لم تغب الحركات المسلحة عن أي معادلة سياسية في السودان منذ الاستقلال في 1956، إذ كانت في كثير من الأوقات محفز لزيادة التوتر والصراع ليس فقط بين الحكومة المركزية والأطراف، ولكن داخل الحكومات والأنظمة السياسية التي حكمت السودان، وهو ما يمكن قراءته في المشهد المحتدم في السودان.

فعلى الرغم من محاولة قادة الحركات المسلحة الوقوف على الحياد إزاء الحرب بين البرهان وحميدتي، إلا أن تجدد العنف في ولايات سودانية كدارفور ينذر بمخاطر أمنية وسياسية أكبر من حسابات القوات المسلحة السودانية في إخماد نفوذ وقوة الدعم السريع خاصة مع تعذر تنفيذ اتفاق سلام جوبا الذي كان يستهدف نزع سلاح الحركات ودمج قواتها في الجيش النظامي.

“صراع الهامش والمركز”، كان التوصيف الأشمل لسبب تواجد الحركات المسلحة في السودان خاصة مع عدم قدرة الأنظمة السياسية في تحقيق سياسة متكاملة من أجل الاندماج الوطني الطوعي، وفرض السياسات المركزية على القبائل والأعراق المختلفة بالإكراه والقوة الجبرية، إذ كانت المعضلة الرئيسية هي التنمية غير المتوازنة وعدم الاعتراف بقضايا المهمشين مما ساهم في تراكم المظالم التاريخية، وقاد إلى حمل السلاح من أجل تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

قائد حركة جيش تحرير السودان أعلن عن “تحريك قوة عسكرية مشتركة من الحركات المسلحة للفصل بين المتحاربين منعاُ لتوسيع دائرة الانفلات”

مع التطورات في المشهد السياسي في السودان بعد ثورة 2019 وإسقاط نظام الإنقاذ، اختارت معظم الحركات الانضمام إلى النضال الشعبي ضد هيمنة المركز على الدولة السودانية، حيث انخرط قادة الحركات في الانضمام والتوقيع على إعلان الحرية والتغيير، أبرزهم قائد حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني مناوي، إذ بدأت عقيدة العمل الثوري للحركات تتغير من العنف المسلح، إلى الحراك الجماهيري، والتفاوض، والضغط الدولي.

ورغم أن الجيش السوداني النظامي وقوات الدعم السريع هما اللاعبان الرئيسان في الحرب القائمة في السودان الآن، إلا أن الحركات المسلحة لم تتوار عن المشهد، فرغم إعلان أبرز قادة الحركات الوقوف على الحياد وضرورة حسم الخلافات عبر الحوار، إلا أن قائد حركة جيش تحرير السودان، مني أركو مناوي أعلن الخميس الماضي، عبر حسابه على فيسبوك، عن “تحريك قوة عسكرية مشتركة من الحركات المسلحة للفصل بين المتحاربين منعاُ لتوسيع دائرة الانفلات”.

اقرأ أيضا: مؤشر الإرهاب العالمي.. انخفاض عدد العمليات في مقابل تفاقم دمويتها

خريطة الحركات المسلحة

الوجود الفعلي للحركات المسلحة في السودان في شكل تنظيمي جاء بعد ثورة أكتوبر 1964 احتجاجًا على ديكتاتورية نظام إبراهيم عبود، إذ بدأت الأقاليم السودانية تدرك أهمية تحقيق مطالبها المشروعة بعد سقوط نظام عبود والاحتجاج على هيمنة الأحزاب التقليدية في الخرطوم، بدأت تتشكل الجبهات في دارفور وجبال النوبة وشرق السودان، لكنها كانت تنتهج الطريق السياسي في البداية من خلال الحصول على تمثيل عادل في البرلمان وهو ما تحقق بالفعل حتى انتخابات 1968 التي حازت فيها جبهة نهضة دارفور، واتحاد أبناء جبال النوبة، ومؤتمر البجة، على مقاعد في البرلمان، إلا أن نظام جعفر النميري الذي حكم السودان في 1969 قمع هذه التنظيمات ومنع أنشطتها السياسية بحجة أنها تمارس أدوارًا عنصرية.

في أعقاب الصراع الطويل بين جيش التحرير الشعبي السوداني، الجناح العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، والحكومة المركزية في الخرطوم، والذي انتهى بانفصال جنوب السودان، بدأ النطاق الجغرافي للحركات المسلحة في الاتساع ليتركز في مناطق دارفور، وجنوبي كردفان، والنيل الأزرق، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 87 حركة مسلحة في السودان الآن.

كِبر حجم وزيادة عدد الحركات المسلحة لأسباب مختلفة، كان في مقدمتها سياسات نظام الإنقاذ نفسه بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، حيث اختراق الحركات الرئيسية وإشعال المنافسة والصراعات بين قادتها واستخدام وسائل مختلفة كتوزيع مناصب أو ترضيات مؤقتة، مما أدى إلى انشطار وتفرع الحركات إلى عدة حركات أو كيانات وفصائل جديدة مستقلة عن الحركة الأم وقد تكون ضعيفة في قوتها العسكرية وعدد المنتمين لها، فضلاً عن عدم وجود رؤية منهجية محددة لتحقيق المطالب،  وهي حالة تفاقمت في ظل عدم الاستقرار السياسي الذي يعيشه السودان منذ ثورة 2019.

