في عام 2023، وبعد نحو 500 سنة، قام رأس الكنيسة الكاثوليكية الغربية البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، بإصدار مرسوم يلغي فيه “مذهب الاكتشافات”، وأصدر الفاتيكان بيانا تاريخيا مهما بهذا الصدد.
وقد أثارت هذه الخطوة المهمة بعض الجدل والنقاشات، وتم تلقيها بأشكال مختلفة. غير أن التلقي العربي لها، كان “متفردا”، كالعادة وقصير النظر، ينطلق من الذاتي جدا. وهذا أمر مسموح به في أزمنة التردي. لكنه لا يمكن أن يشكل معيارا فكريا أو أخلاقيا أو حتى قانونيا، ولا يمنح أصحابه حق الحصول على تعويضات بأثر رجعي. كل ما هنالك أننا توقفنا عند حد “الانتقام”، والسعي إلى بناء حدود أخلاقية ودينية وسياسية فاصلة في عالم تنهار فيه الحدود بأشكالها القديمة والكلاسيكية، وتنشأ فيه صيغ جديدة للعلاقات المبنية على حضارة جديدة ومغايرة تماما.
و”مذهب الاكتشافات”، الذي ألغاه مرسوم البابا فرانسيس، هو منظومة من المبادئ صدرت في صورة سلسلة من المراسيم البابوية في القرن الخامس عشر. وكان أولها المرسوم البابوي الصادر عام 1452، والذي يخول لملك البرتغال “غزو أعداء المسيح وأسرهم وإخضاعهم أينما وجدوا وتحويلهم للعبودية الدائمة”. وبعد هذا المرسوم صدرت سلسلة أخرى منها، تفيد بأن أرض هؤلاء “من غير المؤمنين”، الذين يصبحون عبيدًا “تصبح ملكًا للمسيحيين”، المستعمرين. وهذا التعريف ورد في مقال الدكتورة منار الشوربجي بمقالها المنشور في جريدة المصري اليوم تحت عنوان”مذهب الاكتشافات”، بتاريخ 26 إبريل 2023.
في الحقيقة، لا أحد يدري ما هو وجه الأهمية في هذا “الاعتراف الديني الكنسي”، الذي يأتي بعد 700 سنة؟! وما هي قيمة هذا الاعتراف بالنسبة للشعوب، التي تم احتلالها في القرون الـ 18 والـ 19 والـ 20 ولبقايا الشعوب التي أبيدت أو تكاد تتلاشى؟! ولكن هناك رؤية أوسع قد تتيح لنا فهم بعض الدوافع التي قد تكون وراء هذا المرسوم. وهذه الرؤية تقع في سياق مباشر، وتنتقل إلى سياق أوسع قليلا.
قد تكون هناك قيمة أخلاقية لهذا الاعتراف، ولكن ما هي قيمته المادية؟! وهل يمكن تطبيقه بأثر رجعي؟ واستعادة الحقوق بأثر رجعي، أم أن الأمر مجرد بحث عن آليات لرد الاعتبار والمضي قدما نحو استكمال بناء الحضارة الإنسانية العامة، أو حتى المشاركة فيها وليس التوقف عند الحدود الفاصلة قبل مئات السنين.
من الممكن كتابة أبحاث ومقالات وكتب، ووضع رسائل علمية حول هذا الاعتراف، وهو أمر علمي ومعرفي مهم.. ومن الممكن مواصلة اجترار الماضي، وتحويل المرسوم إلى تريند شعبوي؛ لتبرير كل الكوارث والموبقات.. ويمكن أيضا أن تعلن الدول التي كانت مُستَعمَرة بأنها على حق، وأن الغرب قام باحتلالها وأن الأمريكيين أبادوا الهنود الحمر وغزوا فيتنام، وأن الصليبيين احتلوا بيت المقدس. ولكن ماذا بعد؟!
الغريب أنه عندما تجري مقارنة “الفتوحات العربية- الإسلامية”، لدول وشعوب وإبادة أعراق وثقافات، بالاحتلال الغربي لدول وشعوب وإبادة أعراق وثقافات، نجد أن الزمن والعقل يتوقفان، وتبدأ عملية خلط ومقايضات تاريخية مثيرة للتأمل والتساؤلات. ويشرع البعض بالتأكيد على أن “الفتح العربي الإسلامي”، يختلف عن “الاستعمار الغربي”، وتبدأ دائرة الغرق في التفاصيل والحكايات والخلط والتبريرات، وأن “الفتح العربي الإسلامي”، كان فتحا مبينا وطريقا للهدى والنور والصلاح، بينما “الاستعمار الغربي”، كان إبادة ودمارا ونهبا وسرقة!
