انتهى شهر الصوم، وانتهى معه موسم دراما المسلسلات في مصر، ولكن النقاش والجدال حول الأعمال المقدمة لم يزل مستمرًا… وإذا كان النقد- بشكل عام- يدور حول ثلاثية: (المُرْسِل والرسالة والمرسل إليهم)، فقد كان النقاش حول دراما هذا العام فرصة كبيرة لمتابعة الحضور المؤثر، لأطراف الإبداع الثلاثة بعد أن منحت وسائل التواصل المشاهِدين فرصة تاريخية، للتعبير عن آرائهم وتقييم ما يُقدم إليهم، بل وإيصال صوتهم إلى القائمين على هذا العمل أو ذاك، وإجبارهم على الرد والشرح والتوضيح.
هناك نقد يمكنكَ إدراجه في خانة تصفية الحسابات، والمواقف الشخصية من العمل وصُنَّاعه، وهذا لا يعنينا كثيرًا، رغم تأثيره على شرائح لا بأس بها، وإذا استبعدنا هذا النقد، يبقى لدينا ما قدمه المتخصصون والمثقفون والمشاهدون… ويمكننا في الصدد تقديم الملاحظات الآتية:

أولا: هناك ارتفاع ملحوظ في وعي المتلقين، نجد ذلك واضحًا في ما لا يُحصى من التدوينات، التي يحرص الجمهور على تسجيلها بشكل يومي على وسائل التواصل، وبخاصة بعد أن باتت هذه الحسابات منصات جيدة لكثير من الكُتًّاب، والمختصين في كافة فروع المعرفة، مما أدى بشكل عام إلى ارتفاع منسوب الوعي لدى المشاهدين، الذين أصبح بمقدورهم أيضًا تدوين انطباعاتهم وتسجيل آرائهم بشكل يومي، بل صار بمقدورهم – بفضل السماوات المفتوحة- متابعة الأعمال الدرامية العالمية والإقليمية، ومقارنة ما يُقدّم عندنا وما يقدم في المجتمعات الأخرى، وذلك على كافة المستويات، من السيناريو إلى التصوير وأداء الممثلين…إلخ.

ثانيا: ثمة غضب ملحوظ (والغضب لا يعني تراجع نسب المشاهدة)، من ضعف كثير من الأعمال، والضعف يعود لأسباب متعددة، منها ما يتصل بالخفة وعدم الدقة (راجع مثلا مسلسل رسالة الإمام، وما أبداه المشاهدون من ملاحظات تاريخية، ولغوية تدخل في باب الأخطاء، ولا علاقة لها بوجهة النظر)، ومنها ما يعود إلى نوعية القيم التي يراد لها أن تسود (جعفر العمدة نموذجًا)، وهناك ملحوظة ثابتة تتكرر كل عام، وتتصل بهلهلة البناء الفني لكثير من الأعمال، وهذا يعود لأسباب كثيرة، يأتي على رأسها الالتزام بتوزيع الحلقات على امتداد شهر كامل، دون داعٍ فني لذلك…إلخ

ثالثًا: هناك أعمال نالت تقديرًا واضحًا أكثر من غيرها (التقدير قد لا يعني ارتفاع نسب المشاهدة بالضرورة)، مثل مسلسل تحت الوصاية، نظرًا لموضوعه الذي يسلط الضوء على قضية الوصاية على الأبناء بعد وفاة والدهم، فهنا تقدير واضح لسمو الهدف ونبل الفكرة، وهنا أيضًا تقدير لفريق العمل بشكل عام، وعلى رأسه الفنانة القديرة منى زكي.

رابعًا: كان لغياب قضايا الناس اليومية عن هذه المائدة العامرة، أحد أهم المآخذ التي وجهها المشاهدون، فلا يوجد أي اهتمام يذكر بغول الغلاء الذي هو حديث الناس منذ عدة أعوام، وما يتصل بهذا الغول من قضايا إنسانية واجتماعية وأمنية تتفرع عنه، بالإضافة إلى غياب أي معالجة ولو جانبية لمشاكل التعليم، والصِّحة فضلًا عن قضايا حقوق الإنسان، وانسداد الأفق السياسي العام بعد 2013م، وهي القضايا التي تشغل المواطن وتؤثر على مستقبله، وهو ما سمح للجميع بالغمز واللمز في ضمائر القائمين على هذه الأعمال…!

ورغم ذلك، فمن الضروري أن نتذكر طبيعة السياق الذي يعمل فيه الجميع، وطبيعة القيود التي تمنعهم من تناول تلك الموضوعات، لنقل إنّ السياق ضاغط على الجميع، والتراجع العام في مستوى الأعمال الفنية يتصل أوثق اتصال بغياب الحرية، ورفض السلطة لأي انتقاد في الملفات المذكورة (يمكنك أن تتوسع في مفهوم السلطة لتشمل التنفيذية والاجتماعية)، ونحن نعرف أن الفن- شأنه شأن كل شيء- يزدهر في السياقات الحُرّة، ويذبل في سياقات القهر والاستبداد.

