في الثامنة من صباح الرابع عشر من مايو/أيار المقبل، تنتظر تركيا أكثر الاستحقاقات الانتخابية تعقيدًا، في ظل مشهدين داخلي وخارجي مرتبكين، نظرًا للكثير من التحولات والتغييرات على المستوى الإقليمي والدولي، وكذا على الصعيد الداخلي، نظرًا للتداعيات التي خلفها الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد في السادس من فبراير/شباط الماضي، وتسبب في مقتل 45 ألف، وخسائر إجمالية قاربت المائة مليار دولار.
ما يضفي مزيدًا من التعقيد على المشهد الانتخابي في تركيا، هو التقاطع والتداخل الكبير بين جمهور التحالفات الانتخابية، التي أعلنت عن نفسها حتى الآن، في ظل حالة من التباين الواضح بين مكونات تلك التحالفات.
ويتنافس في الانتخابات الرئاسية التركية أربعة مرشحون، هم الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، وزعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، إضافة إلى مرشحين آخرين، وهما زعيم حزب البلد محرم إنجه المنافس في الانتخابات السابقة، وسنان أوغان من تحالف الأجداد الذي يتبنى موقفًا حادًا من تواجد اللاجئين السوريين والوجود العربي بشكل عام في تركيا.
ويتطلب الفوز بالانتخابات التركية الحصول على 50%+1 من الأصوات وذلك لحسمها من الجولة الأولى.
خريطة التحالفات
يشارك في المشهد الانتخابي 4 تحالفات، أولهم: تحالف الجمهور الحاكم بقيادة أردوغان، ويضم بجانب حزب العدالة والتنمية أحزاب الحركة القومية، وحزب “هدى بار”، الكردي وحزب “الرفاه الجديد”، بزعامة فاتح أربكان نجل الزعيم التاريخي نجم الدين أربكان، وحزب الاتحاد الكبير.
أما التحالف الثاني: فهو “تحالف الأمة”، المعروف بـ”الطاولة السداسية”، بقيادة كليجدار أوغلو، ويضم بجانب حزب الشعب الجمهوري، أحزاب الجيد والسعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي.
وثالثهم: تحالف العمل والحرية (كردي)، ويضم حزب الشعوب الديمقراطي، وحزب العمال التركي، وحزب الحركة العمالية، وحزب العمل، وحزب الحرية الاجتماعية، واتحاد المجالس الاشتراكية، ولم يعلن التحالف أي مرشح للانتخابات الرئاسية.
والتحالف الرابع: هو تحالف “أتا”، الذي يقوده “حزب النصر”، بزعامة القومي اليميني أوميت أوزداغ، ويضم كذلك أحزاب مثل: الحقيقة، المعروف بعدائه الكبير لوجود اللاجئين السوريين، والوجود العربي عموما في تركيا، وكلمة “آتا”، تفسر ميوله السياسية؛ حيث ترتبط باسم كمال أتاتورك، وأتاتورك تعني أبا الأتراك، ورشح التحالف سنان أوغان لانتخابات الرئاسة.
منافسة شديدة
المنافسة الشديدة ستكون هي السمة المسيطرة على الانتخابات الرئاسية، والبرلمانية التركية، وذلك في ظل تصاعد أهمية الأحزاب الصغيرة وتجذر الاستقطاب في المشهد السياسي التركي، والذي قد يؤدي إلى عدم تجاوب الناخب مع الخطاب السياسي للتحالفات، وبالتالي تمسكه بموقفه السابق.
ورغم أن لدى حزب العدالة والتنمية فرصة أكبر للتقدم في النتائج، لكن احتمالية عدم إمكانية حصوله على نسبة 50% قائمة وموجودة؛ بسبب احتمالية اقتطاع أصوات من حزب الحركة القومية من قبل المرشح سنان أوغان.
