لم يكن الصديق والزميل عمرو بدر -هو وحده – من اختلف معي حول مضمون مقالي السابق هنا، والذي كان عنوانه: “حديث الضمانات المستحيلة”، وإن كان عمرو هو وحده من كتب ردا تفصيليا نشر هنا أيضا، ومشكورا فقد تكرم بإعلامي برده بمجرد ظهوره على الموقع؛ آملًا -برقته المعهودة -ألا يفسد الخلاف للود قضية، وبدوري أكدت له ترحيبي وسعادتي بالحوار معه حول هذا التباين في تقدير الموقف السياسي في مصر، في خضم الجدل الدائر حول انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، في غضون عام من الآن، وليس فقط استمرار الود رغم الخلاف ٠
كذلك نوهت في رسالتي الشخصية إليه في عجالة بما أراه من قواسم مشتركة عظمى مستمرة، بل ومتطابقة بين عهود نظام يوليو/ تموز 1952 المتعاقبة، بل وبين جميع الديكتاتوريات العربية بلا استثناء، بغض النظر عن تباين كثير من السياسات الاجتماعية والاقتصادية، بل والتحالفات الدولية والإقليمية، بين عهد وآخر، وبين بلد وآخر، وهو ما يشير إليه عنوان هذا المقال بصيغة “الثابت والمتغير بين الديكتاتوريات المصرية”، وهو أيضا ما ينطبق على كل الديكتاتوريات العربية المستنسخة من الأصل المصري.
في مقدمة تلك الثوابت أن فلسفة الحكم في هذه النظم هي الاستيلاء علي السلطة بقوة الأمر الواقع، أو بقوة الضرورة أو الانتصار في صراع داخل النظام نفسه، وليست الفلسفة هي الوصول الي السلطة بوسائل المنافسة الحرة المفتوحة، حتى وإن ظفر كل رئيس في الحالة المصرية بالذات في بداية عهده بتأييد شعبي واضح ، لا يمكن إنكاره ، وهذه متلازمة مصرية خالصة، سبق لي تناولها في مقال مطول في موقع مدى مصر بعنوان “متلازمة التفاؤل والخذلان في التاريخ المصري”، حيث تتحكم الدولة العميقة -الممسكة بأدوات الحركة والخطاب السياسيين- في معظم التفاعلات أو الصراعات السياسية، وتوجهها مقرونة بوعود سخية ،وآمال عريضة نحو فرض مرشح الضرورة ،بوصفه المنقذ الوطني، وذلك في غيبة أو تغييب أي شكل من أشكال المعارضة المنظمة يعتد به، لا من جانب هذه الدولة العميقة، ولا من جانب الرأي العام .
يرى صديقي عمرو بدر ، كما يرى أصدقاء وناشطون كتبوا أو تحدثوا إلى أن الزمن غير الزمن، ومن ثم لا يصح القياس على سوابق مصادرة المنافسة علي منصب الرئاسة من المنبع ، كما حدث في حالة جمال عبد الناصر ، أو إفسادها وتفريغها من جديتها ،كما حدث في حالة حسني مبارك ، بل مثلما حدث أيضا في الانتخابات الرئاسية السابقة مباشرة عام 2018، و دليلهم أن الأزمة الحادة التي تمر بها مصر في العامين الأخيرين أحدثت، أو ستحدث تغييرا نوعيا في عموم الموقف السياسي للبلاد ، بما في ذلك بالطبع عملية الإعداد لانتخابات الرئاسة المقبلة، وذلك استنادا إلي أن هذه الأزمة خلقت بالفعل حالة سخط شعبي واضحة على تدهور مستوى معيشة أغلبية المواطنين ، إضافة إلى كارثة الديون الخارجية ، و شبح العجز عن سدادها ، مع تخلي الداعمين أو الممولين الإقليميين عن إسناد النظام، إلا بشروط تزيده ضعفا ، وتزيد المواطنين سخطا ، فضلا عن الأزمات الخارجية المحرجة أو المنذرة في السودان وليبيا ، و كارثة الإثيوبي على أهم منابع النيل .
ومع أني لا أجادل في عمق واتساع هذه الأزمات، لكني لا أرى أنها ستفرض بالضرورة، وحتما على النظام أن يغير حساباته للانتخابات الرئاسية المقبلة من الإخراج الموجه، إلى المنافسة الحرة المفتوحة، فالسخط وحده و مهما يبلغ مداه لا يغير شيئا، بما أنه مجرد حالة نفسية أو مزاجية، تعبر عن نفسها في جلسات خاصة، أو على منتديات الشبكات الاجتماعية، أو حتى في مقالات صحفية، أو دراسات متخصصة في بعض المنابر الداخلية والخارجية القليلة، والمحجوبة أصلا، دون أن تنتج شيئا من عمل أو تنظيم يعبر عن كتلة جماهيرية مؤثرة.
