بحسب “كتاب الجنون في الحضارة، التاريخ الثقافي للجنون“، لأندرو سكول أستاذ علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، فإن تطور النظرة إلى الجنون اختلفت بتطور العصر والثقافة، وكانت في مجملها وحتى وقت قريب، أقرب للقسوة، بعد أن مر بمراحل ألقي فيها اللوم على الأخلاط غير المتوازنة، أو المس الشيطاني أو حتى العقاب الإلهي، وكانت كل أشكال المرض العقلي، كالذهان والفصام والاضطراب ثنائي القطب، تصنف جميعها تحت مسمى واحد وهو الجنون، بينما الجنون ليس إلا سمة واحدة من أطياف واسعة للمرض العقلي، يحدث فيها اضطراب هائل ودائم في العقل والعاطفة.
فكرة وجود فرع خاص في الطب يركز على المرض العقلي فكرة حديثة لم تتجاوز 150 عاما، بينما ظلت الثقافات والحضارات المتعاقبة لآلاف السنين تنظر إليه بوصفه عقابا، أو علامة على ضعف الشخصية أو نتاج خيارات أخلاقية خاطئة للمرء.
**
واحدة من القضايا الأساسية المتعلقة بفهم الجنون على مر القرون، هي ما إذا كانت نتيجة مشكلة داخلية تخص الذات، والعقل أم نتيجة قوى خارجية خارقة للطبيعة. إذ نُظر إلى الجنون في البداية على أنه نتيجة مس شيطاني، ليس فقط في الحضارات البدائية والوثنية القديمة، لكن أيضا في بدايات انتشار المسيحية في القرن الأول الميلادي بحسب الكتاب، حيث نظر إلى ممارسة طرد الأرواح الشريرة، كممارسة أساسية يجب أن يخضع لها المرء عند تعميده.
على العكس كان لدى الإغريق والرومان القدماء، نظرة أكثر تطورا نسبيا للجنون، إذ صنفه أبقراط، الطبيب اليوناني الشهير، كمرض عضوي، ينشأ عن خلل في الأخلاط الأربعة: الدم، الصفراء، البلغم، السوداء، إذا اتزنت صار الشخص سليمًا جسديًا وعقليًا، أما إذا اختلت فقد تؤدي إلى الجنون. وحاول الأطباء الإغريق، والرومان أن يعيدوا التوازن بين الأخلاط عن طريق التمارين الرياضية، وتغيير نوعية الغذاء.
بغض النظر عن سذاجة الفكرة بالنسبة لعصرنا الحاضر، إلا أنها المرة الأولى التي عولج فيها المرض العقلي كحالة طبية تنشأ عن سبب طبي، وليس بسبب قوى خارقة للطبيعة.
ورغم أن العرب القدماء حسبوا أن الجنون ليس إلا مسا من الجن، إلا أن اختلاط الحضارة الإسلامية ببقية ثقافات اليونان، والفرس والهند، قد حفظت للعالم ما نعرفه الآن عن الطب اليوناني، والروماني عن طريق الترجمة، فأنتجت الحضارة الإسلامية مزيجا لافتا من المعتقدات القديمة التقليدية، حول كون سبب الجنون هو مس من الجن، وبين النظرة العلمية اليونانية الرومانية للجنون كحالة طبية، ومن أهم الكتب التي أنتجها العلماء المسلمون في هذا الصدد: هو كتاب القانون لابن سينا في عام ١٠٢٥. لخص ” القانون” جميع المعارف الطبية بالعالم تحت تبويب وتصنيف للتشخيص، والعلل والأسباب، والعلاج والدواء في ٥ أجزاء، وكذلك شخص أبو بكر الرازي حالات الاكتئاب، وشدد على ضرورة علاجه في مراحله الأولى قبل أن يصبح مزمنا، جاء إنشاء أول مستشفى أو “بيمارستان”، لعلاج الأمراض النفسية في عصر الوليد بن عبد الملك.
وقد توصل الطب العربي في العصرين: الأموي والعباسي إلى علاج الجنون بوسائل مختلفة، تشمل الاهتمام بهذه الفئة بطرق عديدة، ابتداء من غسل أجسادهم بالماء في الصباح، والمشي والتنزه واشتمام الزهور الطبيعية في الحدائق التي ترفق بهذه المستشفيات، كذلك استخدمت الموسيقى في العلاج، وأيضاً الأفيون بمقادير مختلفة.
وتوصلت أوروبا في القرون الوسطى إلى نظرة مماثلة تمزج بين النظرة التقليدية للجنون، وبين كونه حالة طبية تعتمد على اختلال الأخلاط، وكان هناك تمييز للجنون الناتج عن الاستحواذ الشيطاني، فيذهب بأصحابه إلى القس وبين هؤلاء الذين أصيبوا به لمرض عضوي.
**
وبحسب كتاب موجز تاريخ الجنون لروي بورتر، ظلت نظرة رجال الكنيسة هي الحاكمة في التعامل مع مرضى الجنون، وارتبطت بحملات قاسية عرفت باسم حملة مطاردة الساحرات.
