ما أن امتصت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن صدمة الإعلان عن تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية برعاية الصين، حتى بدأت العمل على جر الرياض إلى دائرة نفوذها مجددًا، خشية تمادي المملكة في تعزيز علاقاتها مع محور “موسكو/ بكين” الذي تعتبره الولايات المتحدة مهددا لمصالحها، وترى أنه في حال خسرت السعودية ستفقد تباعًا دولًا أخرى في الشرق الأوسط، ظلت لعقود طويلة داخل دائرة نفوذها.
ولأن استراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية أبعد من أي خلاف بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولا يرسمها ساكن البيت الأبيض وحده، حتى ولو كان يملك أغلبية في الكونجرس، أسندت إدارة بايدن الديمقراطية -بشكل غير معلن- ملف تبريد الأزمة الساخنة مع الرياض إلى السيناتور الجمهوري البارز ليندسي جراهام، المعروف بعلاقاته الوطيدة مع الأسرة السعودية الحاكمة.
وصل جراهام إلى المنطقة الأسبوع الماضي، والتقى ولي العهد السعودي محمد بن سليمان، وعبّر خلال الاجتماع الذي وصفه لاحقا بـ”المثمر” عن تطلعه لنقل العلاقات الأمريكية-السعودية إلى مستوى جديد.
جراهام فاجأ المتابعين والمراقبين الذين طالما تحدثوا عن عقوبات محتملة من إدارة بايدن والمشرعين الديمقراطيين ضد السعودية وولي عهدها الذي اُتهم بالتحريض على تصفية الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، إذ أعلن تأييده لاتفاقية دفاع مشترك بين الرياض وواشنطن.
ودعا جراهام إلى إقرار اتفاقية تجعل من السعودية أشبه بدولة من حلف شمال الأطلسي “الناتو”. وأضاف في تصريحات لقناتي “العربية” و”الحدث” عقب الزيارة: “قد تكون هذه أفضل فرصة أراها منذ عقود لتطوير العلاقات بين السعودية وأمريكا، وسأعمل على مساعدة السعودية فيما تحتاجه لبناء برنامج سلمي للطاقة النووية”، مشيدًا بالتطورات التي حدثت في المملكة خلال السنوات الماضية “حدثت أشياء في السعودية لم أكن أؤمن بإمكانية حصولها، واعتقدت أنها مجرد أقاويل، لكن الآن لدي الحق في تغيير مساري”.
وما أن أنهى زيارته إلى السعودية، توجه جراهام إلى القدس وأجرى لقاءً مماثلًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث ربط تطوير العلاقات بين بلاده والسعودية باعتراف الأخيرة بإسرائيل.
جراهام قال في اجتماعه مع نتنياهو، حسب مقطع فيديو نشره عبر صفحته الرسمية على موقع “تويتر”: “لقد قلت للسعودية إننا نريد تطوير علاقاتنا ويجب أن نفعل ذلك بطريقة تُطمئن أصدقاءنا في إسرائيل”.
وتابع: “أود أن أساعد الرئيس بايدن وقلت لولي العهد السعودي إن الوقت الأمثل لتطوير علاقتنا هو الآن”، مشيرا إلى أن الرئيس الأمريكي مهتم بتطبيع العلاقات مع المملكة “مقابل أن تعترف السعودية بالدولة اليهودية الوحيدة”.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال في تصريحات عقب لقائه بالسيناتور الجمهوري: “نحن نريد التطبيع والسلام مع السعودية، ونرى أن ذلك سيكون قفزة هائلة نحو إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وقد يكون لهذه الاتفاقية تبعات كبيرة وتاريخية لكل من إسرائيل والسعودية والمنطقة”.
تصريحات جراهام المتتابعة في الرياض ثم في القدس كشفت النوايا الأمريكية، فإدارة بايدن التي تحاول إغلاق صفحة التوتر مع الأمير الشاب الذي أحكم قبضته على مقاليد الأمور في بلاده، تسعى إلى تحقيق هدف مزدوج؛ إعادة حليفتها التاريخية إلى دائرة نفوذها مجددًا بعدما مالت الرياض إلى تطوير العلاقات مع المحور الصيني الروسي ما يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة كلها، فالسعودية صارت اللاعب الإقليمي الأهم بعد تراجع الدور المصري تدريجيا في العقود الأخيرة.
ومن ناحية أخرى، تخطط دوائر صناعة القرار الأمريكية لرد الصفعة التي تلقتها واشنطن بالإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني لتطبيع العلاقات بين الجارين اللدودين برعاية صينية، ولا توجد صفعة أفضل من إلحاق الرياض بقطار الاتفاقات الإبراهيمية وتطبيع علاقاتها مع إسرائيل حتى لو سبب ذلك حرجا لإدراة بايدن، إذ أن السعودية وضعت عددا من الشروط التي يصعب على الإدارة الديمقراطية تحقيقها اتساقا مع موقفها المعلن من المملكة وحاكمها الجديد.
الرياض حسب ما كشفت وسائل إعلام أمريكية كانت قد اشترطت لإبرام اتفاق سلام مع تل أبيب، الحصول على تعهدات أمنية ومساعدة نووية من الولايات المتحدة.