ومن أجل الحقيقة، هناك دول غربية كثيرة اعترفت منذ سنوات طويلة بأخطائها، فيما يتعلق باحتلالها دول وشعوب أخرى. والآن تعترف الكنيسة الكاثوليكية الغربية بكل ما تملك من نفوذ ديني، ولكن ما قيمة اعترف الكنيسة؟! وهل تأتمر الدول والحكومات الغربية بأوامر الكنيسة؟! وحتى لو استمعت الحكومات الغربية للكنيسة، فعلى ماذا ستحصل الدول والشعوب التي استعمرت أو أبيد سكانها؟!
من الممكن فقط استخدام هذا الاعتراف من أجل التأكيد على أضرار الغرب، وعلى تاريخه الاستعماري المقيت، ومن ثم التأكيد على أفكارنا وتوجهاتنا وبالتالي، تثبيت مبدأ ضرورة مواجهة الغرب ومقاومته والتعاون مع خصومه، وأعدائه من أجل تصفية الحسابات القديمة والانتقام لأنفسنا وللآخرين، باعتبارنا حاملي رسالة الحقيقة والنور والهدى، بينما نحن في واقع الأمر نعتمد على هذا الغرب في كل شيء تقريبا. وهنا يجب التوقف وقراءة هذا الكلام بعينين اثنتين لا بعين واحدة، لأن القراءة المتربصة غير بناءة وغير مفيدة، وتجعلنا ندور حول أنفسنا في دائرة مغلقة. أي أن هذا الكلام ليس إطلاق دعوة لطمس الخصوصية، أو فقدان “الهوية”، أو الخضوع لهيمنة ما، وإنما هو دعوة للنظر إلى الموضوع في سياق الحاضر وفي إطار “وحدانية المصير البشري”.
وإذا كنا قد قرأنا المقال، والمرسوم البابوي في سياقهما، فإن هذا السياق لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن سياق أوسع مرتبط تاريخيا، وواقعيا بما يجري الآن في إحدى أخطر الأزمات بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، وأزمة الكاريبي عام 1962. والمقصود هنا، هو الأزمة الأوكرانية التي تستمر فصولها للعام الثاني على التوالي، وتكاد تكون حدثا متوازيا ومتزامنا مع الأحداث، التي يتناولها المرسوم البابوي، وإلغاء البابا فرانسيس لأصلها التاريخي والقانوني.
ماذا يعني المرسوم البابوي في الواقع الراهن؟!
إن قراءة مرسوم البابا فرانسيس بعين واحدة، ومحاولة توجيهه نحو عملية استقطاب جديدة، أو تحويله إلى قضية تحتل مقدمة سلم الأولويات، والانحيازات في ظل استقطاب عالمي قائم “هنا والآن”، وفي ظل المواجهات بين روسيا والصين من جهة والغرب من جهة أخرى، تصب سياسيا لصالح روسيا والصين، وتدفع في اتجاه ضرورة (وربما حتمية)، التعاون معهما لمواجهة الغرب الاستعماري الذي نهب ثرواتنا ودمرنا وأباد الشعوب الأخرى. ولكن هل يعرف البعض أو الكثير تاريخ روسيا والصين فيما يتعلق بإبادة الشعوب واستعمار وغزو الدول الأخرى؟! أم أن الاستعمار والإبادة الروسية والصينية كانا “فتوحات”، من أجل الهداية والنور والخير والجمال؟! وما هو موقف روسيا والصين من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين وإبادة الفلسطينيين وثقافتهم وتاريخهم؟! وما هو موقف روسيا التي أقامت دولة إسرائيل في فلسطين، وكان لها الدور الأول والأسبق في تأسيس هذا الدولة الإسرائيلية في المجال القانوني؟!
