رغم إعلان قائد الجيش السوداني موافقته المبدئية على مبادرة “الإيجاد”، (الهيئة الحكومية للتنمية ومقرها جيبوتي، وهي منظمة شبه إقليمية يرأسها حاليا السودان)، والتي تنص على مد الهدنة 72 ساعة، تمهيدا لوقف إطلاق النار، وتنص على إرسال وفد من الجيش وآخر من الدعم السريع إلى جوبا، للتفاوض حول تفاصيل هذه المبادرة التي جاءت في وقت خرجت فيه مبادرات إقليمية، ودولية عديدة لتحويل “الهدن الهشة”، لوقف دائم لإطلاق النار.

ومع ذلك، فإن الوضع في البلاد لا يزال مقلقا؛ خاصة بعد تمسك كلا الطرفين بإقصاء الطرف الآخر، وأن خطر الفوضى الشاملة يظل حاضرا.

والحقيقة، أن ما يجري في السودان هو نتاج سلسلة من الأخطاء حكمت المرحلة الانتقالية، وأوصلت البلاد إلى حافة الانهيار، وبات مطلوبا من الجميع البحث عن مخارج لهذا الصراع، خاصة أنه جاء في وقت يحاول فيه العالم العربي ترميم جروحه، وتجاوز انقساماته، وهو ما قد يساعد على إيجاد مخرج للصراع الحالي في السودان.

وقد يكون طرح هذه النقاط الخمسة، التي يمكن البناء عليها لكي يخرج السودان من محنته وتتمثل في:

أولا: ضرورة الاستفادة من الانفراجات التي تشهدها المنطقة العربية في أكثر من ساحة، على عكس ما يشهده العالم من مواجهات ساخنة في أوكرانيا، فهناك انفراجه في اليمن، وتبادل للأسرى بين طرفي النزاع، وهناك توقف للمواجهات العسكرية في ليبيا، حتى لو تعثر المسار السياسي. ومن هنا، فإنه حتى لو كانت هناك دول عربية لديها تحيزات لأحد الطرفين، إلا أن البيئة المحيطة لا تدفع إلى تزكية الصراع المسلح في السودان، وهو أمر يمكن البناء عليه.

ثانيا: يجب العمل على دعم كل جهود الوساطة الإفريقية والعربية والأممية، حتى يمكن إنهاء المعارك في أسابيع محدودة، وتفادي خطر سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية، وخطر تفكك السودان ليصبح نموذج لدولة فاشلة منسية يهتم العالم فقط بنقل رعاياه، ومنع تدفق اللاجئين وجماعات التطرف إلى خارج حدود السودان.
مطلوب أن يعي المجتمع الدولي خطر انهيار السودان، وأن يسعى لوقف إطلاق النار، ليحافظ على ما تبقى من الدولة السودانية، بصرف النظر عن نتيجة المعارك فالمتوقع ألا ينتصر الجيش بشكل حاسم كما أنه لن ينهزم، إنما سيستنزف في معارك كر وفر مع الدعم السريع ستقضي على ما تبقى من الدولة السودانية، وتدخل البلاد في فوضى شاملة.

ثالثا: معارك “لا غالب ولا مغلوب”، هي أخطر أنواع المعارك والصراعات، وتنتهي عادة بالعودة لطاولة التفاوض، ولكن بعد أن تكون دمرت كل شيء، ولذا فإن وجود مؤشرات على أن طرفي الصراع اقتربا من الوصول لتلك النتيجة أي “لا نصر حاسم”، وأن” الرابح خاسر والمنتصر مهزوم، بما يعني وجود فرصة لكي يقبلا بوقف إطلاق النار، ويعودا لطاولة المفاوضات، وهنا سيعاد طرح نفس القضايا التي لم يتم حلها من قبل، وعلى رأسها مستقبل دمج قوات الدعم السريع في الجيش الوطني، وانسحاب الجيش من العملية السياسية والتوافق على نظام سياسي جديد.

رابعا: إذا نجحت جهود الوساطة الدولية فلا بد من البحث عن “خروج آمن”، لكلا الرجلين أي قائد الجيش وقائد قوات الدعم السريع؛ لأنه ببساطة مستحيل أن يقبل حميدتي أن يعمل مرة أخري تحت قيادة البرهان، ولن يقبل قادة الجيش أن يكونوا تابعين لحميدتي، أو يعملون معه، وأن صيغة الموائمة وترحيل المشكلات، والترضيات التي سيطرت على مسار المرحلة الانتقالية الممتد منذ أربع سنوات مستحيل أن تستمر مرة أخرى، ولا يجب تكرارها.

خامسا: ما هو مستقبل العملية السياسية في حال النجاح في وقف إطلاق النار؟ البعض يرى أن الحل في تسليم السلطة للمدنيين، وإجراء انتخابات وكفى، في حين أن المطلوب عدم تكرار نفس تجارب الفشل السابقة منذ استقلال السودان، وأدت أن يكون الحكم العسكري هو القاعدة، والمدني هو الاستثناء. فالمؤكد أن القوى المدنية وخاصة قوى الحرية والتغيير، ليست بالقوة الكافية لكي تفوز بأغلبية في أي استحقاق انتخابي، فستظل قوة مؤثرة تحمل مبادئ ملهمة، ولكن وزنها الانتخابي أضعف من القوى التقليدية، والقوى المؤيدة للجيش ولذا لم يكن غريبا أن تؤجل الانتخابات، وتطول المرحلة الانتقالية تحت حجج مختلفة أبرزها تفكيك النظام القديم.

والحقيقة، يجب على قوى التغيير في السودان أكثر من غيرها أن تبحث عن رجل جسر” لا يمثلها بشكل كامل، ولكنه يعطيها الحق في العمل والتنظيم والحركة، كما أنه يطمئن الجيش والقوي المحافظة، ويكون عينه على المستقبل وليس تصفية حسابات مع الماضي، والبقاء أسرى معاركه، حتى لو جاء هذا الموقف على حساب وجود السودان وحياة شعبه.

فإن من المهم العمل على إيجاد مخرج سياسي جراحي يراهن على رجل جسر بين الأطراف المتصارعة، ويوقف الصراع المسلح، ويؤسس بشكل تدريجي، لمنظومة حكم جديدة لا تعيد تكرار سلبيات المرحلة الانتقالية.