تلقي الحرب المشتعلة في السودان حاليًا، بظلال ثقيلة على قطاعات الاقتصاد المصري كآفة، بداية من الشركات الصناعية التي تعتمد على خامات مستوردة في الإنتاج، أو تُصدر منتجها النهائي للخرطوم، والاستثمارات المصرية الضخمة بمجال استصلاح الأراضي والثروة الحيوانية، وتدفقات العمالة العائدة التي يُتوقع أن تضغط على سوق العمل المحلية، وانتهاءً بأزمة لاجئين متوقعة، تضيف أعدادًا أخرى إلى تلك الموجودة بمصر حاليًا، التي تربو على 9 ملايين لاجئ.
تحذر وكالة موديز للتصنيف الائتماني، من أن أوضاع السودان لن تتوقف تداعياتها على داخله فقط، ولكن ستحمل تأثيرًا ائتمانيًا سلبيًا على البلدان المجاورة (مصر وجنوب السودان وإثيوبيا وتشاد)، وكذلك بنوك التنمية متعددة الأطراف، خاصة حال تطور الاشتباكات، وتحولها لحرب أهلية طويلة، مع دمار البنية التحتية، وتدهور الأوضاع الاجتماعية.
التقديرات الدولية تشير حاليًا، إلى أن استمرار الاشتباكات بين الدعم السريع والجيش السوداني، وتوسعها قد تدفع بنحو 10 ملايين سوداني؛ لترك البلاد للدول المجاورة خاصة مصر، ما يفرض أعباءً جديدة على اقتصاد مصر، التي ستضطر إلى تخصيص مدفوعات مالية كمساعدات للسودانيين، أو تقديم خدمات طبية وغذائية للقادمين إليها.
تهديد الاقتصاد
يمثل السودان سوقًا لكثير من الصادرات المصرية، خصوصًا في ظل سهولة عبور الحدود بين البلدين، إذ تعمل في النقل النهري مئات الشاحنات المصرية، التي تنقل حديد التسليح والأثاث المعدني والسلع الغذائية ومصنوعات اللدائن والمنتجات البترولية والأدوية ومصنوعات من النحاس، وتعود أدراجها باللحوم والقطن الخام والسمسم والبذور الزيتية.
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، سجّلت قيمة التجارة بين مصر والسودان ارتفاعًا بنسبة 18.2% خلال عام 2022، لتبلغ 1.434 مليار دولار مقابل 1.212 مليار دولار خلال عام 2021.
تُصدر مصر إلى السودان البلاستيك بقيمة 81.4 مليون دولار، وحديد وصلب بقيمة 50.8 مليون دولار، وأسمدة بقيمة 41.8 مليون دولار، وزجاج وأواني زجاجية بقيمة 29.4 مليون دولار، ومنتجات صيدلانية بـ26.1 مليون دولار، ومواد نسيجية بقيمة 24.3 مليون دولار، وورق بأصنافه بقيمة 17.2 مليون دولار، ولدائن ومصنوعاتها بقيمة 137.4 مليون دولار، وسكر بقيمة 1.6 مليون دولار، ومنتجات مطاحن شعير ونشا حبوب بقيمة 53 مليون دولار.
تستورد مصر في المقابل من السودان حيوانات حية بقيمة 193.2 مليون دولار، وحبوب بقيمة 70.8 مليون دولار، وقطن بقيمة 43.6 مليون دولار، ولحوم بقيمة 24.2 مليون دولار، بجانب منتجات خام للقطاع الصناعي في مقدمتها الصمغ العربي.
مع اتساع نطاق الحرب، يُتوقع أن يتحول جزء من الصادرات المصرية، لمساعدات خاصة مع العلاقات التاريخية الممتدة بين البلدين علاوة على انقطاع الطرق بفعل الاشتباكات، ما يستحيل معه حركة نقل البضائع وفوق ذلك كله ستتأثر الاستثمارات المصرية بقوة خاصة مع عودة العمالة حاليًا، والانفلات الأمني والفوضى في الشارع بحسب الخبير الاقتصادي نادي عزام.
استثمارات ضخمة على المحك
تبلغ قيمة استثمارات مصر 10 مليارات دولار بالسودان تحتل بها المرتبة الثالثة بين أهم الدول العربية المستثمرة هناك، تتركز أولا: بمجال الصناعة بنسبة 70.5% والخدمات بنسبة 28.4%، والقطاع الزراعي السوداني في المرتبة الثالثة بنسبة 1.1%.
ويبلغ عدد المشروعات المصرية بالسودان 229 مشروعًا، بينها 122 مشروعًا صناعيًا في مجالات الأسمنت والبلاستيك والرخام والأدوية ومستحضرات التجميل والأثاث والحديد والصناعات الغذائية، و90 مشروعًا خدميًا بقطاعات المقاولات والبنوك والمخازن المبردة والري والحفريات وخدمات الكهرباء ومختبرات التحليل والمراكز الطبية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، و17 مشروعًا بقطاعات المحاصيل الزراعية والإنتاج الحيواني والدواجن ونشاط صيد الأسماك باستثمارات 89 مليون دولار.