بدأ حجز المجانين في مصحات خاصة في عصر متأخر نسبيًّا، حيث كانت المجتمعات القديمة تترك مهمة رعاية المجانين والمعاتيه لأسرهم، وكتَب “أفلاطون”، في “القوانين” يقول: “إذا كان المرء مجنونًا، فلا ينبغي أن يترك له الحبل على الغارب، فيتجوَّل في المدينة كيف يشاء، بل يتوجَّب على عائلته أن تتعهَّده، وتتحفَّظ عليه بشتى السبل”.
وفي أواخر العصور الوسطى، تولَّت الأديرة حجْز المجانين في أبراج أو أقبية، جعلت تحت الرعاية الرسمية، وتولَّى دير “سانت ماري”، عام 1247 – والذي عُرِف بعد ذلك باسم “بدلام” – رعاية المجانين في لندن، وكانت القرية الفلمنكية “غيل” – والتي احتضنتْ مقام القديسة “ديفنا” – قد اكتسبتْ شهرة؛ لكونها كانت مركزًا لعلاج المجانين، ونرى أن أُولى المدن التي احتضنت مستشفيات لرعاية المجانين كانت مدن “بلنسية، وسرقسطة، وإشبيلية، وبلد الوليد، وطليطلة، وبرشلونة”، وذلك اقتداء بالمستشفيات الإسلامية في العهد الأندلسي قديمًا.
وتمت في عهد “لويس الرابع عشر”، حركة مطاردة قانونية للمجاذيب في فرنسا؛ حيث تم احتجاز ما يقرُب من 6000 نسمة من الفقراء، والمتشردين وصِغار المجرمين والبُلْه والمجانين في مستشفى باريس العام!
ويرى “فوكو”، أنه قامت في الوقت نفسه حركات مشابِهة في كل من إنجلترا وألمانيا؛ حيث تم إيداع المجانين في السجون والإصلاحيات والملاجئ، كإجراء بوليسي وصائي من جانب الدولة.
وفي روسيا مثَّلت الأديرة مكان احتجاز للمجانين، ولم تُعرَف أمكنة إيواء المجانين التي تُشرِف عليها الدولة قبل عام 1850م، ومع نهاية القرن التاسع عشر لم يكن في البرتغال سوى مصحتين اثنتين تقومان بإيواء المجانين، ولم يتجاوز عدد نزلائهما 600.
ونجد أن عزْل المجانين كان يتم حتى عام 1800م في مصحات خاصة، تقوم على أساس ربحي ضمن اقتصاد السوق، وكانت هذه المصحات تلتزِم بالسريَّة التامة لتاريخ مرضاها، وتَدَّعي حُسْن الرعاية والعلاج الدوري، وكانت هذه المصحات الخاصة تخدُم مبدأ “المتاجرة بالجنون”.
وفي القرن الثامن عشر، كانت بعض تلك الدُور بمثابة نقطة جذب سياحي؛ حيث يدفع الزوار رسوما للدخول لمشاهدة المرضى كحيوانات في حديقة، كما أنها كانت تستخدم كوسيلة لوعظ الزوار؛ حيث صورت الأمراض بوصفها نتاج سلوكيات غير أخلاقية.
استمرت ممارسة تفريغ أفراد الأسرة المصابين بأمراض عقلية، ومعاقين في مؤسسات تسيء معاملة مرضاها حتى منتصف القرن العشرين.
ومنذ القرن السادس عشر مع حدوث الثورة العلمية في أوروبا، وتطور النهج العلمي، واجهت الكنيسة الكاثوليكية تحديات بشأن النظر للجنون بوصفه نتاج قوى خارقة للطبيعة، حتى إن البابا بيوس السادس في القرن السابع عشر، أمر الكهنة بالتوقف عن عمليات طرد الأرواح الشرير، التي استهدفت المعاقين أو المضطربين عقليا؛ بسبب الانتقادات الموجهة من البروتستانت، بأنها ممارسات خرافية قد عفا عليه الزمن.
لكن ظل الاتهام بالجنون يستخدم لأغراض سياسية من أجل القضاء على المعارضين، أو تحدي شرعية الطوائف المختلفة.
**
مع تطور الطب الحديث في القرنين الثامن والتاسع عشر، والفهم العملي الفعلي للجسم البشري، حيث بدأ تعريف العديد من الأمراض، وفهمهما من بنيها التعرف على السرطانات المختلفة، وتطوير أشكال مبكرة من التطعيم، وفهم نظرية الجراثيم، فأعيد النظر للأمراض العقلية كمرض ناجم عن مشاكل جسدية، نتيجة الإدراك البدائي لتشريح الجسد البشري، ورغم ارتفاع وتيرة الجدال من قبل الإصلاحيين بوجوب معاملة المريض العقلي بطريقة أكثر إنسانية، إلا أن الافتراض الشائع أن العلاج المناسب هو تعليم المرضى أن يكونوا أكثر أخلاقية ظل قائما، مثل: الاعتزاز بالنفس والحياء والنظافة، وذلك ظنا بأن تلك الأخلاق تساعد المرضى على التحكم في سلوكهم، ومن ثم تتحسن صحتهم. ومع هذا، ظل هناك العديد من المصحات العقلية في أوروبا التي تقام كالسجون؛ حيث يتم احتجاز المرضى وضربهم وتكبيلهم.
