بعد أيام قليلة من ذكرى مرور 3 سنوات على نجاح الشعب السودانى في إنهاء حكم البشير، وبضعة شهور من التوقيع على الاتفاق الإطارى، الذى كان يفترض أن يمهد لمرحلة انتقالية جديدة تحت إدارة حكومة مدنية، عقب التأزم الذى شهده المسار السياسى منذ أكتوبر 2021، تأتى الحرب الجارية بين الجيش السودانى بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتى)، لتمثل فصلا جديدا هو الأكثر تأزما في مسار السودان بعد ثورة شعبه العظيم في 2019.

الصراع الذى اندلع قبل ما يزيد على أسبوعين، والذى تبدو أسبابه متراكمة على مدار الفترة الماضية وليست مفاجئة، وإن كان أبرزها فيما هو معلن الخلاف حول تفاصيل ما هو وارد كعناوين عامة في الاتفاق الإطارى، بالأساس فيما يتعلق بدمج قوات الدعم السريع ضمن الجيش السودانى والمدى الزمنى لتلك العملية، وكذلك فيما يتعلق بتوسيع القوى الموقعة على الاتفاق الإطارى، والمشاركة في العملية السياسية بناء عليه، خاصة في ظل مواقف عدد من القوى والحركات الرافضة للاتفاق، لكن ضمنيا فإن أسس الخلاف، والتوترات بين البرهان وحميدتى تبدو ممتدة لما هو أبعد حول طبيعة تصورات كل طرف للمرحلة المقبلة سياسيا، ولوضعه ودوره فيها، فضلا عن تحالفات كلاهما السياسية داخليا وإقليميا.

وبالطبع، فإن التطورات الأخيرة دفعت بمحاولات تفادي مآلات الصراع العسكري وإنقاذ المواطنين، ومعالجة الأزمات الصحية والمعيشية وغيرها من أولويات الحياة إلى المقدمة، وتعددت المبادرات الهادفة لوقف القتال والجلوس على مائدة المفاوضات والحوار، وتوالت الهدنة تلو الأخرى بكل ما تتعرض له من خروقات، لكن يظل الحال على ما هو عليه حتى اللحظة الراهنة دون أفق واضح، حتى الآن للوصول لحل أو تسوية محل توافق بين الأطراف المتصارعة.

وبقدر ما يبدو المشهد الداخلى في السودان مركبا ومعقدا، ومتشابكا في ظل تعدد الأطراف ومواقفها وتحالفاتها، فإن المشهد على الصعيد الإقليمى والدولى، لا يبدو مختلفا بل قد يكون أكثر تداخلا وتعقيدا، ولعل نظرة مدققة لواقع مواقف الأطراف الإقليمية والدولية بعيدا عن التصريحات الرسمية، يكشف خريطة شديدة التشابك ومثيرة للدهشة والعجب من طبيعة المواقف، لكثير من الأطراف الإقليمية والدولية ذات الصلة بما يجرى في السودان.

وربما، تبدو محاولات مقارنة الوضع في السودان بعد ثورة 2019 بغيرها من الدول العربية في غير محلها، فالوضع السياسى والاجتماعى في السودان يبدو أكثر تعقيدا وتركيبا، وتاريخ الصراعات المسلحة في هذا البلد يبدو طويلا، لكن مخاطر ما يجرى الآن تبدو كبيرة، سواء على صعيد الضحايا والمصابين من المواطنين السودانيين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع، والذين لم يطلبوا سوى حياة كريمة في وطن حر عادل ديمقراطى، أو على صعيد احتمالات استمرار هذا الصراع لفترة طويلة في ظل التحالفات الداخلية والإقليمية المختلفة لكل طرف، واحتمالات دخول أطراف أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر على خط الصراع في حال امتداده، فضلا عن اتساع نطاقه الجغرافى وشموله أطراف أخرى داخل السودان، واستعادة خطر تعدد الأطراف الحاملة للسلاح في مناطق مختلفة في السودان، وهى كلها مخاطر شديدة خاصة في ظل وضع إقليمى شديد التعقيد، ووضع دولي لا يبدو مستعدا أو ملتفتا بحق؛ لمشكلات المنطقة بشكل عام، وبالتالي لا يحتمل وضعا جديدا أكثر تأزما في السودان.

في القلب من ذلك كله تمثل الأزمة الجارية في السودان مصدر قلق حقيقى لمصر، تحديدا سواء بحكم الجوار أو العلاقة التاريخية أو المصالح المشتركة في الملفات المفتوحة، وعلى رأسها مثلا سد النهضة، وبالتأكيد لا تحتمل مصر توترات جديدة على حدودها بالذات في حال استمرار الصراع القائم لمدى طويل زمنيا، أو تشكل سلطة جديدة مناوئة للمصالح المصرية أو متحالفة مع أطراف أو صاحبة مصالح متناقضة مع مصر، أو الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي سوف تطول بدرجة كبيرة مصر.

