخل والإنفاق الذي يعده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بشكل دوري، والذي رصد أن نسبة الفقر في مصر تقدر بـ 29.7% عام 2019-2020، وأن الفقر المدقع وصلت نسبته 4.5%، وهي أرقام يبدو أنها تحركت بالزيادة بنسبة 4% على أقل تقدير خلال الأشهر الست الماضية، ما جعلها الأعلى على الإطلاق في مصر. جدير بالذكر أن البنك الدولي حدد تعريفه للفقير بأنه الشخص الذي يعيش على أقل من 1.9دولار يوميًا، والفقر المدقع بدولار واحد.

المؤكد أن الكسل والتواكل على الغير واحد من الأسباب الرئيسة التي تجعل الشخص يتسول، ويهين كرامته، أفضل من أن يعمل ذهنه وجسده في عمل مفيد يستطيع من خلاله أن يكتسب رزقه من عرقه. هنا يمكن الإشارة إلى أن أغلب الحالات التي تم القبض عليها، تبين أنها من أشخاص يمتلكون عقارات وسيارات وأراضي، أي أنهم حتى لو بدأوا حياتهم منذ سنوات بسبب الفاقه والعوز، إلا أن اعتياد التسول، جعلهم يستمرون فيه بعد أن انتعشت حالاتهم الاقتصادية بشكل جعلهم أكثر ثراءًا (بلا تعب) من غالبية من يعطونهم المال.

من هنا يمكن الإشارة إلى أن أخطر ما في موضوع التسول هو تحوله من مجرد أمر وقتي غرضه الخروج من أزمة أو موقف يتعثر صاحبه فيه، إلى عمل دائم أو حرفة أو مهنة، والأشد خطوره هو تحول ذلك أيضًا إلى نظام أو مؤسسة تدار جغرافيًا عبر مجموعة من الناس تدير شبكات كاملة من الأطفال والنساء والعجزة وأصحاب العاهات الصحية وغيرهم، حيث يكون للجميع نصيبه وأجره، ويمكن أن يكون هؤلاء مجبرين على هذا العمل لا تحت سطوة الفقر، بل تحت سطوه وإرهاب وإجرام مجموعة من البلطجية تدير تلك الشبكات متكاملة الإركان.

وسائل التسول

أما بشأن الوسائل التسول، فهي عديدة، ويغلب عليها الطابع التقليدي المتصل بالتواجد الجسدي للمتسول واقفًا أو مترجلا أو جالسًا، في مكان ملائم له. إما الوسيلة الأخرى الأكثر حداثة، والتي لا زالت في طور التشكيل، فهي التسول الإلكتروني، الذي بدأ مع موجات حظر التجول المتكررة في الشوارع الرئيسة جراء جائحة كوفيد19. حيث قام المتسولون باستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لطلب الحاجة واستدرار عطف الناس بغرض تحويل الأموال إليهم مباشرة.

علاج الظاهرة

أما بشان علاج ظاهرة التسول، فهناك عدة مستويات يمكن من خلالها طرق باب الحل. فبداية، تعد حل مشكلة الأطفال بدون مأوى هي السبيل الأساسي لتجفيف منابع التسول، لا سيما وأن عظم المتسولين أما أطفالا أو يصحبوا معهم الأطفال بغية استعطاف الناس. هنا تأتي أهمية دور وزارة التضامن ومؤسسات المجتمع المدني في التغلب على تلك الظاهرة من خلال دور الرعاية الاجتماعية، بما يكفل الحد من تلك المشكلة.

أمر أخر يتصل بالأطفال وهو أهمية إعادة دمج المتسربين منهم من التعليم، لكون هؤلاء مادة جاهزة ومعدة جيدًا للتسول، وهنا يبدأ دور الدولة ممثلا في وزارة التعليم، وكذلك وسائل التنشئة الاجتماعية والتوعوية وعلى رأسها الإعلام.

إلى جانب ذلك هناك الشأن القانوني والتشريعي المهم، حيث يتبين أن القانون المجرم للتسول، القانون 49 لسنة 1933، المؤلف من 8 مواد، قانون يتسم بالقدم الشديد، وهو ما جعل الأحكام التي اشتمل عليها لتجريم التسول مخففة إلى حد كبير. إذ تتراوح بين الحبس شهر إلى ستة أشهر، ولا يقرر القضاة عادة أية عقوبة في المرة الأولى من الاتهام.

اليوم وقد تغيرت الظروف، فأصبح من المهم الإستفادة من التطورات البيئية والتشريعية القائمة، ومن ذلك اعتبار التسول عبر الأطفال من الأمور التي تدخل ضمن تشريعات الإتجار بالبشر، ما يجعل العقوبات فيها مشددة بشكل كبير. كما أن التشهير بالمتسول أمر مهم، خاصة وأنه يكتشف في كل مرة أن الكثيرين من المقبوض عليهم أصبحوا نتيجة ذلك العمل أثرياء.

أيضًا أصبح من الضروري أن يضاف إلى الجرائم المتصلة بالتسول، التسول غير المباشر عبر بيع سلعة أو مسح سيارة في إشارات المرور أو قوارع الطريق، أو المدعي سرقة ماله ورغبته في العودة لبيته، للتغطية على الغرض والسبب الرئيس لتواجد المتهم، وهو التسول. كما أنه من الواجب سن تشريعات غرضها التدقيق في دخول الأجانب الفارين من الحروب في بلادهم، حيث زاد عدد المتسولين في مصر لعدة سنوات مع بدء أحداث سوريا.