ورغم ذلك، لا يمكننا إعفاء القائمين على هذه الأعمال تمامًا، فالفن بطبيعته طليعي، وفيه جانبٌ نضاليّ. والفنّ تاريخيًّا، يعرف كيف يحتال على السلطة، ويجد الوسيلة للتعبير وتوظيف شفرات معينة يعرفها المشاهدون جيدًا ويلتقطون المراد منها… ولعلك لاتحتاج إلى ذكر الأمثلة، والأدلة على ذلك فلدينا تاريخ فني طويل، ولدينا حيل وظفها المخرجون (في السينما والتليفزيون)، واستقبلها المشاهدون أحسن استقبال، ولا يتوقف الأمر عند الفنون البصرية وإنما يتجاوزها إلى الفنون القولية وعلى رأسها الشعر نفسه، فقد كانت حيلة القناع في الشعر والرمز في الرواية حلًّا جماليا، وظّفه الكتاب والشعراء لخداع السلطة وتمرير انتقادها…!

مع “جعفر العمدة…!

خامسًا: لقد استأثر مسلسل جعفر العمدة باهتمام المشاهدين، ووجهت إليه انتقادات موسّعة، باعتباره فنًّا يستجيب لأفق توقّع الجمهور الكسول، إذ يقدم لهم الإكليشيهات المعروفة، ويشتغل على مجموعة من الثيمات المحفوظة، ويُعظم من الحضوري الغريزي في الحياة، ولا شك في قيمة الغريزة وأهميتها، ولكن دور الفن– طبقًا للدكتور شريف صالح- “ليس استهلاكها (يقصد الغريزة)، بل تقييدها أو أنسنتها أو التسامي عليها بالمعنى الفرويدي… وليس من وظائف الفن تكريس أفعال الانتقام والجنس والضرب بالسكاكين والأرجل والصياح– وكلها أفعال قائمة في الواقع- بل مساءلتها ثقافيًّا وإبداعيًّا، ومساعدة المتلقي للتسامي عليها، لتحترم قيم القانون والحب والتسامح، فأخذ الحق باليد لا يجعله حقا بل عنفًا، وارتدادًا عن مفهوم المدنية- الدولة”.
ولا خلاف حول ما قدمه الدكتور شريف من نقد لجعفر العمدة، ويبقى السؤال: لماذا حظي هذا المسلسل بنسب مشاهدة عالية جعلته يتصدر تويتر لأسابيع متصلة؟

بالتأكيد يمكنك أن تتحدث عن توقيت العرض وقوة الدعاية، فالواقع أن محمد رمضان نفسه يعرف كيف يجعل اسمه حاضرًا طول الوقت، إنه يوظف إمكانات التواصل الاجتماعي ليصبح “تريندًا”، مستمرًا، ليس في شهر رمضان وحده وإنما على فترات مختلفة من العام، ولك أن تضيف إلى ذلك أن محمد رمضان لديه سابقة أعمال رمضانية تستجيب لأفق توقع الجمهور، رغم تنوع الثيمات وإنسانية الحكاية ومتانة الحبكة، واقتداره المعترف به في أداء مختلف المشاهد…إلخ

وإذا اتفقنا على أن دور الفن (المثالي)، هو الارتقاء بالغرائز، وهذا ما لم يفعله جعفر العمدة، فلماذا حظى بنسب مشاهدة عالية من شرائح واسعة من الجماهير؟ هل يعود ذلك إلى تراجع التعليم؟ أم يعود إلى السياق العام الذي يجعلنا أمام البطل الفرد الذي يحمل قسمات وجه عادي جدا، شأنه شأن ملايين الناس، كما أنه ابن الفقر، والمثابرة الذي قدم من الصفوف الخلفية ليتصدر المشهد؟ لقد فعل محمد رمضان كل ذلك دون أن يكون ابنًا لهذا الممثل، أو ذاك… هناك إعجاب عام بهذا الممثل من حيث هو، أو قل هناك تقدير جماهيري له حتى من قبل أن يبدأ العرض الرمضانيّ، ولعلّ هذا ما جعل روائيًّا مثل صبحي موسى يُدوِّن قائلا: “جعفر العمدة أو محمد رمضان سابقًا”…

محمد رمضان جزء من نظرة سائدة للفن، لا تر فيه تعاليًّا عن الواقع، وإنما تراه تنفيسًا عن الواقع، وتجسيدًا لخيال الجمهور الذي يتماهى بدوره مع الممثل، وإذا كان الواقع يعيش ضغوطًا استثنائية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية…تأكد لنا أن مقاومة القهر بالذراع هي البديل النفسي، والمادي لغياب سلطة القانون وانتشار المحسوبية، وأن الانتقال من الفقر المدقع إلى قمة الثراء هو حلم ملايين الفقراء، الذين تطحنهم رحى الغلاء…إلخ