من أهم المشروعات المصرية هناك مشروع إنتاج اللحوم على مساحة 40 ألف فدان بولاية النيل الأبيض، ومشروع شركة للملاحة المصرية السودانية بين مينائي أسوان وحلفا، لنقل البضائع والأفراد، والسياحة.
كانت حكومة السودان قد خصصت 200 ألف فدان كمرحلة أولى للتكامل الزراعي مع مصر، تم تقسيمها لمشروعين الأول زراعي، على مساحة 100 ألف فدان بمنطقة «الدمازين»، بولاية النيل الأزرق، والثاني بالمساحة ذاتها بكسلا، شرقي البلاد وتتضمن نشاطًا زراعيًا وحيوانيًا ومزارع سمكية، كما حصلت نقابة الفلاحين المصريين على 100 ألف فدّان بالمحافظة الشمالية، تم توزيعها على شباب المزارعين مع تقاسم الإنتاج مناصفةً بين الطرفين.
اقرأ أيضًا: تحييد دور مصر وإبطال مفعوله في السودان بدأ قبل قصة “الجنود” بوقت طويل
يقول نادي عزام: إن البلدين جمعتهما أخيرًا مشروعات قومية مشتركة، منها ميناء قسطل – أشكيت البري وتطوير وإعادة هيكلة خطوط السكك الحديدية، لتسهيل حركة نقل البضائع والأفراد، والربط الكهربائي بين مصر والسودان الذي تمد به الخرطوم بنحو 300 ميجاوات بمرحلته الأولى، إضافة إلى 600 ميجاوات بمرحلة لاحقة، لتصل في النهاية لنحو 3 آلاف ميجاوات، متوقعًا ألا تتأثر تلك المشروعات بنتائج الحرب المشتعلة حاليًا.
في عام 2016 تعاقدت مصر مع السودان على إنشاء مشروع استراتيجي؛ لإنتاج الثروة الحيوانية في السودان على مساحة 40 ألف فدان يتضمن التربية والتسمين واللحوم المصنعة والألبان، وبعدها بخمس سنوات، اتفقا على مزرعة نموذجية مشتركة للإنتاج الحيواني، وتأتي المزرعة النموذجية بالسودان في إطار خطة الدولة للتوسع في إنشاء 21 مزرعة نموذجية في الدول الإفريقية.
كما تعد السوق السودانية منفذاً هامًا؛ لترويج المنتجات للمصانع المتوسطة والصغيرة بمصر، التي لا يمكنها المنافسة بقوة في الأسواق الأخرى، وهو ما يضيف مشكلات جديدة للاقتصاد المصري، بحسب خبراء اقتصاد.
وتبدو أبعاد هذه المشاكل أكثر اتضاحا في ظل مواصلة القطاع الخاص غير النفطي في مصر الانكماش للشهر الثامن والعشرين على التوالي في مارس/آذار الماضي، وهبط مؤشر مديري المشتريات لمصر الصادر عن مؤسسة ستاندرد آند بورز جلوبال قليلا إلى 46.7 في مارس/آذار من 46.9 في فبراير/شباط وما زال أقل من الحد الفاصل بين الانكماش والتوسع عند 50 نقطة.
الضغط على السوق المحلية
لا توجد إحصائية رسمية شاملة لعدد المصريين بالسودان، لكن التقديرات المستقلة تقدرها بنحو 80 و100 ألف في ظل دخول عدد كبير بدون تأشيرات، وعودة تلك الأرقام يضغط على سوق العمل المحلية، وذلك بعدما سجل معدل البطالة في مصر 7.2% خلال الربع الأخير من 2022، مقابل 7.4% في الربع السابق (الثالث من العام ذاته).
ويبلغ إجمالي تحويلات المصريين بالسودان 32.4 مليون دولار، وهو رقم منخفض لكنه طبيعي في ظل قرب المسافة بين البلدين وانخفاض التكلفة، التي تجعل الكثير منهم دائميّ التردد بين الطرفين.
من شأن استمرار الأزمة في السودان، أن تفرض ضغوطًا على الأسعار في السوق المحلية خاصة اللحوم السودانية، التي تمد مصر بنحو 10% من احتياجاتها من اللحوم، خصوصًا مع اقتراب عيد الأضحى، وتمثل نافذة لكثير من الأسر المصرية لتأمين البروتين الحيواني مع ارتفاع اللحوم المحلية لمستويات ناهزت 300 جنيه للكيلو الواحد.
وكانت أسعار اللحوم والدواجن ساهمت بنسبة زيادة 91.5% في معدل التضخم العام، الذي يعده الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء خلال مارس/آذار الماضي، وبلغ معدل التضخم فيه مستوى 33.9% مقابل 32.9% في الشهر السابق عليه.
وقال وزير التموين والتجارة الداخلية الدكتور علي المصيلحي: في مؤتمر صحفي أمس السبت، إن الوزارة تمتلك 5 آلاف رأس ماشية سودانية حية حاليًا، ومع الظروف الحالية هناك يتم بحث الصعوبات التي قد تواجه عمليات التوريد من السودان، حيث سيتم عقد اجتماع مع ممثلي الجانب السوداني، كما يجري دراسة استيراد اللحوم من تشاد والصومال، لتنويع مصادر استيراد اللحوم، ولتعويض أي نقص من أي مصدر آخر.
