أصبحت تهمة نشر أخبار كاذبة إحدى الاتهامات الشائعة، التي توجه لكثير من المحبوسين وسجناء الرأي في السنوات الأخيرة، ضمن اتهامات أخرى أبرزها الاعتداء على قيم الأسرة المصرية، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الاتهامات المكررة التي تمس حرية الرأي والتعبير، وتتوزع في أبواب قانون العقوبات 58 لسنة 1937، والذي تمت صياغته أثناء االاحتلال الإنجليزي لمصر، كما عاصر حقبا سياسية مختلفة في توجهاتها بين أنظمة ملكية و جمهورية ـ اشتراكية ورأسمالية ـ ولم يفكر أحد في إجراء تغيير شامل لهذا القانون و فلسفته العقابية في تلك الجرائم.

وورد نص الاتهام بـ(نشر أخباركاذبة)، في 4 صور جاءت ثلاث منها في الكتاب الثاني منه، والمعنون بالجنايات والجنح المضرة بأمن الحكومة من جهة الخارج، والداخل في المواد (80 ج، 80 د، 102 مكرر)، و المادة 188 والتي ذكرت ضمن الباب الرابع عشر الخاص بالجرائم، التي تقع بواسطة الصحف وبغيرها. وهو ما يتناوله هذا المقال.

أولا : المادة 80 ج: و تنص على عقوبة السجن لكل من أذاع عمدا في زمن الحرب أخبارا أو بيانات أو إشاعات كاذبة مغرضة، أو عمد إلى دعاية مثيرة وكان من شأن ذلك إلحاق الضرر بالاستعدادات الحربية؛ للدفاع عن البلاد أو بالعمليات الحربية للقوات المسلحة، أو إثارة الفزع بين الناس أو إضعاف الجَلد في الأمة.

ولم يشترط النص توافر قصد جنائي من نوع خاص، ولكنه اشترط على الأقل توافر العلم بأن تلك أخبار كاذبة، وبأن من شأنها الإضرار بالمصالح التي ذكرها، وبالتالي فإن مجال تطبيق هذه المادة يتعلق بالمصالح العسكرية.

ثانيا: المادة 80 د: تعاقب على نشر الأخبار الكاذبة في الخارج بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات، وغرامة مالية لكل من أذاع عمدا في الخارج أخبارا أو بيانات أو إشاعات كاذبة، حول الأوضاع الداخلية للبلاد وكان من شأنها إضعاف الثقة المالية بالدولة أو هيبتها، واعتبارها أو باشر بأية طريقة كانت نشاطا من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد. وتصل العقوبة إلى السجن إذا وقعت الجريمة في زمن الحرب.

وقد اشترط النص، أن يكون مرتكب الفعل مصريا، وأن يقع الفعل (الإذاعة )، في الخارج، دون أن يوضح ضرورة أن يكون الجاني مقيما في الخارج أم لا . ويذهب الاتجاه الغالب إلى أن إذاعة هذه الأخبار لا تحدث داخل البلاد، ولكن في خارجها، حيث يستلزم قيام كافة عناصر الركن المادي للجريمة خارج البلاد.

والمشرع وفقا لهذا النص لا يلزم أن يقصد الجاني الإساءة للأوضاع الداخلية للبلاد… أو الإضرار… فيكفي أن يكون الخبر المذاع من شأنه إحداث ذلك، أي أن الجريمة ذات قصد عام، كما يجب أن يكون الخبر المذاع كاذبا، حتى تنعقد مسئولية الجاني.

ثالثا: المادة 102 مكرر: تعاقب تلك المادة بالحبس والغرامة كل من ” أذاع عمداً أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة، وتُشدد العقوبة إذا وقعت في زمن الحرب. واشترطت في الخبر أن يؤدي لأغراض معينة وهي ” تكدير الأمن العام، أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة”.

وقد أضيفت تلك المادة بموجب القانون 112 لسنة 1957، ولاحقا حذفت منها عبارة “أو مغرضة أو بث دعايات مثيرة”، بالقانون 147 لسنة 2006. ويذهب د. رمسيس بهنام إلى أن السلوك المؤدي إلى الركن المادي لهذه الجريمة، هو إذاعة “أخبار وإشاعات تتميز بأنها كاذبة”، والأخبار الكاذبة هي “إعلان أو أنباء بأمور تثير اهتمام المخاطبين، وأن تكون الأخبار غير معلومة للجمهور قبل النشر، وقدمها صاحبها على أنها حقيقة ثابتة ومطابقة للواقع”، لذلك يخرج عن نطاق الجريمة التعليق، والرأي في وقائع معلومة للجمهور، ولو كان خاطئا أو مبالغا فيه. و اشترط النص صراحة لتحقق الجريمة أن يكون من شأن الأخبار الكاذبة (تكدير الأمن العام …)، وهذه النتيجة ليست مفترضة أو متخيلة، وإنما يجب أن يكون لها مظاهر تنطق بها أوراق القضية، ويمكن للمحكمة بسط رقابتها عليها، و يجب إقامة الدليل على كيفية تحقق تلك النتيجة.