وهذا يعني أن ثمة تطابق ما بين سيرة محمد رمضان، وما يقدمه من أعمال من جهة، وتطابق أكثر تعقيدًا بين ما يقدمه من أعمال، وما يعيشه الناس ويحلمون به بالفعل… إنه بهذا وذاك تجسيد حيّ لأشواق جموع لا حد لها تعيش الظروف نفسها، ولديها الحلم نفسه، إنه لا يخدعها، وإنما يؤكد على قناعتها، وإمكانية تحقيق أحلامها، وإذا غابت سلطة القانون، وغابت معها العدالة الاجتماعية، وباتت سبل الترقي الاجتماعي غير مفهومة، فمن الطبيعي أن يسود هذا النموذج… وليس لنا أن نلومه، وإنما علينا تعديل السياق العام الذي يجعل شرائح كبيرة من الناس تهوي إليه…!

“سره الباتع”…!

سادسًا: وأخيرًا عاد المخرج خالد يوسف إلى الوطن، وإلى مائدة الدراما ربما للمرة الأولى، يعود المخرج القدير بعد أحداث كبيرة، اختلط فيها الموقف الشخصي، والسياسي من خالد يوسف بالموقف مما يقدمه… عاد يوسف ليقدم لنا قصة يوسف إدريس “سره الباتع”، ولا شك أن استلهام النصوص الأدبية عمل محمود، بل لعله أهم ما ينقص الأعمال الفنية التي تقدم هذه الأيام، حاول خالد يوسف أن يجعل من قصة إدريس مركزًا تلتقي حوله الأحداث، التي جرت في يناير وما بعدها، أو قُلْ حاول أن يقدم رؤية تؤكد على قوة الأمة المصرية، وقدرتها على الفعل والتغيير والمقاومة، فقط حين تجتمع وتريد وتستدعي مخزونها الحضاريّ الرّاسخ.

كان على يوسف أن يُجري انتقالات موسعة بين القصص المعاصرة والقصة القديمة، وهو ما يعني انتقالات في الزمن والملابس واللغة والأحداث… فنحن لسنا أمام عمل يسير بشكل أفقي، ينتقل من البداية إلى النهاية على نحو مضطرد… ولنتذكر أن مثل هذه التقنية سبق توظيفها في أكثر من دراما تليفزيونية، لعل أشهرها مسلسل “الخوجة عبد القادر”، الذي لقي نجاحًا كبيرًا وقتها، بما يعني أن الجمهور متمرس على هذا الإخراج المُركَّب.

ورغم نضارة الفكرة وأهميتها، ورغم كل هذا الجهد إلا أنه يصعب عليك مقارنة حضور “سره الباتع”، بمسلسل “جعفر العمدة”، وهنا نعود إلى الموقف من خالد يوسف نفسه، بعد أن بات جزءا من الأحداث السياسية بشكل مباشر، من يناير وحتى 30 يونية وانتهاء بمقعد البرلمان، بما يعني أن توجهه السياسي معلن وانحيازاته لا ريب فيها، وهي انحيازات وطنية بالتأكيد، ولكن الأحداث نفسها ليست موضع اتفاق بين جماهير المشاهدين، الذين يعيشون شدة اقتصادية غير مسبوقة بعد أحداث 30 يونية. هناك انقسام واضح حول كل شيء، وهذا بالتأكيد ينعكس على العمل الفني، ويزداد الأمر صعوبة، إذا كانت الأحداث السابقة نفسها جزءًا من مشاهد هذا العمل.

وهذا يعني أن على “خالد يوسف”، النأي بنفسه عن المشاركة في السياسة بشكل مباشر، وأن يكتفي بتقديم وجهة نظره من خلال الفن، وطبقًا لشروط الفن وحده… وعليه أيضًا أن يُرمِّم صورته أو الــ Ethos الخاص به، فالجمهور يتأثر سلبًا وإيجابًا بما ينتشر في الفضاء الاجتماعي، والثقافي عن المخرجين والفنانين والكُتّاب، والمسلسل شأنه شأن أي نص، يجب أن يستميل الجمهور إليه، ويقنعهم بوجهة نظره.

أخيرًا: الممثل والمخرج

تحدثنا في الفقرة الخامسة عن جعفر العمدة أو الممثل محمد رمضان، وهكذا تحدث غيرنا، وكأن محمد رمضان هو فريق العمل كله، لقد طغى حضوره على باقي الممثلين رغم مواهبهم القوية، وطغى حضوره على كاتب السيناريو، وعلى المخرج… وهذا يحتاج إلى مراجعة.. وتحدثنا في الفقرة السادسة عن المخرج خالد يوسف، وهو أيضًا كاتب السيناريو، ولم نتحدث عن نجوم المسلسل، ومنهم أفذاذ بالفعل، ويستحقون كلامًا مستقلًا، وهذا الوضع أو تلك الهيمنة تحتاج أيضًا إلى مراجعة.