جاء التعاطي التركي مع الأزمة السودانية، وسط اقتتال جناحي المكون العسكري، اللذين يرتبطان مع أنقرة بعلاقات أقل ما توصف به بأنها جيدة، مؤكدًا للواقعية السياسية التي تتحرك في إطارها تركيا، لتوسيع مساحات نفوذها في القارة الإفريقية بشكل عام والسودان بشكل خاص.

وكشفت تقارير سودانية مستندة إلى تصريحات من مصادر رسمية رفيعة المستوى، عن تقديم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عرضًا للقادة العسكريين في السودان للتفاوض ببلاده، وهو العرض الذي نقله أردوغان خلال اتصالين هاتفيين بالبرهان وحميدتي، أكد خلالهما رغبة تركيا في التوسط بينهما، لإنهاء الحرب مع تقديم كافة الضمانات لطرفي النزاع.

سياسة خارجية مرنة

يأتي التعاطي التركي المكثف مع قضايا القارة الإفريقية، وفي القلب منها السودان في إطار تعزيز أنقرة لنفوذها في القارة السمراء خلال السنوات الماضية، حيث افتتحت أكثر من 42 قنصلية وسفارة خلال 20 عامًا في إفريقيا وحدها، في وقت أعلن فيه الرئيس التركي عن نية بلاده رفع التبادل التجاري مع القارة الإفريقية إلى 50 مليار دولار (25.3 مليار دولار حاليًا).

يمثل صعود النفوذ التركي في إفريقيا جزءًا من سياسة خارجية واسعة مرنة تستهدف بها أنقرة القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الإقليمية والدولية عبر الانفتاح خارجيًا على الدول غير الغربية.

وتركز أنقرة على تعزيز نفوذها في ثلاث مناطق حيوية في إفريقيا، وهي القرن الإفريقي الذي يعد السودان ضلعًا رئيسيًا به، وليبيا وامتداداتها في الساحل والصحراء، وساحل غينيا، حيث تتوافر في تلك المناطق موارد طبيعية حيوية مثل: الغاز والنفط فضلًا عن وجود فرص استثمارية، واعدة وسوق استهلاكية ضخمة مفتوحة أمام البضائع التركية.

توظيف أدوات القوى الناعمة

وتزاوج تركيا في مد نفوذها بإفريقيا بين استخدام أدوات القوة الناعمة مثل: الدبلوماسية النشطة، وتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية والمنح التعليمية، والبرامج الثقافية والمسلسلات التلفزيونية المترجمة، وبين استخدام الأدوات الصلبة، التي تشمل مبيعات الأسلحة وبرامج التدريب العسكري والأمني.

وفي مجال التسليح والتدريب، أصبحت تركيا الآن لاعبًا في إفريقيا، يؤخذ على محمل الجد في مجال العلاقات العسكرية والأمنية، لتبرز أنقرة كمزود للأمن في إفريقيا، وذلك في ظل تميز الأسلحة التركية بالجودة المرتفعة، ورخص الثمن وسرعة التسليم وعدم فرض قيود متعددة على الاستخدام، إذ نجحت دبلوماسية “الطائرات بدون طيار”، في نقل العلاقات التركية الإفريقية من مربع العلاقات الاقتصادية والثقافية نحو مربع العلاقات العسكرية والأمنية.

وعلى صعيد المشهد السوداني تحديدًا، وبالرغم من مرور العلاقات بين أنقرة والخرطوم، بموجات صعود وهبوط خلال السنوات الست الأخيرة، إلا أن التزام أنقرة بسياسة واقعية مرنة مكنها من تجاوز الكبوات سريعًا، والانطلاق نحو علاقات تؤمن نفوذها، وتمكنها من لعب أدوار إقليمية تعزز بها مكانتها على خريطة السياسة الدولية.

فبالرغم من حجم العلاقات الكبير نسبيًا بين النظام التركي الحاكم، والرئيس السوداني السابق عمر البشير، والذي توج بزيارة تاريخية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم، إلا أن أنقرة سرعان ما تداركت الإطاحة بالبشير عقب الثورة الشعبية.

ففي 24 ديسمبر/كانون الأول 2017، وفي أول زيارة لرئيس تركي منذ عام 1956، زار أردوغان السودان لمدة 3 أيام، برفقة وفد ضم حوالي 200 من رجال الأعمال، وتم خلال الزيارة توقيع 22 اتفاقًا بين البلدين في مجالات مختلفة.

حينها، كانت الاتفاقية الأكثر أهمية هي الإعلان المشترك عن برنامج التعاون الاستراتيجي، والذي تم بموجبه تأسيس المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بهدف تطوير التعاون الثنائي والإقليمي والدولي بين الدولتين.

رجب طيب أردوغان في أول زيارة لرئيس تركي منذ عام 1956 إلى السودان في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2017 (وكالات)
رجب طيب أردوغان في أول زيارة لرئيس تركي منذ عام 1956 إلى السودان في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2017 (وكالات)

وتشمل مجالات التعاون الاستراتيجي “السياسة، الدفاع، الجيش، الأمن، الشؤون الداخلية، الاقتصاد، التجارة، الجمارك، الطاقة والتعدين، النقل، الزراعة، السياحة، الصحة، التعليم، الثقافة، العلوم، المعونات الإنسانية والتنموية، والتعاون الإقليمي في الإطار الإفريقي”.