ومن ناحية أخرى فمن طبائع النظم القائمة علي فلسفة الاستيلاء علي السلطة -التي سبقت الإشارة إليها – ألا تعترف بمسؤوليتها عن الأخطاء والأزمات ، ومن ثم ترتب على هذا الاعتراف نتائجه المنطقية ، فتخلى عن الحكم، أو تمهد للتغيير السلمي وتقبله ، وإلا كان الأولى أن يغير من سياساته التي صنعت الأزمة أو الأزمات ، ومع اختلافات طفيفة ، فالسوابق في مصر، وفي المنطقة بلا استثناء واحد تنطق بل تصرخ بأن أحدًا من حكامها لم تخطر بباله فكرة الخروج السلمي -انتخابيا أو استقالة – من السلطة، فمثلا لم يفعلها صدام في العراق بل كان تدمير البلد كلها أهون عليه من التنازل عن منصبه، ولم يفعلها القذافي، ولا بشار الأسد الذي تناثرت سوريا تحت سلطته إلى أشلاء ،ولا عمر البشير ، ولا خلفائه الذين يتحاربون اليوم ،حتى لا يفقد أحد منهم سلطته، أو جزءا منها،كذلك لم يتنازل عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر عن السلطة طواعية، رغم إصابته بالشلل، و رغم تطاول بقائه في المنصب، وكانت الثورة الشعبية هي التي دفعت الجيش إلى سحب تأييده له، في سيناريو يقترب من سيناريو تنازل حسني مبارك عن الرئاسة عام 2011 ٠
بالطبع، ولحسن الحظ، وكذلك فمن الموضوعية والإنصاف، الإقرار بأن الحالة المصرية كانت ولازالت، وستبقى أفضل كثيرا من مثيلاتها في الدول المذكورة، سواء من حيث أشخاص الحكام، أو من حيث درجة استحكام الأزمات، وعدم قابليتها للحلول الأقل كلفة في الأمن العام، والدماء، وانتظام الحياة اليومية، ولكن هذا شيء، وتغيير النظام شيء آخر.
يعيدني ذلك إلى حديث الضمانات التي تطلبها المعارضة، لانتخابات رئاسية تنافسية جادة، والتي أراها مستحيلة، ويراها الصديق عمرو بدر وآخرون ممكنة، إلى حد أن بعض الزملاء في الحركة المدنية الديمقراطية اعتبروني متشائما بأكثر من اللازم، وذلك لأن انكشاف السلطة الحالية بفعل سلسلة الأزمات الحادة، التي سبق تناولها، سوف يجبرها -في رأيهم كما سبقت الإشارة – على الاستجابة، أو على تقديم أكثر المطلوب.
بديهي أني أتمني أن يكون تفاؤل الزملاء في محله، ذلك أن انفتاح النظام علي مطالب المعارضة، وقبوله لمبدأ الانتخابات التنافسية الحرة، سوف يمثل نقلة نوعية بالغة الأهمية، لها ما بعدها في تطور مصر السياسي، حتى وإن لم يؤد إلى تغيير في رأس السلطة هذه المرة، و لكني هنا لم أحتكم إلى التفاؤل، أو التشاؤم، بقدر ما أني احتكمت الي الواقعية السياسية، علما بأن هذه الواقعية عندي ليست ذلك النوع البليد المستسلم، ولكنها الواقعية الطموحة التي تسعى لتغيير الواقع غير الملائم بفهمه والتأثير فيه، وليس بتجاهله، أو القفز فوقه، وبالطبع فإن بروز مرشح معارض جاد و لديه الإرادة والخبرة، و يستطيع حشد تأييد أغلب القوى المعارضة، وقطاع مهم من الناخبين هو من صميم العمل الواقعي الطموح لتغيير الواقع، أو على الأقل التأثير فيه بوضوح، شرط ألا يتوقف ذلك مسبقا علي المرونة أو الاستجابة -فضلا عن الترحيب -من جانب السلطة .
علينا هنا أن نكرر أن حسني مبارك كان في عام 2005 في ظرف أضعف كثيرا بسبب ضغوط الرئيس الأمريكي جورج بوش العلنية والسرية، ولم يقدم أو ينفذ أية ضمانات جادة، لانتخابات رئاسية تنافسية حرة، وكذلك لم يقدم ولم ينفذ أية ضمانات لانتخابات برلمان عام 2010، رغم تصاعد المعارضة الداخلية واكتسابها زخما هائلا بظهور الدكتور البرادعي (وإن كان قد ثبت فيما بعد أنه غير مؤهل شخصيا لدور القائد السياسي، لتردده وعزوفه عن العمل وسط الناس، كما ينبغي لرجل الحركة السياسية أن يفعل )، إضافة إلى أن النظام كان يعاني شروخا داخلية وصلت الي حد الصراع بين أجنحته بسبب مشروع التوريث، فإذا اتفقنا أن النظام الحالي لا يواجه أيًا من تلك الضغوط أو الانقسامات الداخلية، ولا يواجه ضغوطا خارجية يؤبه لها، وأن السخط بسبب الأزمات المعيشية لا يكفي وحده، وفي ذاته بما أنه لايزال شعورا أكثر منه إرادة، كما أسلفنا، فإن ذلك يعني أن على المعارضة -وهي تطلب تلك الضمانات كحق مشروع – أن تبني حساباتها علي أنها لن تحصل عليها، وأن تعول فقط على نفسها، و تؤدي واجباتها في التوافق علي البرنامج، وعلى الشخص، وعلى استراتيجيات مخاطبة الناخبين، وهذا يعني أنني لست من أنصار مقاطعة الانتخابات، وأعود فأكرر إن إرساء السابقة، وكسر التابوه، وتحدي الصعاب، ونشر الوعي بوجود البدائل هو واجب الوقت، حتى مع التسليم بأن النتيجة النهائية لن تكون فوز المرشح المعارض.