صحيفة “وول ستريت جورنال” نقلت الشهر الماضي عن أشخاص وصفته بـ”المطلعين على المناقشات بين البلدين”، أن الرياض طلبت من واشنطن تقديم ضمانات أمنية والمساعدة في تطوير برنامجها النووي المدني، بالتزامن مع سعي الولايات المتحدة التوسط لإقامة علاقات دبلوماسية بين المملكة وإسرائيل.
الصحيفة قالت إن التوصل إلى اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية أصبح أولوية بالنسبة للرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، في ظل مواجهة محتملة مع إيران.
أما صحيفة “نيو يورك تايمز” الأمريكية فأشارت إلى أن هناك عدة تحديات تقف في طريق صفقة سلام سعودية إسرائيلية محتملة والتي ستكون ضمن إطار معاهدة إبراهام التي توسطت فيها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب وأسفرت عن علاقات دبلوماسية كاملة بين إسرائيل و4 دول عربية منها الإمارات والبحرين.
وقالت الصحيفة إن تصاعد العنف بين إسرائيل والفلسطينيين في ظل حكومة نتنياهو اليمينية يعد أبرز تلك التحديات.
المسؤولون السعوديون أكدوا مرارًا إنهم لا يستطيعون إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل قبل إقامة دولة فلسطينية وفق المبادرة العربية للسلام التي طرحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حينما كان ولي للعهد في 2002، إلا أن بعض الأشخاص المطلعين على المناقشات قالوا إنهم يعتقدون أن السعوديين، الذين يبنون علاقات غير رسمية أوثق مع إسرائيل، سيقبلون بأقل من ذلك، وفقا لما نشرته “نيويورك تايمز”.
وقال مارتن إنديك، السفير الأمريكي الأسبق لدى إسرائيل إن بايدن يرى أن التطبيع الكامل بين الدولتين يصب في مصلحة الولايات المتحدة، لا سيما كوسيلة لمواجهة النفوذ الإيراني.
زيارة السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام الأخيرة إلى المنطقة، بدا منها أن الإدارة الأمريكية التي تخشى من رفض داعميها في الكونجرس تنفيذ شروط الرياض، أكثر انفتاحًا لبحث تلك الشروط حتى تسجل أهدافها في المنافسة الساخنة مع المحور المناوئ.
وفي الوقت الذي تستخدم فيه واشنطن كل أوراقها ولاعبيها للوصول إلى هدفها، ألقت الرياض بكروت جديدة على طاولة اللعب لحث خصمها على تقديم مزيد من التنازلات، فبينما توجه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى سوريا بعد قطيعة دامت 12 عامًا، استقبلت المملكة وفودًا من السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ما اعتبرته دوائر سياسية إسرائيلية “بصقة سعودية على وجه نتنياهو” الذي أعلن هو ووزير خارجيته إيلي كوهين أن تطبيع العلاقات مع الرياض من الوارد أن يتم قبل نهاية العام.
وفيما ذهبت الحكومة الإسرائيلية إلى أن الرياض تحاول إقناع الفلسطنيين بخطوتها القادمة تجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل، قالت مصادر دبلوماسية عربية أن السعودية تضغط على واشنطن وتل أبيب للقبول بشروطها.
الكاتب والمحلل العسكري الإسرائيلي بن كاسبيت يرى أن تطبيع إسرائيل مع السعودية “يبتعد شيئا فشيئا”، موضحا أن زيارة وفد حركة حماس للرياض بعد قرابة عقد من المقاطعة هي أحدث دليل في هذا الصدد.
وذكر بن كاسبيت أن التطبيع الإسرائيلي السعودي يعتمد أولًا وقبل كل شيء، على استعداد البيت الأبيض والرئيس جو بايدن لتخفيف التوترات في العلاقات مع الرياض، وتزويد السعوديين بالمعدات التي يسعون لاقتنائها وتعزيز اتفاقات إبراهام التي دبرها سلفه، دونالد ترامب.
نتنياهو الذي روجت دوائر إعلامية قريبة من حكومته أن وزير خارجيته يرتب لزيارة قريبة للرياض قال في في مقابلة تلفزيونية مع قناة “CNBC” الأمريكية قبل أيام إن التحركات السعودية الأخيرة تجاه النظام السوري، واستضافة الرياض لقادة من حركة «حماس» والسلطة الفلسطينية تهدف لإيصال رسائل ما قبيل سلام محتمل مع حكومته، “ربما تخبرهم السعودية أن عليهم إعداد أنفسهم للمرحلة المقبلة أو لإخبارهم بالتوقف عن أفعالهم”.
الإعلام العبري المتحفز ضد نتنياهو وحكومته، يرى أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي لا تعدو كونها أمنيات، فزيارة وزير الخارجية السعودي لدمشق واستقبال المملكة لوفود فلسطينيية يأتي في إطار “إحراج الإدارة الأمريكية والضغط عليها حتى تقبل بالشروط السعودية، كما أنها تمثل أيضا ورقة ضغط على الحكومة الإسرائيلية التي تبحث عن تحقيق أي انتصار خارجي في ظل فشلها في التعامل مع الاحتجاجات الداخلية المتواصلة ضد مشروعات قوانين التعديلات القضائية”.