كتبت- أسماء الحسيني
“مهما قلت لن أستطيع وصف حجم الرعب والخوف والذل، الذي عشته أنا وأفراد أسرتي خلال هذه الأيام، التي ستظل عالقة بذاكرتنا للأبد، أشعر أننا نحتاج إلى مرحلة علاج نفسي طويل، ما زلت أسمع صوت الرصاص والقصف وأزيز المدافع، حتى بعد وصولي للقاهرة، مازلت أشم رائحة الجثث، التي لم نكن نستطيع التخلص منها في المستشفى، الذي كنت أعمل فيه، ما زلت أتألم بسبب شعوري بالعجز عن إنقاذ حياة المرضى لعدم وجود الأدوية أو الأجهزة اللازمة، واضطراري للمغادرة مع أسرتي متجاوزين صعوبات كبيرة لإنقاذ أبواي الكبيرين وأخواتي وأطفالهم. تقول عبير صديق طبيبة سودانية شابة: جاءت إلى مصر بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وتحت وطأة القصف والتدمير العشوائي، تدفق آلاف السودانيون صوب الحدود المصرية، بمجرد إعلان هدنة عيد الفطر، ممن استطاعوا النجاة بأنفسهم من أتون حرب شعواء لم يروا أو يسمعوا لها مثيلًا في حياتهم، رغم كثرة الصراعات والحروب والتمردات والانتفاضات والانقلابات، التي مرت بالسودان على مدى عقود منذ استقلاله عام 1956.
رحلة الأيام الأربعة
وصلت عبير وأسرتها إلى الحدود المصرية بعد رحلة معاناة أليمة استغرقت 4 أيام، استنزفتهم معنويًا وماديًا، وبوصولهم إلى الحدود المصرية قالت: “تنفسنا الصعداء، نجونا من موت محقق، كُتب لنا عمر جديد، لكن الحزن واللوعة يعتصران قلوبنا على أهلنا ووطننا”.
عبير وأسرتها يملكون شقة في القاهرة، اشتروها قبل سنوات، ومعظم القادمين إلى مصر في الوقت الحالي يملك معظمهم شققا في القاهرة، أو ربما أتوا للانضمام إلى أقارب لهم في مصر، يملكون مكانًا واسعًا للإقامة يستطيعون أن ينضموا إليهم فيه، أما من سيأتون لاحقًا وربما قريبًا جدًا، والمتوقع أن يكونوا بأعداد هائلة في ظل استمرار القتال العنيف، فقد لا يكون لديهم نفس المزايا، وقد لا يكون لديهم القدرة على إيجاد مأوى، أو تكاليف الحياة الكريمة في ظل غلاء المعيشة والأسعار التي أصبح يجأر المصريون منها بالشكوى، وهو ما يستدعي العمل والتنسيق بين الجهود الرسمية والشعبية المصرية والسودانية؛ لمواجهة هذا الموقف غير المسبوق، الذي يمثل اختبارًا حقيقيًا للعلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين.
أين السودانيون في مصر؟
معظم السودانيين الموجودون بمصر، الذين يقدرون بأكثر من خمسة ملايين، قابلة لزيادة هائلة يتركزون في فيصل والهرم وأرض اللواء ووسط البلد و6 أكتوبر وعين شمس والمهندسين، كما يتواجدون بشكل أقل في معظم أنحاء القاهرة، وفي الرحاب ومديني والشروق، وتأتي أسوان في المرتبة الثانية بعد القاهرة، ثم الإسكندرية في المرتبة الثالثة، وباقي المحافظات بها وجود سوداني قليل سواء في الوجه البحري أو القبلي.