في حين أن إمكانية حصول محرم إنجه، المنشق عن حزب الشعب الجمهوري على أصوات معتبرة من حزبه السابق، وكذا إمكانية حصوله على قسم من أصوات حزب العدالة والتنمية الحاكم، تعزز من احتمال ذهابه للجولة الثانية.
رهانات خاسرة
من بين كبرى المفاجآت في الانتخابات التركية المقبلة، كانت إعلان عدد من أصدقاء أردوغان السابقين، أحمد داود أوغلو وزير الخارجية السابق المنشق عن حزب العدالة والتنمية التركي، والرئيس الحالي لحزب المستقبل، وعلي باباجان وزير الاقتصاد السابق ورئيس حزب التقدم والديمقراطية الحالي، الانضمام للتحالف المناوئ لصديقهما السابق، ودعم مرشح المعارضة العلماني “كمال كليجدار” الذي طالما وقفا في مواجهته في أوقات سابقة، عوضًا عن الدخول في قوائم خاصة بهم، أو على الأقل في بعض الدوائر، وذلك رغم أن حزبيهما يصنفان ضمن الأحزاب الإسلامية المحافظة، هذا بخلاف حزب السعادة الإسلامي المحافظ أيضًا، والذي يضم قطاعا كبيرا ممن يحملون فكر جماعة الإخوان المسلمين الأتراك.
ولعل ما دفع حزب الشعب الجمهوري العلماني لوضع يده في أيدي أحزاب، وشخصيات سياسية تتبنى أيديولوجية مناقضة تماما لما يتبناه، هو الرهان على استقطاب الحزبين لشريحة قد تتعدى الـ10% من القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية بحكم المواقف السابقة، كما روجت المعارضة.
اقرأ أيضًا: تركيا تقفز فوق الثوابت.. ورئيسها ذاهب لانتخابات 2023 باستدارة إلى الوراء
إلا أن هذا الرهان يصطدم بعدم إمكانية قبول المحافظين والإسلاميين، التحالف بأي صورة من الصور مع حزب الشعب الجمهوري؛ نظرا لتاريخ العداء فيما بين أصحاب التيارين.
ولعل نتائج حزب السعادة الإسلامي، منذ تحالفه مع حزب الشعب الجمهوري، تمثل دليلا دامغا على صحة هذا الطرح، إذ لم تتخط نسب الحزب في الاستحقاقات الانتخابية السابقة أكثر من 3%، وهو الحزب الذي يضم عددًا من الحرس القديم المحسوب على نجم الدين أربكان، الذي يعرف بأنه أبو الصحوة الإسلامية في تركيا، ويعد أستاذًا لأبناء هذا التيار، وفي مقدمتهم أردوغان وأحمد داود أوغلو.
كما يأتي من بين المؤشرات السلبية بالنسبة لهذا التحالف، إعلان تنظيم “مللي جوروش”، الرفض التام للتصويت لكليجدار أوغلو من منطلق أيديولوجي خالص، رغم وقوف أحمد داود أوغلو وباباجان إلى جواره، حيث أكد التنظيم دعمه لأردوغان باعتباره نجح في تحقيق كل ما كان يتمناه، ويحلم به الراحل نجم الدين أربكان، إذ أعاد آيا صوفيا مسجدًا تقام فيه الصلوات الخمس، ويصدح فيه صوت القرآن الكريم، كما بنى مسجدًا في وسط ميدان تقسيم، وقام بتطوير الصناعات الدفاعية، وأصبحت تركيا من ضمن الدول التي تقوم بتصنيع جزء لا يستهان به من احتياجاتها العسكرية في ظل حكمه.
ويعد “مللي جوروش”، الذي دشنه نجم الدين أربكان عام1969 أكبر المنظمات الإسلامية غير الحكومية في أوروبا، ويقدم خدمات متنوعة، ويضم تحت مظلته عددا من الجمعيات.
وتقوم المنظمة على فكرة القوة المعنوية، والروحية للعقيدة الإسلامية والإيمان بها، معتبرة أن تراجع العالم الإسلامي كان نتيجة لتقليد القيم الغربية مثل (العلمانية).
