يبدو المشهد العسكري الراهن في السودان بعيد إلى حد كبير عن نجاح أي أطراف دولية أو إقليمية في إحداث اختراق سريع يسفر عن حالة مستقرة لوقف إطلاق النار، وربما هذا ما يفسر الموقف الأمريكي الراهن الذي توقع تدهورًا للأوضاع على الأرض، ودفعه لإجلاء كل أمريكي من السودان (16ألف شخص) خصوصًا مع إعلان الجيش السوداني مؤخرًا أن تغيرًا في المشهد العسكري العام هو قيد التنفيذ لصالحه.
تعقد المشهد العسكري وتدهور المشهد الإنساني في حرب مدن مفتوحة سواء في الخرطوم العاصمة أو في الجنينة عاصمة ولاية غرب دافور، دفع كل الأطراف الإقليمية والدولية للتدخل سواء للضغط من أجل هدن متوالية، تتيح ممرات إنسانية آمنة لنزوح وهروب الناس من الحرب، أو وساطات متكاملة تسعى إلى وقف إطلاق النار وتدبير مفاوضات بين الجنرالين المتصارعين البرهان وحميدتي، قد تسفر عن حل إشكالية العلاقة بين الطرفين، وربما عن استئناف العملية السياسية التي أسفر تدهورها عن الاشتباك العسكري.
وبطبيعة الحال، تكون الأطراف الإقليمية المتضررة مباشرة من تدهور الأوضاع في السودان هي الأسبق لطرح مبادرات الوساطة، من هنا تقدمت مصر باقتراحين لوساطة خلال الأسبوع الأول من الاشتباكات، استصحبت فيهما طرفين إقليمين مختلفين هما كل من دولة جنوب السودان ودولة الإمارات وذلك لحسابات متنوعة في كل مبادرة ولكن بهدف نهائي هو أن تجد أي من المبادرتين دعمًا دوليًا، خصوصًا دفعًا وتأييدًا من واشنطن التي تبدو أكثر الأطراف اهتمامًا بالحالة في السودان والأكثر فعالية فيها حتى اللحظة الراهنة.
وتبدو الفاعلية الأمريكية الحالية في المشهد السوداني مؤسسة على رغبتها في عدم دفن الاتفاق الإطاري الذي استثمرت فيه سياسيًا وماليًا، حيث جاء باقتراح من مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية مولي فيبي وتم توقيعه في ٥ ديسمبر الماضي وكان من المفترض أن يتم التوقيع النهائي عليه مع نهاية ديسمبر 2022، ولكن تعقد الموقف السياسي السوداني وصراع أطرافه متعددة المستويات على مدى أربعة أشهر خلق البيئة الدافعة للاشتباكات العسكرية الراهنة.
أما حسابات القاهرة في مبادرتيها، فقد ارتبطت بالرغبة في تدشين دور لها في الأزمة السودانية بعد أن عملت منفردة خلال فترة الانتقال، وبتواصل مباشر مع الأطراف السودانية، وذلك بعد أن تم بلورة مبادرتين للحل السياسي في السودان خلال المرحلة الانتقالية، أحدهما رباعية بين دول، الولايات المتحدة وبريطانيا والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، بينما المبادرة الثانية هي ثلاثية بين منظمات الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد والبعثة الأممية في السودان. وقد كان من الملفت على المستوى السياسي أن يتم ذلك المجهود بمعزل عن القاهرة على مستوي نسبي، في حالة ملتبسة تضن فيها المعلومات الدقيقة فبينما يرشح في القاهرة أقوال بوجود اتجاه باستبعادها، ترشح من أطراف دولية وإقليمية أن صانع القرار المصري رفض الانخراط في المبادرة الرباعية إلى جانب كل من الإمارات والسعودية .
أما فيما يتعلق بالأطراف الإقليمية المختارة من جانب القاهرة فقد تأسست فيما يبدو لنا على عدة اعتبارات، منها محاولة تشبيك المصالح الإقليمية في خيط ناظم واحد تجنبًا لتصادمها على الأرض في السودان، وقد تكون هذه حسابات طرح الإمارات شريكا للمبادرة المصرية خصوصا مع علاقتها المتميزة بمحمد حمدان دقلو، أما فيما يتعلق بدولة جنوب السودان فلا تبدو أن هناك مصالح متناقضة أو متضادة بين القاهرة وجوبا فكلاهما لديهما هدف استراتيجي واحد هو استقرار دولة السودان، كما أن كلا الدولتين ليس لديهما مصالح اقتصادية في الموارد السودانية، وأيضًا الشراكة مع دولة جنوب السودان توفر تواصلًا جيدًا مع حميدتي الذي تفاعل مع الرئيس سلفا كير إيجابيًا في عدد من المحطات منها عقد اتفاقية جوبا للسلام مع فصائل الجبهة الثورية.
