يذكر المستشار طارق البشري في كتابه «القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء» أن ثورة 52 سلكت مع القضاء ما يمكن أن نسميه أسلوب الإحاطة والاقتطاع، دون أسلوب السيطرة المباشرة والإلحاق الصريح» موضحًا أن الثورة قد ارتكنت إلى الإحاطة بالقضاء وإبعاده عن التأثير فيما ترى الدولة أنه يمس سياستها. وجرى هذا الإبعاد عن طريق منع التقاضي بالنسبة للمسائل التي ترى الدولة أنها ذات أهمية سياسية بالنسبة لها، وكذلك إنشاء المحاكم الخاصة بالنسبة للقضايا التي ترى أن لها أهمية سياسية خاصة لها”.

يُعتبر مبدأ استقلال السلطة القضائية من المبادئ المهمة والحيوية التي تتعلق بحقوق الإنسان، فقد عُرِف هذا المبدأ منذ القدم أي في العصور الفرعونية واليونانية، كما وأدرجت العديد من الوقائع في الإسلام منها ما يشير إلى دور القاضي العادل في تأدية وظيفته بصورة مستقلة، ومنها ما يدل على تطبيق القانون بالتساوي بين البشر، بلا فرق بين غني وفقير ولا بين حاكم ومحكوم؛ لاعتبارات شرعية أو دينية أو أخلاقية، أو أية معايير تحبذ أو تدفع إلى التمييز في تطبيق العدالة، وهو ما كان يدفع بالبعض قديمًا إلى الاعتذار عن قبول مهمة القضاء احترامًا لقيمة القضاء ودوره في المجتمع.

وعن مدى ارتباط استقلال السلطة القضائية بمفهوم ودلالة الحق في الدفاع وحرية الدفاع، فقد وردت في ” الميثاق الدولي لحقوق الدفاع” مجموعة من القواعد تشكل في مجموعها دعامات حرية الدفاع. تتعلق القاعدة الأولى باعتبار التمتع بحقوق الدفاع من الدعامات الأساسية التي لا غنى عنها لحسن سير العدالة وهو مبدأ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمبدأ استقلال القضاء. أما القاعدة الثانية فتعتبر الدفاع الفعال عن المتقاضين الوسيلة الضرورية والقاعدة الأساسية للحفاظ على الحقوق الأساسية.

وتكفل القاعدة الثالثة حق كل شخص في الاستعانة بمن يدافع عنه وبشكل حر، وتستوجب القاعدة الرابعة أن تكون مشاركة المحامي مشاركة فعالة. في حين تشدد القاعدة الخامسة على عدم جواز إخلال القوانين المتعلقة بالإجراءات بحقوق الدفاع الأساسية طبقًا لمبدأ لا عقوبة بغير نص قانوني. أما القاعدة السادسة فتنص على ضرورة أن تتوفر لكل محام في قضية جنائية الفرصة الكاملة والحرية التامة لإعداد دفاع يتفق مع مقتضيات العدالة.

في حين تضع القاعدة السابعة مجموعة من الواجبات التي ينبغي أن يلتزم بها المحامي نحو موكله ومنها إسداء المشورة إلى الموكل فيما يرتبط بحقوقه وواجباته القانونية واتخاذ التدابير القانونية التي يراها ملائمة لحماية مصالحه عند الاقتضاء، ومساعدته أمام الهيئات القضائية والسلطات الإدارية والشرطة خلال مرحلة التحقيق الأولى الخ .. أما القاعدة الثامنة والأخيرة فتكفل للمحامين جميع الحقوق الضرورية للممارسة الفعالة لمسئولياتهم المهنية.

كما يُعتبر مبدأ استقلال السلطة القضائية من المبادئ المهمة والضرورية التي تتعلق بحقوق الإنسان ومنها حقه في التقاضي و حقه في ضمان المحاكمة العلنية العادلة وحقه في التعويض وحقه في توكيل محام وحقه في طلب العفو، وغيرها من الحقوق الأساسية التي تكفلها الدساتير والقوانين، وهو يتعلق كذلك بنزاهة القضاة في تحقيق العدل والعدالة، وذلك لكون السلطة المختصة في تطبيق القانون هي السلطة القضائية  ممثلة في المحاكم حيث أن وظيفة المحاكم هي تطبيق القانون وتحقيق العدالة إذ لا يكفي تطبيق القانون وحده دون الوصول إلى الغرض الأساسي منه وهو العدل والإنصاف، وكذلك ما يتعلق بضرورة تنفيذ القانون والأحكام القضائية من السلطات المختصة بصورة  سليمة.

وقد عبرت عن تلك المعاني المحكمة الدستورية العليا في الحكم رقم  96 لسنة 40 قضائية دستورية بقولها أنه “وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازمًا لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها، لا تقل شأنًا عن استقلالها بما يؤكد تكاملها، ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني أن تعمل بعيدًا عن أشكال التأثير التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواءً أو إرغامًا، ترغيبًا أو ترهيبًا، فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم وانحيازًا لغيره كان ذلك منافيًا لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، ولحقيقة أن العمل القضائي لا يجوز أن يثير ظلالاً قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون داخلهم الريب فيه بعد أن صار نائيًا عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية”.

ومن الناحية الواقعية لا يمكن تصور وجود حق للدفاع بشكل مضمون دونما أن تكون هناك ضمانة مسبقة لاستقلال السلطة القضائية التي يمثل أمامها الدفاع، لكون السلطة القضائية في جميع الأحوال هي التي تتلقى ما يقدمه الدفاع من أوجه دفاع، أو مستندات أو مذكرات، وهي التي تقوم بالفصل بين أوجه دفاع الخصوم لترجح كفة العدل وتسعى لتحقيق الترضية القضائية بشكل يتناسب مع مقومات ما يُعرض عليها.

فإذا لم تكن السلطة القضائية مستقلة بشكل كامل في تشكيلها وتوليها مهام عملها، وكذلك في توليها شؤونها الداخلية، وشؤون أعضائها كافة، فإنها لن تستطيع أن تكون صاحبة قرارها في ممارسة مهام وظيفتها المرتبطة بشكل لا يقبل الانفصال عن مهام الحق في الدفاع، إذ أن الحق في الدفاع يدور في فلك القضاء ذاته، ولا يمكن تخيل أن يقوم الدفاع بدوره على وجه كامل دون أن تكون السلطة القضائية ذاتها مستقلة في شؤونها كافة، لا تتحكم سلطة مغايرة في أي من شؤون العدالة، وإلا باتت العدالة على مرمى حجر، وأصبحت أسيرة لمدى تدخل تلك السلطة في أعمالها، وهو ما يكون له الأثر البالغ على التمكين من الحق في الدفاع، وهو المبدأ الذي لا تستقيم العدالة بدون تحقيقه على نحو كامل وبصورة تجعل المواطنين آمنين في لجوئهم للتقاضي مطمئني البال واثقين مجمل الثقة في قضائهم، كما أن كل ذلك يصب في مصلحة الثقة التامة في السلطات الوطنية جميعها.