في ظل احتلال السودان 50% من إجمالي صادرات الذهب عالميًا، وتصديرها نحو 1.6 مليار العام الماضي، ارتفعت الأسعار محليًا ليتجاوز جرام 21 مستوى 2750 جنيهًا للجرام الواحد للمرة الأولى في التاريخ.
ومن المتوقع أن ترتفع أسعار الكثير من المنتجات الغذائية والتجميلية المصنعة، التي يدخل في تركيبها الصمغ العربي أيضًا مع توقف إمداداته من السودان، التي تحتل المرتبة الأولى عالميًا في إنتاجه.
الدكتور سيد خضر، الباحث الاقتصادي، يقول إن مصر ستتأثر حتًما بانخفاض الكميات الواردة للقطاع الحيواني من السودان، والتي كانت تساعد في سد الاحتياج المحلي من اللحوم، علاوة على الاستثمارات الزراعية التي لا يمكن استمرارها في أجواء مليئة بالصراعات والحروب.
يستحوذ السودان، على 13.2% من إجمالي قيمة التبادل التجاري بين مصر والقارة الإفريقية، حيث بلغت صادرات مصر للسودان نحو 929 مليون دولار خلال العام الماضي، بينما وصلت صادرات السودان لمصر في 2022، لنحو 504.5 مليون دولار.
يقول خضر: إن القاهرة ستتحمل حجم العمالة العائدة المصرية من السودان، بالإضافة إلى هجرة سودانيين بسبب المعاناة من ظروف الحرب حتى، ولو بشكل مؤقت وهو ما سوف يشكل عبئًا اقتصاديًا كبيرًا على مصر، خاصة مع تأثر قطاع الصادرات المصري وإمكانية تحول جزء منها لمعونات وليست تصدير.
أزمة لاجئين متوقعة
يمكن أن يؤدي الصراع في السودان إلى أزمة لاجئين، إذ يحاول المدنيون الهروب من الصراع والعثور على الأمان في مصر، ويمكن أن يتسبب مثل هذا السيناريو في ضغوط كبيرة على الاقتصاد المصري والموارد والبنية التحتية
بحسب الهيئة العامة للمواني البرية والجافة بمصر، فإن عدد الأشخاص الذين تمكنوا من الخروج من السودان إلى مصر عبر معبري قسطل وأرقين تجاوز 10 آلاف شخص خلال أربعة أيام فقط، موزعين بين 1297 لقسطل، و8897 لأرقين.
يُقدم المركز الإغاثي بمنفذ أرقين الخدمات اللوجستية والعلاجية لأكثر من 1000 شخص يوميًا، حيث يقدم دعمًا لوجستيًا يشمل تقديم الأغطية والأغذية وهواتف للاتصال ووسائل الانتقال، ودعم علاجي من خلال عيادتين طبيتين في مختلف التخصصات.
لا توجد إحصائية بأعداد السودانيين المقيمين بمصر قبل الأحداث الحالية، لكن البعض يقدرها بنحو مليونين إلى ثلاثة ملايين سوداني، ونسبة كبيرة بينهم مقيمون وليسوا لاجئين بمقتضى بنود اتفاقية “الحريات الأربع”، التي وقعتها مصر والسودان عام 2004، التي نصت على حرية التنقل والعمل والإقامة والتملك.
تنقسم الجالية السودانية داخل مصر إلى “القدامى” الذين قدموا إليها خلال العصر الملكي كجزء من قوات الشرطة وحرس الحدود، تتجاوز أعدادهم 40 ألف أسرة، ولهم حق الإقامة الدائمة ولهم امتيازات منها دفع 10% فقط من مستحقات الطالب الأجنبي بالتعليم الجامعي، والفئة الثانية، الوافدون عقب عام 1995 وتضم الوافدين بغرض العمل، والفئة الثالثة، تشمل المسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين الذين يقدر عددهم بنحو 34 ألف شخص.
يقول الدكتور صلاح الدين فهمي: الخبير الاقتصادي والأستاذ الزائر بجامعة الخرطوم في نهاية الثمانينيات، إن الأزمة السودانية قد تنعكس على حجم التبادل التجاري بين مصر وأسواق القارة الإفريقية، الذي بلغ نحو 2.12 مليار دولار خلال الربع الأول من 2023، كما يشير إلى أن السودان بوابة مهمة للصادرات السلعية المصرية إلى إفريقيا، التي سجلت 1.61 مليار دولار خلال الربع الأول من 2023.
لكن فهمي يؤكد أن الأزمة الحالية تحمل فرصا مستقبلية للاقتصاد المصري، باستقطاب مجموعة من رجال الأعمال السودانيين للاستثمار بمصر، وكذلك مشاركة مصر بعدها بعقود إعادة الإعمار، وضخ المزيد من الاستثمارات وفوق ذلك كله يجب تفعيل القوى الناعمة في السودان، وتغيير الصورة الذهنية السلبية لدى البعض تجاه مصر.