لكن ظهرت مستشفيات أكثر إنسانية مثل: مصحة “يورك”، وظهرت الأشكال المبكرة للعلاج بالكلام، لكن لم يكن هناك تواريخ لإطلاق سراح أو إشراف حكومي، وكان أي سلوك غريب يعاقب بالإيداع في تلك المؤسسات.
لكن مع الوقت بدأ الأطباء في التفكير في الجنون بوصفه طيفا واسعا من الاضطرابات العقلية المختلفة، التي قد لا تسمى جنونا، والافتراض أن الظروف والتجارب المختلفة يمكن أن تسهم في عدم الاستقرار العقلي، وتنوعت الفرضيات في فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، حول كون المرض العقلي قد ينتج عن مشكلة في الأعصاب، أو الضغط أو التهاب في الدماغ، واقترح آخرون أن تجارب كالحرب والاضطراب السياسي قد تكون سببا في الاضطراب العقلي، واكتشف أن مرض الزهري قد يؤدي إلى تلف في الدماغ، والذي بدوره قد يتسبب في مشاكل سلوكية.
تدين بداية علم النفس كمجال علمي، وطبي مستقل تدين بالتأثير الهائل لشخص واحد هو “سيجموند فرويد”، الذي أسس مجال التحليل النفسي، حتى لو كانت الكثير من نظرياته تتراجع في عصرنا الحاضر، إلا أن تأثير مساهماته ما زال حاضرا بقوة.
نظر فرويد للعقل بوصفه في حالة من السيولة، والديناميكية التي يمكن أن تتأثر الصحة العقلية بتجارب المرء، أو ما يسمى التروما، أو التي تُظهر نفسها في أمراض كالهيستريا، وترتبط في جذورها بذكريات مكبوتة، وكان أول من أدخل مفاهيم مثل التطور النفسي الجنسي، وهي أفكار كانت ثورية في وقتها.
وربما كان أهم تأثير لفرويد هو اختراع العلاج بالكلام، لم يمض وقت طويل على طرح فرويد لنظريته، حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى. وفي زمن الهدنة، اشتكى الآلاف من الجنود من اضطرابات عصبية ونفسية، ومن الشعور بالصدمة نتيجة أهوال الحرب، وتراوحت أعرض أمراضهم بين فقدان النطق إلى سرعة نبضات القلب، ومن الشلل، أو العمى المؤقت.
لم يكن الأطباء يعرفون بالضبط ما هو أسلوب العلاج الأمثل، ومع افتراض أن الجنود المرضى ضعاف العقول، أو يعانون من الجبن، فقد قام الأطباء بمعاملتهم بقسوة شديدة، وهم يحاولون علاجهم. واستخدموا الصدمات الكهربائية على أطراف الأعضاء، ورفعوا الشموع بجوار عيون المرضى الذين يشتكون من العمى، بل وأخضعوا من أصابهم الخرس إلى ألم مبرح، حتى يجبروهم على الصراخ.
لم يدرك العالم إلا بعد عدة عقود، أن الذي كان يعاني منه المرضى، كان مرضاً يعرف باسم اضطراب ما بعد الصدمة Post-traumatic disorder.
تطورت في القرن العشرين أساليب علم النفس، والطب النفسي الذي يعامل الدماغ كعضو مثل باقي الأعضاء، وتطور علم الأدوية النفسية لتظهر عشرات الأدوية التي تساعد على علاج مجموعة متنوعة من الأمراض العقلية مثل: القلق والاكتئاب واضطراب الوسواس القهري والذهان والفصام، واقترب علم النفس من مجال العلوم الطبية أكثر مما كان عليه في وقت فرويد، وساعد البحث العلمي على توضيح أنواع العلاج بالكلام الفعال، وتقديم أفكار محتملة حول ما الذي يجعلها فعالة فعلا، واستندت أشكال العلاج مثل: العلاج السلوك المعرفي إلى علم الأعصاب.
ورغم كل هذا التطور بحسب “كتاب الجنون”، في الحضارة، إلا أن أشكال الرعاية للمرض العقلي ما زالت في حاجة إلى تطوير، حتى في البلدان التي يتمتع سكانها برعاية صحية عالية، لا يوجد بها تغطية كافية للمرض العقلي، ويرى أندرو سكول، أنه مازال الكثيرون ينظرون للمرض العقلي على أنه علامة على خلل في السلوك الشخصي، وهي نظرة في حاجة إلى التغيير.
الخلاصة أن المرض العقلي قديم قدم البشرية، وطريقة نظرنا إليه تعكس روح وثقافة العصر، وتخبرنا طريقة التعامل معه عن أنفسنا أكثر مما تخبرنا عن الجنون، فمعاملة الشخص الأضعف بيننا ما زال الاختبار الحقيقي الذي نواجهه من أجل مجتمع عادل ومنصف.