هناك دعوات وتوصيات كثيرة، ولحوحة من مراكز الأبحاث المتنفذة ومن مجالس الأمن القومي في العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بضرورة الاعتراف بأخطاء الماضي، بل وبإمكانية دفع تعويضات وإجراء خطط معينة اقتصادية واجتماعية وتاريخية؛ لتعويض الدول والشعوب التي كانت مُستًعمَرة. هذه الدعوات والتوصيات ظهرت على استحياء في تسعينيات القرن الماضي، وتعززت في السنوات العشرين الأولى من الألفية الثالثة. ولكنها الآن تمثل ورقة ضغط على الحكومات الغربية، منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، واتخاذ بعض الأنظمة السياسية العربية الحليفة للغرب مواقف محايدة، وأحيانا عدائية لأسباب كثيرة، ليس من بينها بطبيعة الحال مسألة الاستعمار القديم وتصفية الحسابات الاستعمارية. أما مواقف النخب و”التريندات الشعبوية”، فهذا أمر آخر بحاجة إلى تدقيق وتفصيل وإحصاء للتناقضات، والوقوف عند حالات قصر النظر والتعامل بمعايير مزدوجة، وإغلاق مسارات التطور والتقدم على “الانتقام”، بأثر رجعي، وفي الوقت نفسه لا تعتمد هذه النخب و”التريندات الشعبوية”، إلا على المصادر الغربية والتكنولوجيا الغربية. وعدم درايتها بالماضي الاستعماري لروسيا والصين لا يعني أنه غير موجود. وهذا ليس إطلاقا تبرير للغرب أو تحسين لصورته، وإنما دعوة للنظر بعمق واتساع، ومراعاة للمصالح الوطنية والقومية والنظر إلى الأمام.
وفي الواقع، هناك فقرة مهمة للغاية في مقال الدكتورة منار الشوربجي، وربما هي الفقرة التي تخرجنا من السياق المباشر لمقالها وللمرسوم البابوي إلى السياق الأوسع “هنا والآن”.
تقول الشوريجي: (وقالت الكنيسة إن المذهب يتعارض مع “الكرامة الإنسانية”، وعليه فإنها تنبذه لأنها ترى أنه “استُغل من جانب القوى الاستعمارية؛ لتبرير ممارسات غير أخلاقية ضد السكان الأصليين وبدون معارضة”، من جانب الكنيسة. ليس ذلك فقط وإنما أضافت الكنيسة أنه “من العدل الاعتراف بتلك الأخطاء، وبالتداعيات المريرة لسياسات الدمج (القهري)، وما سببته من آلام للسكان الأصليين، ولنا أن نطلب المغفرة”. وقال البيان صراحة إن استباحة الأرض وسكانها “ليست من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية”، التي “باتت على وعي بمعاناة السكان الأصليين في الماضي والحاضر؛ نتيجة الاستيلاء على أراضيهم” وبسبب السياسات الحكومية لدمجهم قسرًا “بهدف محو ثقافتهم”).
هذه الفقرة المهمة تلقي بالمزيد من الضوء على ما يجري. فاعتراف الكنيسة الغربية يأتي الآن في عام 2023، وبعد عام من الغزو الروسي لأوكرانيا، لأسباب سياسية محضة. فهو من جهة يعيد فتح الحوار بين المستعمِر القديم، وبين الدول التي كانت مستعمَرة، في محاولة لتطبيع الأمور التي انفلتت بدرجات معينة في السنوات الأخيرة، واستجابة ضمنية لدعوات وتوصيات مراكز الأبحاث المتنفذة، ومجالس الأمن القومي للدول الغربية. ومن جهة أخرى، يسلط الضوء على غزو روسيا للأراضي الأوكرانية وضم جزء من هذه الأراضي لروسيا، ونقل “الأطفال”، والسكان الأوكرانيين إلى روسيا ومنحهم الجنسية، وما يتبع ذلك من تغييرات ديموجرافية وجغرافية، وإجراء تحولات في وعي السكان و”الأطفال”، الذين تم نقلهم إلى روسيا أو الذين يخضعون لسيطرة القوات والوجود الروسيين في المناطق الأوكرانية. وهذا هو السياق العام المحيط بمرسوم البابا فرانسيس:
– فتح قنوات جديدة أمام الدول الغربية إلى مستعمراتها القديمة، ليس من أجل استمرار الاحتلال وإنما من أجل المراجعة والاعتذار، وربما التعويض. ومن ثم الحفاظ على التحالفات الغربية في مرحلة استقطاب عالمي مريعة.
– إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، واحتلال أراضيها وضمها إلى قوام روسيا الاتحادية، ونقل السكان و”الأطفال”، لتغيير وعيهم وهوياتهم. وإذا لا حظنا، فإن الفقرة أعلاه من مقال منار الشوربجي تكاد تنطبق على الحالة الروسية في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، بينما الفقرة تتحدث عن تفاصيل في الفترة من القرن الخامس عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين. ما يعني ضمنيا أن روسيا تتصرف الآن بمنطق 500 سنة مضت. وليس هذا فقط، وإنما أيضا لتسليط الضوء على الدعوات الدينية من جانب الكنيسة الروسية؛ لإحياء الإمبراطورية الروسية وفي مركزها الكنيسة الأرثوذكسية السلافية بقيادة بطريرك موسكو، وعموم روسيا. والبطريرك الروسي كيريل ليس فقط من أنصار الغزو الروسي لأوكرانيا، وضم الأراضي الأوكرانية لقوام روسيا، وإنما أيضا يوجه نداءات دينية للمواطنين الروس للذهاب إلى الحرب المقدسة في أوكرانيا.
نحن ومرسوم البابا فرانسيس
في كل الأحوال، هذا موضوع طويل ومتشعب. وإذا ظللنا نحن في منطقة “الغبار البشري”، متوقفين عند “الخيار”، و”الفقوس”، وأن هناك احتلالا للهداية والنور واحتلالا للنهب والإبادة، فإننا لن نتحرك أي خطوة للأمام، وسنظل متوقفين عند التنظير والانتقام، بينما الغرب يتقدم في كل الأحوال، ويتحول إلى نقطة جذب لسكان تلك المستعمرات القديمة التي توقفت عند عام 1500 مثلا!
إن الدرس المهم بالنسبة لنا هو الاعتراف، ولو حتى نظريا بأن ما يسمى بـ “الفتوحات”، لا يختلف عن “الاستعمار الأوروبي”. والاعتراف النظري من جانب النخب والمؤسسات الدينية أمر مهم، لأنه لا توجد دولة خلافة، ولا توجد دولة أو دول تطورت على أساس الخلافة، وورثت كل ما لها وما عليها. إذًا يبقى فقط الاعتراف الأخلاقي والمعرفي كخطوة أولى. وذلك بدلا من فكرة التفوق وامتلاك الحقيقة اللذين يشكلان وعينا الباطن، ومركز انطلاقنا للنظر إلى الأمور، سواء الأمور الماضية أو الحالية أو حتى المستقبلية. وبطبيعة الحال في المقابل نجد دولا تمثل استمرار للإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وتعتبر امتدادا لها. وهي نفسها تعترف تباعا وبشكل تدريجي بأخطائها. كما أن الكنيسة نفسها تعترف بهذه الأخطاء، وتعمل على إصلاحها على أرض الواقع، وليس فقط عبر المناشدات والتوصيات والبيانات.
الأمر الآخر هو أن الغالبية، إن لم يكن كل الدول الغربية لا تأتمر بأوامر الكنيسة الكاثوليكية، ولا الفاتيكان، لأنها فصلت “اللحم عن الذباب”، منذ عشرات ومئات السنين. وهي الآن تسعى لإنهاء أي علاقة بين الدين والسياسة، ووضع الدين في مكانه الطبيعي في الإطار القانوني- المدني لمؤسسات الدولة، وبعيدا عن الحياة العامة لـ “المواطنين”. أي أن هناك محاولات للقضاء التام والمبرم على تاريخ ملوث أضر بالكثير من الشعوب والدول. وحتى إذا كان ذلك جاء متأخرا، فـ “التأخير خير من عدم المجيء”. بينما هناك من هو متوقف عند الماضي، يدعو للانتقام بأثر رجعي، ويبرر لنفسه، ويصر على الخصوصية والتفرد وامتلاك الحقيقة.
إن مقال الدكتورة منار الشوربجي في غاية الأهمية، ويحتاج لقراءة واعية بعينين اثنتين وليس بنصف عين. وأهميته لا تقل عن أهمية خطوة الفاتيكان وما جاء في بيانه التاريخي. فمقال الشوربجي وفي سياقه الخاص به هو جرس إنذار، وتوجيه الاهتمام إلى خطوات جريئة تتم من حولنا. وذلك على الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية لا تملي إرادتها على الحكومات الغربية، وإنما العكس قد يكون هو الصحيح. أو ربما تكون الكنيسة الغربية، قد نضجت إلى ذلك الحد الذي ترى فيه الأمور بشكل إنساني عام بعيدا عن “الأسوار الدينية والمذهبية”، وربما تكمن أهميته أيضا في “التثبيت التاريخي”، لحقيقة ما على الرغم من صعوبة تسييلها المادي في الواقع الراهن.