وبقدر ما تدعو المصالح المصرية المباشرة للعب دور فاعل وجاد في محاولة التوصل لتسوية لتلك الأزمة، واستعادة المسار السياسى بشكل صحيح وحقيقى وشامل، فإن تعقد المشهد وتضارب مواقف ومصالح أطراف إقليمية، ودولية متعددة فضلا عن مواقف بعض الأطراف السودانية نفسها قد تحد من قدرة مصر على لعب مثل هذا الدور في الوقت الراهن، فضلا عن موقف مصر المعروف، بأنه أقرب إلى قائد الجيش السودانى عبد الفتاح البرهان، وبالتأكيد، السياسة المصرية الداعمة للجيش النظامي في مواجهة أي فصائل أو قوى عسكرية أخرى، وإلى حين النجاح في التوصل لوقف كامل للقتال الدائر، فإن الحفاظ على موقف مصري أقرب للحياد دون تدخل مباشر في الأزمة، يبدو الاختيار الأصح، مع التوسع والسرعة في إجراءات انتقال المواطنين السودانيين الراغبين في الدخول إلى مصر.

وربما تجدر الإشارة هنا للجدل الذى دار لبعض الوقت في الأيام الماضية حول توافد الأشقاء السودانيين إلى مصر، وتخوف البعض من ذلك والذي وصل في بعض الأحيان إلى سخرية أو تنمر أو لغة غير مقبولة، وإن كانت هذه الظاهرة تظل محدودة مقارنة بالتحرك الشعبي التلقائي، الذى تم في استقبال السودانيين والعديد من المبادرات التي لا تزال محدودة، وتحتاج للمزيد من التوسع والتنظيم في توفير احتياجات الحياة للوافدين من السودان، وهو دليل جديد على حقيقة وطبيعة وفطرة الشعب المصرى بعيدا عن أي نظرات ضيقة. لكن بعيدا عن ذلك ربما يبدو مهما التفكير والتخطيط من الآن على الصعيد السياسى فيما هو مقبل بكل احتمالاته، فضلا عن التفكير في طرق تواصل وفتح الباب لمبادرات من قوى سياسية، وشعبية وأهلية مع مختلف الأطراف في السودان؛ بحثا عن مساحات تواصل وتأثير أوسع.

استمرار عمليات الإجلاء الجارية تشير لأن أغلب الأطراف الإقليمية، والدولية تعتقد أن الصراع العسكرى سوف يمتد لبعض الوقت، وإن كانت بعض التقديرات تشير أن الجيش هو الأقرب لحسم الصراع عسكريا، وهو الأمر الطبيعى والمتوقع، لكن الخوف أن ذلك لن يعني إنهاء الأزمة سواء على الصعيد السياسى أو العسكرى، بل قد يمثل فصلا جديدا من الصراع الممتد، إذا لم يصاحب ذلك تسوية سياسية واتفاق واضح بين مختلف الأطراف السودانية، ولعل أي من المبادرات والمسارات المطروحة حاليا تفضي إلى بدايات لهذا المسار، وإن كان من المهم الالتفات لمساعي بعض القوى والأطراف الإقليمية للدخول على الخط بزعم التهدئة، وتبني مبادرات، أو فتح الباب لمساعي قوى داخلية لاستعادة حضورها ونفوذها.

السودان بكل قيمته وحضوره ووزنه لا يستحق بالتأكيد كل ما يجرى من مسارات متعثرة، ولا صراعات متتالية ولا دماء مزهقة، ولا يستحق شعبه الصبور الحمول المسالم الطامح لحياة ديمقراطية حرة كريمة هذا الوضع، ولعل السودان كما كان في تاريخه كثير من الصراعات والانقلابات وغيرها، فإن تاريخه شهد أيضا انتقال ديمقراطى، وتسليم السلطة لقادة مثل عبد الرحمن سوار الذهب، ولعل السودان تكون في حاجة لسوار ذهب جديد في القريب العاجل، لكنها أيضا بحاجة لموقف سياسي وشعبي واسع، يهدف لوقف الحرب الجارية أولا، ثم موقف موحد للقوى السياسية رغم كل تبايناتها واختلافاتها يتبنى خريطة واضحة بأوسع توافق ممكن وإدراك واضح لموازين القوى، وترتيبات عملية ممكنة للانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي في أقرب وقت.