أيام، ويحل الميعاد المقترح من مجلس أمناء الحوار الوطني، وتبدأ الجلسة الأولى للحوار الذي دعا له رئيس الجمهورية منذ نحو عام وأوشك على الانطلاق، ففي الثالث من مايو- حسب إعلان مجلس الأمناء- تنطلق الجلسة الرسمية الأولى، وهي في تقديري نفس اللحظة التي سيبدأ معها الناس الاستعداد؛ لإصدار الأحكام الحاسمة، فإما أن يكون حواراً جاداً وشاملاً وخطوة مهمة نحو التحول الديمقراطي الحقيقي، أو يتحول إلى مهرجان للمبايعة والتصفيق والتهليل، وإما أن يحمل معه الأمل في تغيير الكثير جداً من الوجوه والسياسات، أو يرفع الشعار الشهير: ليس في الإمكان أفضل مما كان.

مع انطلاق جلسات الحوار تبدو الصحافة في أسوأ أوضاعها على الإطلاق، حصار شامل مفروض على المهنة منذ سنوات، وقيود صارمة حولت الإعلام إلى ما يشبه “النشرات الرسمية”، ودفعت المواطن للانصراف بشكل كامل عن متابعته، والالتفاف حول “إعلام الخارج”، يبحث فيه عن الحقيقة، ويفهم ما الذي تخفيه السلطة، ويتيقن مما يحمله المستقبل لمصر وشعبها، ويروي فيه ظمأ الإنسان الدائم للمعرفة، لا سيما إذا كانت معرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياته، ومستوى معيشته هو وأبناؤه.

“العنوان الرئيسي”، الذي يجب أن يرفعه ممثلو الصحافة في جلسات الحوار في تقديري هو: رد المهنة لأبنائها، وذلك عبر ملفات رئيسية وهامة ولا صحافة بدونها، فلا تقدم كما أعتقد إذا لم ينجز الحوار خطوات مهمة، وجادة في ثلاثة ملفات على الأقل هم الأكثر إلحاحاً في اللحظة الحالية.

فأهل مكة أدرى بشعابها، والصحفيون هم الأقدر على تشخيص واقعهم، ووضع الحلول التي تضمن الحفاظ علي المهنة وتطورها.

أولاً: رد المهنة لأبنائها عبر تحرير المحتوى الصحفي من الحصار، ورفع القيود المفروضة على الصحافة بشكل كامل، والانتقال من “صحافة السامسونج”، الموجهة التي تشبه “النشرات الرسمية”، إلى العمل الصحفي الحر والمهني، الذي لا يخضع إلا لأدبيات المهنة وقواعدها، ومواثيق الشرف التي تضمن نزاهتها ومصداقيتها، وذلك بالمطالبة الواضحة خلال جلسات الحوار برفع يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في العمل المهني، وتفاصيل ممارسته، والتوقف عن كل صور التدخل في المحتوى الصحفي بالتوجيه أو الضغط أو التهديد، وأن تكون النقابة لا النيابة، هي المؤسسة المعنية بالتحقيق في كل صور التجاوزات المهنية، وبالتطبيق الأمين لميثاق الشرف الصحفي، وبخلق المناخ الحر والمنضبط، الذي يضمن ممارسة مهنية نزيهة وصادقة وبعيدة عن القيود في نفس الوقت.

ثم لا يمكن أن يتجاهل ممثلو الصحافة أهمية المطالبة الواضحة برفع الحجب عن المواقع الصحفية، وبالتوقف عن استخدام سلاح الحجب ضد الصحافة تحت أي ظرف، وقبل كل هذه البنود، وبعدها إخلاء سبيل الزملاء الصحفيين المحبوسين في قضايا النشر والرأي، ووقف التهديد والترهيب بالحبس.