أما الركن المعنوي لهذه الجريمة، فهو القصد العمدي أي أن تنصرف إرادة الجاني إلى إذاعة الأخبار الكاذبة، وهو عالم يقينا بكذبها، وبذلك لا يجوز استخلاص عنصر العلم بمجرد إثبات كذب الأخبار، فمسألة إثبات الركن المعنوي للجريمة تنفصل تماما عن إثبات ركنها المادي، فلابد من إثبات أن المحرر كان يعلم بكذب الخبر وقت النشر، وإلا كان الحكم قاصرا.

رابعا : المادة 188 : وتنص على عقوبة الحبس لمدة لا تجاوز سنة، والغرامة أو بإحدى العقوبتين كل من نشر بسوء قصد ذكرها أخبارا أو بيانات، أو إشاعات كاذبة أو أوراقا مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذبا إلى الغير، إذا كان من شأن ذلك تكدير السلم العام أو إثارة الفزع بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة.

ولا بد أن يتعلق الأمر بخبر، وأن يكون الخبر كاذبا. على ذلك يجب أن يكون الأمر المنسوب إلى الفاعل خبرا، وليس رأيا أو انطباعا أو تعبيرا عن مشاعر شخصية.

وقضت محكمة النقض على أنه يجب تطبيق المادة 188، أن يكون الخبر كاذبا وأن يكون ناشره عالما بهذا الكذب، ومتعمدا نشر ما هو مكتوب، فإذا كان الحكم لم يورد شيئا عن كذب الخبر في ذاته، ولا عن علم الطاعن بكذبه فإنه يكون قاصرا لعدم استظهاره عناصر الجريمة، التي دان الطاعن بها. فإن اكتفت المحكمة بالتدليل على كذب الخبر، وتوافر سوء النية فإن هذا لا يكفي ويعد حكمه خاطئا مستوجبا للنقض.

ولا تقوم جريمة نشر أخبار كاذبة إلا بتوافر سوء النية، وقد قضى بأن القانون لا يفترض سوء النية، وعبء الإثبات يقع على النيابة العامة.

وبشكل عام، فإن هناك عددا من الملاحظات حول هذه المواد، وبشكل خاص المادتين 188، 102 مكرر أهمها:

ـ توافر شبهة عدم الدستورية بهذه النصوص، حيث يقررا الحبس في قضايا النشر بالمخالفة لدستور 2014، الذي حظرت المادة 71 منه توقيع أي عقوبة سالبة للحرية في قضايا النشر، إلا في الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، والتمييز بين المواطنين، والطعن في أعراض الأفراد، كما يشير النص إلى الجرائم التي “ترتكب بطريق النشر أوالعلانية”، وليس ” تعبير جرائم النشر”.

ـ كما تضمنت كلا المادتين استعمال تعبيرات مشابهة، و فضفاضة وغير منضبطة مثل “تكدير السلم/ الأمن العام”، ” إلحاق الضرر بالمصلحة العامة”،  “إثارة الفزع”، بما يتعارض مع الوضوح الواجب للنص الجنائي العقابي إعمالا لمبدأ الشرعية الجنائية.
بذلك يتضح أن هناك تعارضا بين حرية الرأي و التعبير من ناحية، وتجريم نشر أخبار كاذبة من ناحية أخرى، وقد اتجهت كثير من التشريعات إلى إلغاء هذا النوع من التجريم، والاكتفاء فيه بالغرامة في الحد الأدنى.

والخلاصة، أننا نحتاج بشكل عاجل إلى إجراء إصلاح قانوني شامل في المنظومة القانونية، والقضائية وبشكل خاص مراجعة قانوني العقوبات، والإجراءت الجنائية بما يتواءم مع نصوص الدستور والحقوق والحريات الأساسية، وأهمها الحق في المحاكمة العادلة، وحرية الرأي والتعبير، وبدون ذلك ستستمر أزمة الحريات العامة ما دام لم ننتهج هذا الطريق.