يمكن رصد أبرز الحركات المسلحة على الأراضي السودانية من خلال الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام مع السلطة الانتقالية بقيادة مجلس السيادة السوداني في 2020 ومواقفها من الحرب بين القوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع بقيادة حميدتي وهي:

حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم

وتتمركز في غربي دارفور، تكونت الحركة من متمردين من غير العرب في 2003، ولها صلات قوية ببعض القبائل في تشاد، ورغم كونها من أبرز وأهم الحركات في دارفور إلا أن القوة العددية والتسليح قد تكون ضعفت الآن.

تولى قائد الحركة جبريل إبراهيم منصب وزير المالية في حكومة عبد الله حمدوك بعد الثورة على حكم البشير، وتلتزم الحركة الحياد في الحرب بين البرهان وحميدتي إذ كان لقائدها محاولات للوساطة بين طرفي النزاع قبيل اندلاع الحرب، وتدعو إلى الحوار لحل المشاكل بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ودول الجوار الإقليمي الإفريقي والعربي والمجتمع الدولي.

كانت مجموعات من المقاتلين التابعين لحركة العدل والمساواة قد تم دمجهم في الجيش السوداني، إذ أعلن الأمين السياسي للحركة أنهم يدعمون القوات المسلحة في حربها على الدعم السريع واستمرار منسوبيها السابقين في الصفوف الأمامية في وحدات القوات النظامية.

جيش تحرير السودان “جناح مني أركو مناوي”

تشكل جناج مناوي بعد انقسام قَبلي في جيش تحرير السودان، وكان من الحركات التي قادت القتال ضد فصائل الجنجويد “مجموعات مسلحة قادت حربا في دارفور خلال حكم البشير، وينسب اليها حميدتي”.

وقعت الحركة على اتفاق جوبا للسلام لكن قائدها اشتكى الجيش والدعم السريع من عدم التزامهما بإضافة جنود الحركة في القوة الأمنية المشتركة التي نص على تشكيلها برتوكول الترتيبات الأمنية، ويمارس مناوي أدوارًا سياسية منذ ثورة ديسمبر 2019، إذ يشغل منصب الأمين العام لقوى نداء السودان -عضو المجلس القيادي للجبهة الثورية السودانية- وقيادي بإعلان الحرية والتغيير.

وفي أول رد فعل للحركة على الأرض بعد أسبوعين من اشتعال الحرب، أعلن قائد جيش تحرير السودان، مني مناوي، تحريك قوة عسكرية مشتركة للفصل بين الطرفين المتحاربين دون الإعلان عن طبيعة عمل هذه القوة وأماكن عملها.

مشهد من آثار الحرب في السودان

اقرأ أيضا: تقارير الدول لعام 2021 حول الإرهاب| أمريكا تواصل الشراكات الدولية.. وجهود مصرية مستمرة

جيش تحرير السودان “جناح عبد الواحد محمد النور”

كان جناح النور الأقوى والأكثر نشاطًا في درافور، لكن مع سفر قائده واستقراره في فرنسا ضعفت الحركة وقل عدد المقاتلين فيها، وإن كانت لا تزال تملك قوة قتالية في دارفور المدعومة من قبيلة الفور، ويرفض النور اتفاق جوبا للسلام والاتفاق الإطاري معتبرًا أنه كان سببًا للحرب الحالية.

اتخذ النور مواقف متشددة ضد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، خاصة بعد الانقلاب على المكون المدني في أكتوبر/تشرين أول 2021، واعتبر الصراع الحالي هو صراع شخصي على السلطة واختطاف الثورة الشعبية التي نددت وطالبت بإسقاط الحكم العسكري لصالح الحكم المدني.

في حديث تلفزيوني سابق قال عبد الواحد النور:”الحل أن يتوحد الشعب السوداني لإسقاط قائدي الصراع وتولي قيادة تحمل عقيدة الجيش في حماية المواطن السوداني”.

الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال “جناح مالك عقار”

كانت من الحركات الداعمة للجنوبيين خلال الحرب الأهلية حتى انفصال جنوب السودان، وتشكلت الحركة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، قبل أن تنفصل إلى فصيلين، اذ قادت القتال في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق منذ عام 2011 بدعوى تهميش المنطقتين سياسيًا واقتصاديًا. وقع هذا الفصيل بقيادة مالك عقار وياسر عرمان اتفاق السلام في جوبا، كما كانا من أوائل الموقعين لاتفاقات أمنية مع الحكومة الانتقالية من أجل دمج مقاتلي الحركة في الجيش السوداني.