وتعني “مللي جوروش”، بالعربية “فكر الأمة”، أو “رأي الأمة”، وكانت القوانين التركية (آنذاك) تمنع استخدام كلمة الإسلام بشكل مباشر في المؤسسات والحركات، لذلك أطلقت هكذا، وتعني “ملة إبراهيم حنيفا”، أي العقيدة الإسلامية.
ومؤخرًا، أعلنت جماعة “المنزل”، وهي طريقة صوفية تحظى بأكبر عدد من الأعضاء في تركيا، دعمها لأردوغان وتحالفه.
رؤية “العم الديمقراطي” وفرصه في السباق
لم يسبق وأن اعتُبر كمال كليجدار الملقب بالعم الديمقراطي محط آمال المعارضة، لكنه استطاع في النهاية الانتصار والقبول به. كمرشح مشترك لتحالف “الطاولة السداسية”، المعارض الذي تأسس في فبراير 2022 لخوض هذا السباق الانتخابي.
ويتولى كليجدار رئاسة حزب الشعب الجمهوري، الذي يتبنى التوجه العلماني الكمالي، نسبة إلى مصطفى كمال مؤسس جمهورية تركيا الحديثة، ومنذ عام 2007، وهو يتولى رئاسة حزب الشعب الجمهوري.
وأعلن كليجدار، وحلفاؤه في الطاولة السداسية، موقفهم من شكل الدولة حال فوزهم في الانتخابات مؤكدين، على العودة إلى “النظام البرلماني”، وإلغاء التغييرات الدستورية، التي أجراها أردوغان لتعزيز وتوسيع سلطاته كرئيس للجمهورية.
كما أكد كليجدار، أنه كرئيس يريد إلغاء “جريمة إهانة الرئيس”، المنصوص عليها في قانون العقوبات، والتي تمكن الرئيس أردوغان من خلالها بحسب تصريحات للمرشح الرئاسي، من ملاحقة الكثير من الناس ومعارضيه ومحاكمتهم.
جزء رئيسي ضمن رؤية كليجدار حال فوزه بالانتخابات، هو موقفه من اللاجئين، حيث أكد في خطاب انتخابي أنه سيعمل على إعادة اللاجئين السوريين لبلادهم خلال عامين في حال الفوز بالانتخابات، وقال “سنرسل إخواننا السوريين إلى بلادهم خلال عامين من دون أن نلطخ سمعة بلادنا بأية تصرفات عنصرية، وسنعيد الأفغان الذين دخلوا تركيا من الحدود مع إيران إلى البلد الذي جاءوا منه، وفي رئاستنا للجمهورية لن تكون معابرنا وحدودنا مثل خان عابر السبيل”.
ويحظى كليجدار أوغلو بدعم عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وعمدة العاصمة أنقرة منصور يافاش، وكلاهما من حزبه ويتمتعان بشعبية كبيرة، وفي حال فوزه بالانتخابات الرئاسية سيتم تعيينهما كنائبين للرئيس.
وحسب العديد من السياسيين الأكراد أصحاب النفوذ والمعبرين عن المواقف الرسمية، فإن الناخبين الأكراد الذين تقدر نسبتهم بنحو 15 إلى 20 بالمائة من عدد الناخبين في تركيا، سيدعمون كليجدار أوغلو أيضًا وسيصوتون له ضد أردوغان.
الخلاصة، يمكن القول أنه رغم المعاناة التي يواجهها أردوغان، وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا إلا أن حظوظهم تظل الأوفر في ظل مشهد داخلي شديد الارتباك والتناقض، فشلت فيه المعارضة في اللعب على نقاط ضعف الرئيس واستغلال تراجع المؤشرات الاقتصادية، أمام خطوات غير تقليدية أقدم عليها أردوغان خلال العام الماضي، عبر تبني سياسة صفر مشكلات مع دول الإقليم الرئيسية، فعمد إلى تصحيح مسار العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر.