خلال السنوات الماضية، بعثت اكتشافات الغاز في شرق المتوسط الآمال بأن “دبلوماسية الغاز”، يمكن أن تعيد بشكل جذري صياغة العلاقات بين بلدان المنطقة، وربما حتى مع بلدان أبعد. وقد أسهم تأسيس منتدى شرق المتوسط للغاز في هذا الاتجاه من التفكير.

لكن في الواقع، تواجه آفاق “دبلوماسية الغاز”، قيودا كبيرة في منطقة حافلة بالصراعات المسلحة والنزاعات السياسية. بما في ذلك الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين، ونزاع إسرائيل ولبنان، وقبرص، وتركيا واليونان، وغيرها.

حقل “ظهر” المصري للغاز في شرق البحر المتوسط- أرشيفية

ومع انهيار خطط الاتحاد الأوروبي، لمد خط أنابيب يحمل غاز المنطقة، يشير تقرير جديد، صادر عن مجموعة الأزمات الدولية/ Crisis Group، إلى أنه حان الوقت لإعادة النظر في التوقعات بشأن دبلوماسية الغاز.

ووفقا للتقرير الذي أعده عدد من الخبراء في بروكسل، ينبغي على حكومات شرق المتوسط التركيز على الأسواق الإقليمية والتعاون الإقليمي. ويتعين على الجهات الفاعلة الساعية إلى تسوية الصراعات أن تركز على الديناميكيات السياسية، وإعطاء دبلوماسية الغاز دورا ثانويا.

اقرأ أيضا: الإعلان عن حقل غاز جديد.. أي استفادة لمصر؟

كما أشار التقرير: إلى أنه يتعين على منتدى غاز شرق المتوسط، أن يهدف إلى توسيع عضويته. وأن يعمل تدريجيا -إذا دعت الحاجة- على ضم تركيا.

وأوضح أنه “بهذه الطريقة فقط، يمكن للمنتدى أن يصبح -فعليا- قوة للاندماج والاستقرار. بدلاً من إعادة خلق ومفاقمة خطوط التماس السائدة أكثر مما ينبغي في المنطقة.

لقراءة التقرير كاملا اضغط هنا

دبلوماسية الغاز

عندما أطلقت الولايات المتحدة هذا المصطلح، كانت تتطلع إلى استخدام ثروة الطاقة الجديدة في المنطقة؛ لجمع بلدانها المتصارعة على طاولة المفاوضات.

في هذه الفترة، أسست مصر وإسرائيل -المستفيدتان الرئيسيتان من الاكتشافات الجديدة- منتدى إقليمي للغاز. وأطلق الاتحاد الأوروبي دراسة، لخط أنابيب يمكن أن يحمل الغاز الإسرائيلي -وربما القبرصي- إلى أوروبا. وهو مشروع بدا أنه حان وقته، بعد أن قطع غزو موسكو الشامل لأوكرانيا إمكانية الوصول إلى الغاز الروسي.

لكن، يبدو أن مشروع خط الأنابيب توقف بسبب هواجس تجارية وبيئية.

ومن جوانب أخرى، تبين أن الآمال العريضة التي علقت على اكتشافات الغاز في شرق المتوسط، كان مبالغاً بها. ولذلك ينبغي على جميع الجهات الفاعلة، أن تركز الآن على هدف أكثر تواضعاً يتمثل في رعاية مقاربة شاملة لاستغلال الموارد، لتعزيز الاندماج والاستقرار الإقليميين – ومتابعة التحرك نحو مصادر الطاقة المتجددة.

ويلفت التقرير إلى أنه “في أعقاب اكتشافات كبيرة قبل أكثر من عقد – حقل ظهر قرب مصر وحقلا تمار وليفياثان قرب إسرائيل، وحقل أفرودايت قرب الساحل القبرصي-كان الدبلوماسيون الأمريكيون والأوروبيون متفائلين، بأن احتياطيات غاز جديدة من شأنها أن تطلق تعاونا اقتصاديا إقليميا أكبر. وأن تحقق الاستقرار من خلال تغيير الوقائع السياسية في جزء استراتيجي من العالم”.

لذلك، قادت الولايات المتحدة “دبلوماسية الغاز”، للتوصل إلى اتفاقيات غاز منفصلة بين مصر وإسرائيل، وإسرائيل والأردن، وإسرائيل ولبنان. كما كانت تأمل بأن صادرات الغاز يمكن أن تحفز اللاعبين الإقليميين لتحقيق اختراقات نحو تسوية الصراع في مسائل غير ذات صلة بالطاقة.

أبعاد أخرى

وفق التقرير “حتى اتفاقيات الغاز التي كان من المتوقع أن تتوج دبلوماسية الغاز تبدو أقل أهمية عند تفحصها مما قد يبدو للوهلة الأولى”.

يقول: الاتفاقات بين إسرائيل، من جهة، ومصر والأردن، من جهة أخرى، أضافت بعداً إيجابياً إلى التعاون الثنائي. لكن، إسرائيل وقعت بالفعل اتفاقيات سلام مع هذين البلدين قبل وقت طويل. لذلك، يمكن القول إن اتفاقية إسرائيل مع لبنان -التي ما تزال رسميا في حالة حرب معها- أكثر أهمية، حيث أدت إلى اتفاقية ترسيم حدود بين البلدين.

لكنه أشار إلى أن “اتفاقيات الغاز مع مصر والأردن لم تفعل الكثير لبعث الدفء، فيما يمكن أن يشخَّص بأنه “سلام بارد”. بينما لم يُظهر اتفاق الحدود بين إسرائيل ولبنان، أي علامة حقيقية على تجاوز عقود من العداء بين الطرفين”.

وفي أماكن أخرى من شرق حوض المتوسط، فإن إطلاق “دبلوماسية الغاز”، كانت نتائجه أقل إيجابية. حيث فاقمت اكتشافات الطاقة التوترات، بدلا من أن تخفف حدتها.

يشير التقرير إلى أنه “على خلفية فشل الجهود الدبلوماسية، لم تؤدِّ اكتشافات الغاز بجوار الساحل القبرصي إلى تقريب القبارصة اليونانيين، والأتراك بعضهم من بعض. إذا كان لذلك أي أثر، فإن هذه الاكتشافات باتت مصدراً لاحتكاكات إضافية على الجزيرة المقسمة”.

في هذه الأثناء، فإن حقل غزة مارين، الذي اكتشفته شركة الغاز البريطانية قرب ساحل غزة في 1999-2000 -أي قبل عقد من اكتشاف إسرائيل الكبير لجائزتها الكبرى المتمثلة في حقلي تمار وليفياثان- فإنه ما يزال غير قابل للاستثمار بسبب القيود الإسرائيلية. ومن ثم، لا يعود بأي فائدة على سكان قطاع غزة الذين يعانون نتائج حصار إسرائيلي خانق.

في يناير/ كانون الثاني 2020 تأسس “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي أسسته مصر وإسرائيل بدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة

اقرأ أيضا: أنبوب الغاز ومحطة المياه.. أدوات إسرائيل لـ”تدفئة” التطبيع

منتدى غاز المتوسط

في يناير/ كانون الثاني 2020، تأسس “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي أسسته مصر وإسرائيل بدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد ضم -بمرور الوقت- أيضا جمهورية قبرص، والأردن، والسلطة الفلسطينية، واليونان، وإيطاليا وفرنسا.

وبينما توقع أعضاء المنتدى بأنه سيشكل منصة للتعاون الاقتصادي، ودرجة أكبر من الاندماج الإقليمي. لكن حتى بعد انطلاق المنتدى، فإن احتمالات أن يتحول إلى آلية لتوسيع التعاون الإقليمي فيما يتعلق بمسائل الطاقة تبقى ضئيلة، وفق التقرير.

وتتمثل العقبة الرئيسية في غياب لاعبين إقليميين رئيسيين في القضايا المتعلقة بالغاز عن المنتدى، بما في ذلك تركيا ولبنان، وسلطات “الأمر الواقع”، القبرصية- التركية التي تسيطر على المنطقة في شمال قبرص. وكذلك حماس، الفصيل الفلسطيني الذي يحكم قطاع غزة، لكنه -في ظل الاحتلال الإسرائيلي- لا يسيطر على حقل الغاز الذي يجاور ساحل القطاع.

ويلفت التقرير إلى أن استبعاد تركيا على نحو خاص، فاقم في بعض الحالات من التوترات بين أعضاء المنتدى، وأولئك الذين يطرحون ادعاءات متعارضة بحقهم باحتياطيات الغاز في المتوسط.

وبدلا من أن يكون المنتدى كيانا حياديا يدير موردا إقليميا بطريقة يمكن أن تساعد الدول في التغلب على خلافاتها السياسية، فإنه أصبح شراكة استراتيجية لدول لها مصالح طاقة مشتركة.

كما أُحبطت الآمال بأن اكتشافات الغاز يمكن أن تساعد في تشكيل علاقات أعمق بين المنطقة، والحكومات الأوروبية المتلهفة لتنويع إمداداتها من الطاقة. ولا سيما بعد أن توترت علاقاتها مع روسيا إلى حد الانقطاع، بسبب الحرب في أوكرانيا.

لكن المشكلة، هي مشكلة عرض وطلب على حد سواء.

من جانب العرض، فإن شرق المتوسط يعد بإمكانات تصدير محدودة، حيث إن احتياطيات الغاز الموجودة لا تكاد تكفي؛ لتغطية الاحتياجات المحلية في بلدان المنطقة، في حين أن البنية التحتية غير كافية لتصدير الكميات القليلة المتبقية.

ويشير التقرير إلى أنه “يمكن لارتفاع أسعار الغاز أن يجعل من وجود خط أنابيب من إسرائيل وقبرص إلى اليونان، أو خط أنابيب أقصر بكثير من إسرائيل إلى تركيا، قابلاً للحياة من الناحية التجارية. لكن إكمال مثل تلك المشاريع يستغرق سنوات، وهو أمر يقلص الحوافز بالنسبة للمستثمرين المحتملين”.

ومن جانب الطلب، فإن الإجماع المتزايد حول الحاجة لخفض الانبعاثات، من خلال التخلي عن استعمال الوقود الأحفوري نهائيا، يقلل من شهية أوروبا على المدى البعيد للغاز.

إعادة التفكير

يلفت التقرير إلى أنه حان الوقت، لإعادة التفكير “بدبلوماسية الغاز”، بحيث تعكس عناصر رئيسية. حيث تُحتّم الوقائع التجارية أن تبحث دول الاتحاد الأوروبي عن مناطق أخرى، لتلبية معظم احتياجاتها من الطاقة على المدى القريب.

بالمقابل، فإن الدول الغنية بالغاز في شرق المتوسط، وبدلا من السعي إلى التصدير إلى أوروبا أو آسيا، يستحسن أن تتحول نحو أسواق يمكن الوصول إليها بسهولة في المنطقة نفسها.

يقول التقرير: إن بذل جهود متضافرة لتلبية احتياجات المنطقة من الطاقة من مخزون شرق المتوسط الواقع تحت البحر، قد يكون جيداً للاقتصادات المحلية، ويوفر مزايا من حيث الاندماج الاقتصادي الأوسع، شريطة أن يتم تحقيق ذلك بطريقة شاملة.

ثانيا: التحول إلى هذا الهدف سيتطلب قيام دول محورية إما موجودة، أو نشطة في المنطقة بالعمل على نحو وثيق أكثر مع الدول التي حاولت البقاء بعيدة عنها في تعاملات الطاقة.

لذلك، قد يتعين على منتدى غاز شرق المتوسط، أن يهدف إلى توسيع عضويته، وأن يعمل تدريجيا -إذا دعت الحاجة- على ضم تركيا. و”بهذه الطريقة فقط يمكن للمنتدى أن يصبح فعلياً قوة للاندماج والاستقرار، بدلا من إعادة خلق ومفاقمة خطوط التماس السائدة أكثر مما ينبغي في المنطقة أصلا”.

أخيرا، حتى لو تم تحقيق تقدم كبير نحو الاندماج الاقتصادي الإقليمي، يتعين على اللاعبين الخارجيين ذوي المصلحة في استقرار المنطقة، ألا يفترضوا أن الغنى بالموارد، يمكن أن يكون المحرك لجهود إنهاء النزاعات السياسية والنزاعات على الأرض.

وشدد التقرير على أن “جزءا من أي استراتيجية ناجحة لدبلوماسية الغاز، سيتمثل في فهم محدوديتها، وضمان أن تكون مصحوبة بأجندة سياسية لتسوية صراعات المنطقة”.