في سياق لاحق، ومباشرة ظهرت مبادرتان، الأولى لمنظمة الإيجاد التي خطفت من القاهرة الرئيس سلفا كير في إشارة واضحة لافتقاد القاهرة الدعم الدولي لمبادرتيها، ووضعت رئيس جنوب السودان في مجهود مشترك مع كل من رئيسي جيبوتي إسماعيل جيله وكينيا وليم روتو، وبطبيعة الحال لا يبدو المجهود الإثيوبي بعيدًا عن مبادرة الإيجاد حيث تتحسس إثيوبيا من أي صعود للدور المصري في السودان على خلفية أزمة سد النهضة، وهو أمر تستجيب له واشنطن ولكن طبقًا لحسابات مغايرة تتعلق في تقديرنا بأمرين
الأول موقف القاهرة من تطوير حالة احترام حقوق الإنسان ورفع سقف الحريات العامة، وكذلك بطبيعة موقفها من موسكو في الحرب الروسية الأوكرانية.
طبقا لهذه الحسابات، تجد مبادرة الإيجاد في الوقت الراهن دعمًا من واشنطن ومساندة عبرت عن نفسها في طرح آليات عمل لوساطة إجرائية منها ترتيب اجتماعات أولية بين قادة الصف الثاني العسكريين لكل من الجيش السوداني ومبادرة الدعم السريع، لا نعرف حتى وقتنا هذا طبيعة تفاعل الأطراف منها.
وتبدو الإشكالية هنا في مدى قدرة مبادرة الإيجاد على اختراق الموقف العسكري الراهن وتحقيق مطلب وقف إطلاق النار والذي يواجه بتحدي أن المبادرة لا تخاطب تنوع الهوية السودانية بين المكونين العربي والإفريقي، ومن هنا يتخوف المكون العربي من طبيعة مجهودات الإيجاد خصوصًا وهي شريك في صنع الاتفاق الإطاري الذي تناهضه قوى النظام القديم الممثلة للسودان العربي والنيلي، وهي قوى فاعلة على الأرض حاليًا خصوصًا بعد تطورين هامين.
الأول فتح سجن كوبر وهروب قادة سياسيين منه تم سجنهم في أعقاب الثورة السودانية على خلفية فساد مالي وسياسي.
والثاني وجود تسريبات غير معروف مدى دقتها في مشاركة عناصر عسكرية متقاعدة من الجيش السوداني ومحسوبة على الجبهة القومية الإسلامية تشارك في المعارك الحالية، وتعيد فعالية ميليشياتها على الأرض تحت مسميات جديدة ومتعددة منها قوات درع السودان وغيرها.
وفي سياق المبادرات وطرح الوساطات، فقد تقدمت تل أبيب بمبادرة هي الأخرى في نهاية الأسبوع الأول من الاشتباكات تأسست على علاقات معلنة مع الفريق البرهان ورغبة في أن تجد لها موضع قدم علني في التفاعلات السودانية على المستوى السياسي إلى جانب وجودها السري.
لكن هذه المبادرة لم يلتفت إليها أحد ولم تجد دعمًا دوليًا حتى من واشنطن وذلك على خلفية تقاطع كل من موقف تل أبيب وواشنطن من قائد الجيش البرهان حيث ترى فيه الأولى رجلها المطلوب الذي يساند عملية السلام والتطبيع مع إسرائيل حتى لو كان ذلك تحت مظلة حكم عسكري شمولي في السودان، بينما تضغط واشنطن على البرهان وعلى مؤسسة الجيش لتسليم السلطة للمدنيين بشكل كامل، والانخراط في عملية تحول ديمقراطي تتطلب تخلي الجيش عن مؤسساته الاقتصادية في السودان، والرجوع إلى الثكنات.
ومع مقاومة البرهان للطلبات الأمريكية، ورفض إسرائيل للتعاون مع واشنطن في الضغط على البرهان كان من الطبيعي أن تتجاهل الولايات المتحدة الأمريكية المسعى الإسرائيلي في الوساطة خصوصًا مع ما يخلقه ذلك من رفض شعبي سوداني للتطبيع مع إسرائيل وللدولة العسكرية معًا.
إجمالًا وطبقا لطبيعة أهداف الأطراف المتصارعة عسكريًا في السودان، يبدو أن قدرة أي وساطة، محدودة، في المرحلة الحالية، على وقف إطلاق النار في السودان حتى لو وجدت دعمًا دوليًا، وأيضًا يبدو الوصول إلى هذه المرحلة متطلبا لأسابيع ربما، خصوصًا مع انفجار الأوضاع في دارفور وسعي قوات الدعم السريع للسيطرة على المنشآت الحكومية هناك تحسبًا ربما لهزيمة في الخرطوم، وتأسيسًا لمرحلة جديدة وطويلة تمارس فيها تمردًا على السلطة المركزية كعادتها، ولكن الإشكالية هذه المرة أن هذه الأوضاع قد تمهد لانفصال دارفور عن السودان على المدى المتوسط.