ثانيا: رد المهنة لأبنائها عبر تعديل كل القوانين التي تنتقص من العمل الصحفي، والتي تحاصر المحتوى الصحفي، أو تجيز الحبس في قضايا النشر، أو تلك التي تستخدم جملاً وعبارات “مطاطية”، ليس لها تعريف منضبط وتصلح لاتهامات فضفاضة ضد الصحفيين، ويأتي على رأس هذه القوانين القانون رقم ١٨٠ لسنة ٢٠١٨، وهو القانون الذي يمتليء بكلمات ليس لها تعريف قانوني واضح مثل “الكراهية والعنصرية ومعاداة الديمقراطية والإباحية”، وغيرها من مرادفات تضع الصحفي تحت مقصلة القانون حسب مزاج “الرقيب”، ثم إن هذا القانون يجيز وقف الصحف والمواقع وحجبها، ويفرض غرامات غليظة ضد المؤسسات الصحفية في حالة الخطأ المهني، وطبقا لهذه الكلمات الغريبة وغير المفهومة، فلا يمكن لممثلي الصحافة في الحوار إلا بالمطالبة بتعديل هذا القانون فوراً، واشتراك النقابة- حسب النص الدستوري الملزم- بالنقاش في أي قانون ينظم العمل الصحفي، وعلى السلطة والبرلمان احترام وجهة نظر الصحفيين في القوانين التي تنظم عملهم، فهم أدرى الناس به وبشئونه وتفاصيله وأزماته.

ثالثا: يبدأ الحوار المنتظر على خلفية أزمات اقتصادية، ومعيشية صعبة يعيشها الصحفيون، وعليه فإن رد المهنة لأبنائها يقتضي تقدم ممثلو الصحافة في الحوار بمشروعات قوانين، أو المطالبة بقرارات تنفيذية عاجلة، تحسن من المستوى المادي لأبناء صاحبة الجلالة، وتقلل من الضغوط الحياتية الصعبة التي حاصرت الغالبية العظمى منهم، وقد تابعت عدداً من الأفكار المهمة والقيمة التي طرحها الصحفيون، وطالبوا بإعلانها في جلسات الحوار لتحسين المستوى المادي للصحفيين، وبات على ممثلي المهنة مناقشتها بجدية، والدفاع عنها بقوة خلال الجلسات الرسمية، فلا يمكن أن يتخلص الصحفي من القيود، أو المقاومة وعدم الاستسلام للضغوط المفروضة على قلمه قبل أن يتحرر من ضغط العوز والاحتياج، وأظن أن الحوار الذي بات وشيكاً فرصة جيدة لطرح الأزمات المادية، التي يعاني منها الصحفيون وطرح الحلول لها، وهي خطوة لا يمكن ضمان ممارسة صحفية نزيهة وصادقة بدونها.

حرية المحتوى الصحفي ورفع الحصار عنه، وتعديل القوانين التي تنظم عمل الصحافة، وتحسين المستوى المادي والمعيشي للصحفيين هم الملفات الثلاثة العاجلة التي لا تحتمل انتظاراً ولا تأخيراً، وهم المقدمة لأي تطور يمكن أن يطرأ على مهنة البحث عن الحقيقة، وهم الأمل في أن يكون الحوار هو نقطة البدء وفاتحة الكتاب؛ لتغيير كبير تحتاجه الصحافة وينتظره أبناؤها، وظني أن ممثلي الصحافة مطالبون بالحديث عن الملفات الثلاثة بكل قوة ووضوح وبلا تردد، فإما أن نتقدم خطوات للأمام، أو أن نبقى في نفس المربع الذي نقف فيه منذ سنوات، حتى أوشكت الصحافة أن تموت وتنتهي للأبد.

فالمؤكد أنها المرة الأولى منذ سنوات، التي يمكن أن يعلو فيها صوت الصحفيين للحديث عن أزمات مهنتهم، وطرح الحلول لها، وهي فرصة نرجو ألا تكون واحدة من الفرص الكثيرة الضائعة، فهي التي ستضمن لنخبة البلد أن يتحاوروا، وهي الفريضة الغائبة، وللسلطة أن تستمع إلى أصوات جديدة غير صوتها، وأفكار مختلفة عن أفكارها، وحلول يمكن أن تساهم في دفع المجتمع كله خطوات مهمة للأمام.

وها نحن في الانتظار!