كان مالك عقار، عضوًا بمجلس السيادة السوداني، ورغم تباين موقفه من الدعم السريع ومحاولة الوقوف على الحياد، قال في بيان في 22 إبريل/نيسان الجاري أنه سيسعى بالتعاون مع كل الأطراف المحلية والإقليمية والمنظمات الدولية لوقف الحرب وإحلال السلام.

الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال “جناح عبد العزيز الحلو”

انشق عبد العزيز الحلو عن الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، حيث قاد أكبر فصيل متمرد في منطقة جبال النوبة جنوب كردفان، يدعو إلى علمانية الدولة، ويسيطر الحلو على منطقة كاودا الحصينة في ولاية جنوب كردفان، على الحدود مع جنوب السودان، الحليف التقليدي للحركة الشعبية.

لم توقع الحركة على اتفاق سلام جوبا، ولا تزال تكن العداء لقيادة الجيش السوداني حيث استمرت المناوشات بين عناصر الحركة وبعض قوات الجيش بخاصة قوات الدفاع الشعبي، معتبرة أنها قوات جرى تنظيمها بقرار البرهان تحت مسمى قوات الاحتياط وسُلحت بنفس تسليح الجيش وهي لا تتحرك إلا بأوامر مباشرة من وحدات الجيش لمهاجمة الحركة.

حركة تحرير السودان “المجلس الانتقالي”

انشقت الحركة بقيادة الهادي إدريس عن حركة تحرير السودان في 2015، وأثار ملف الترتيبات العسكرية الذي يقوده الجيش مع قادة الحركات، انشقاقات وخلافات داخل الحركة بسبب الخلاف حول ترقية الضُباط وتعيين ممثلي القوات في اللجنة العُليا للترتيبات الأمنية التي يرأسها الجيش السوداني، وصلت الخلافات إلى اشتباكات بين حراسات رئيس الأركان ومسئول الاستخبارات والأمن بالحركة.

يقود الهادي إدريس الجبهة الثورية والتي تتشكل من مجموعة من الحركات المسلحة، ويقوم بأدوار للوساطة في الحرب القائمة بين البرهان وحميدتي في محاولة سلمية لإيقاف الحرب والعودة إلى طاولة الحوار.

الحل أن يتوحد الشعب السوداني لإسقاط قائدي الصراع وتولي قيادة تحمل عقيدة الجيش في حماية المواطن السوداني

اقرأ أيضا: الجيش النيجيري يدير برنامجًا للإجهاض القسري.. “تحررهن” من الإرهابيين لا يعني الخلاص

الحركات العابرة للحدود

لم تقتصر مصادر إمداد الدعم للحركات المسلحة في السودان على الداخل حيث قوة القبائل فقط، لكن كان للأطراف الإقليمية بخاصة دول الجوار السوداني تأثير كبير على أداء الحركات المسلحة وحربها ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، وإمدادها بالدعم المادي والفني، وتيسير نقل الأسلحة وغيرها من مصادر الإمداد، بخاصة إثيوبيا واريتريا وتشاد، إذ تصف بعض الدراسات هذه الدول بأنهم وكلاء العنف في منطقة القرن الإفريقي.

كان للقبائل المقيمة على الأراضي الحدودية السودانية مع إثيوبيا وجنوب السودان وتشاد واريتريا، شرارة تكوين الحركات المسلحة، خاصة وأن هذه الدول كانت المصدر الرئيسي للتسليح لهذه الحركات.

دور الدول الإفريقية

كانت تشاد وليبيا أكثر الدول دعمًا للمتمردين والحركات المسلحة في دارفور بخاصة حركة العدل والمساواة، حيث استمدت الحركات المسلحة من أصول إفريقية قوتها في مواجهة القبائل العربية من تشاد ثم ليبيا على خلفية خلاف الرئيس التشادي إدريس ديبي مع البشير.

وامتد نشاط الحركات المسلحة السودانية إلى ليبيا بخاصة حركات تحرير السودان، تحرير السودان ــ المجلس الانتقالي وتجمع قوى تحرير السودان، ومجلس الصحوة الثوري السوداني، وحركة العدل والمساواة السودانية الجديدة بقيادة منصور أرباب، وحركة أخرى منشقه تسمى ثورة الاتفاق، وجيش تحرير السودان. بينما تعد حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، أكبر قوة عسكرية سودانية في ليبيا، كدلك حركة تحرير السودان التي يتزعمها مني أركو مناوي.

ونظرًا للأداء غير الموحد للحركات المسلحة طوال سنوات النضال ضد الحكومات المركزية في الخرطوم، وتنامي الانشقاقات كأبرز سمات الحركات، حيث يتواجد في دارفور وحدها ما يقرب من 84 حركة مسلحة لا تزال تحمل السلاح دون التوافق على مواقف أو مطالب محددة، فإن فرص التسوية ودعوات الحوار لحل الصراع بين الجيش والدعم السريع التي لا يزال قادة الحركات يتحدثون عنها، لن تكون فاعلة على المدى القصير، خاصة مع تاريخ الحركات التي اعتادت حمل السلاح للدفاع على نفسها وتحقيق مطالبها وهو ما قد يزيد من تعقيد الوضع في السودان.