وتم الاتفاق على إطار مؤسسي لتأسيس هياكل ولجان مختصة لمتابعة تنفيذ الاتفاقيات على 3 مستويات، وهي المجلس الأعلى برئاسة الرئيسين، ويجتمع سنويًا، ثم المجموعة المشتركة للتخطيط الاستراتيجي برئاسة وزيري الخارجية لـ “وضع الخطط والبرامج ومتابعة تنفيذ الاتفاقيات ورفع التقارير والإنجازات ومقترحات الحلول وتفعيل أفق الشراكة الاستراتيجية”.

إضافة إلى تشكيل 5 لجان، هي: اللجنة الحكومية المشتركة، اللجنة الزراعية، لجنة الشراكة الاقتصادية والتجارية، لجنة التشاور السياسي، اللجان المشتركة في المجالات كافة التي يتضمنها اتفاق برنامج التعاون الاستراتيجي.

ومن بين المجالات التي تم التركيز عليها في الوثيقة الاستراتيجية: التعاون في المجال الأمني من أجل “الحرب ضد الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتهريب”.

وكان قد سبق ذلك توقيع وزيري الدفاع عددًا من اتفاقيات التعاون في مجالات التدريب العسكري والصناعات الدفاعية، في مايو/أيار 2017، على هامش المعرض الدولي للصناعات الدفاعية (آيدف) بإسطنبول.

أيضًا، وكجزء من الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال زيارة أردوغان، استأجرت تركيا جزيرة سواكن السودانية على البحر الأحمر لمدة 99 عامًا بهدف تطوير مينائها الذي كان في الحقبة العثمانية مركزًا سياحيًا، لتمد بذلك أنقرة ذراعًا إضافية في البحر الأحمر في ظل صراع بين القوى الإقليمية على الممر المائي الأبرز.

استدارة سريعة

ومع نجاح الثورة السودانية في خلع الرئيس عمر البشير في 11 إبريل/نيسان 2019، لم تبد تركيا ما يوحي بمعارضتها للتغيير في السودان، رغم علاقتها القوية مع البشير، بل سارع سفيرها في الخرطوم للقاء المسئولين الجدد فيما يشبه التأكيد أن تركيا تحترم رغبة الشعب السوداني.

وتبع ذلك زيارة وزير الخارجية التركي لحضور حفل التوقيع على الوثيقة الدستورية ليؤكد أن تركيا تتعامل بواقعية مع التغيير الذي تم في السودان وأن استراتيجية وجودها في السودان متعلقة بمصالحها ومصالح الشعب السوداني بغض النظر عن نظام الحكم فيه.

في أعقاب ذلك أخذت أنقرة تدير علاقات أكثر عمقًا مع الأطراف الفاعلة ذات التأثير الحقيقي في المشهد، وذلك في إطار منافسة إقليمية داخل ملعب تسعى كل من روسيا وإسرائيل والإمارات والمملكة العربية السعودية، إلى الهيمنة عليه بخلاف صراع من نوع آخر مع مصر الدولة الجارة للسودان.

وسرعان ما تجاوزت أنقرة محاولات الحصار التي عمدت الإمارات لفرضها على دورها في السودان في ظل التأثير الكبير لحكام أبوظبي على مكونات الحكم الجديدة في السودان.

واستقبلت أنقرة على أراضيها كل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، وأعلن كل منهما من هناك، التوقيع على العديد من اتفاقيات الشراكة بين البلدين.

وفي الثالث عشر من أغسطس/ آب 2021، أعلن فؤاد أوقطاي نائب الرئيس التركي تخصيص السودان 100 ألف هكتار (مليار متر مربع) من أراضيه الزراعية لتشغيلها من قبل تركيا.

وقال أوقطاي، خلال مشاركته مع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، في اجتماع مع رجال أعمال ومستثمرين أتراك، في أنقرة، على هامش زيارة التقى خلالها البرهان بأردوغان، إن المباحثات بين تركيا والسودان أسفرت عن توقيع 7 اتفاقيات ومذكرات تفاهم شملت مجالات الطاقة والدفاع والمالية والإعلام.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان (وكالات)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان (وكالات)

هذه الزيارة التي جمعت البرهان بأردوغان، كان قد سبقها بشهرين زيارة لنائبه وقتها حميدتي، على رأس وفد حكومي رفيع المستوى، وهي الزيارة التي أكد خلالها قائد قوات الدعم السريع عن ” تطلعه إلى علاقات أكثر تطورا بين البلدين “.

وجاء التطور الأبرز والأهم في هذا الإطار متمثلًا في الزيارة التي قام بها رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، الذي يوصف بأنه خزينة أسرار أردوغان إلى الخرطوم يناير/كانون الثاني الماضي، ولقائه بالبرهان وحميدتي، لاستكشاف الوضع في السودان عقب توقيع الاتفاق الإطاري بين المجلس العسكري والقوى المدنية والتوجهات المستقبلية للقيادة السودانية.

فرصة سانحة

في الخلاصة يمكن القول إن السودان بموقعه الجيو سياسي وموارده الضخمة البكر وحاجته إلى استثمار متحرر من المساومات والضغوطات السياسية لانتزاع المواقف، سيكون بمثابة فرصة سانحة للأتراك، خاصة وأن هناك تعهدًا سابقًا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برفع استثمارات بلاده في السودان إلى عشرة مليارات دولار.

وفي ظل محفزات مثل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وافتتاح مصرف الزراعات التركي بالخرطوم بما يساهم في حل مشكلة التحويلات المصرفية بين البلدين، وكذلك أمام سياسة خفض التوتر التي تتبناها القوى الخليجية مؤخرًا وتراجع نبرة المحاور الإقليمية، ستكون الفرصة سانحة أمام أنقرة لتوسيع مساحات نفوذها في السودان، بالشكل الذي يمنحها تأثيرًا كبيرًا هناك خلال الفترة المقبلة.