في الأيام الأولى لوصول التدفقات البشرية من السودان، بدا أن هناك تسهيلات كبيرة في الإجراءات، لكن في الأيام التالية كان التكدس كبيرًا، وقدرة معبر أرقين البري بدت كما ظهر من شكاوى السودانيين أقل استيعابًا لهؤلاء القادمين الكثر، وأقل قدرة على تقديم الخدمات المناسبة لهم بعد أيام من العناء والشقاء، وتعالت استغاثات السودانيين في المعبر وأهاليهم، من أجل تسهيل إجراءات العبور ومنح التأشيرة وتقديم الخدمات للقادمين من السودان، بينما تقول المصادر الرسمية المصرية، أنهم يفعلون كل ما في استطاعتهم لمواجهة الموقف العصيب على الجميع في المنافذ، التي لم تكن مؤهلة لمواجهة كل هذه الأعداد الهائلة.
بينما دعت منظمات مجتمع مدني مصرية لاجتماع عاجل، من أجل التحرك للمساعدة في مد يد العون للأشقاء السودانيين القادمين، وقد كانت لهم تجربة سابقة في مساعدة السودانيين العالقين أثناء أزمة جائحة كورونا.
يقول المهندس أحمد مخير أحد السودانيين المقيمين بالقاهرة، إن محنة السودان مهما استغرقت من وقت ستنفرج، وسيظل وجود السودانيين مؤقتًا مهما طال في مصر. يضيف أن ما يحدث هو محنة، وتحد واختبار للعلاقات بين البلدين، لكن يمكن استثمارها؛ لتصبح فرصة لبناء علاقات حقيقية.
ويرى مخير أن قدوم أعداد كبيرة من السودانيين لمصر ممن لا يملكون القدرة المادية، سيمثل عبئًا على مصر، وأن التحسب لهذا الأمر ضروري، من أجل بناء علاقات شعبية معافاة، وحتى لا تحدث صدامات، تعيد إلى الذاكرة حادث ميدان مصطفى محمود، الذي اعتصم فيه السودانيون بالميدان الواقع في حي المهندسين، وانتهى الأمر بصدام مع قوات الأمن، التي حاولت فض الاعتصام.
ويصف معتصم ضرغام، وهو رجل أعمال سوداني، هجرة السودانيين لمصر في السنوات الأخيرة بالكثيفة، والآن يقول إنها تتضاعف، وستكون غير مسبوقة بسبب الأحداث الأخيرة في السودان.
معتصم مقيم ما بين الدوحة حيث يعمل، والقاهرة حيث تقيم أسرته في شقة اشتراها قبل سنوات في شارع فيصل، يقول: كان لدي بعد نظر، كنت أشعر أن الأمور في السودان متجهة للانهيار أو الانفجار، واخترت القاهرة لتكون لنا وطنًا بديلًا، مثل كثير من السودانيين الذين نقلوا ممتلكاتهم وأعمالهم إلى مصر في السنوات الأخيرة؛ استشعارًا منهم بخطورة ما كان يجري من أحداث.
مصر باتت وطنًا
يقول ضرغام إن عددا كبيرا من السودانيين العاملين في دول الخليج، أو المهاجرين في دول العالم بادروا بشراء شقق لأسرهم وأهاليهم في مصر، التي أصبحت وطنًا ثانيا لهم، ولا شك أن معظم رجال الأعمال من السودانيين الذين نقلوا أموالهم، وتجارتهم لمصر ستتضرر أعمالهم كثيرًا؛ لأنها كان مرتبطة في معظمها بالاستيراد والتصدير للسودان.
ويضيف ضرغام أن من سيأتي إلى مصر في الظروف الراهنة هم من لديهم إمكانات مادية، أما من ليس لديهم قدرات مادية فالأرجح أنهم سينزحون داخل السودان إلى مناطق أكثر أمانًا، وهناك تحذيرات في وسائل التواصل الاجتماعي للسودانيين ألا يأتوا إلى مصر، إذا كانوا لا يملكون الإمكانات المادية”.
ويحذر ضرغام أنه إذا اشتد القتال، سيكون هناك أعداد كبيرة عالقة على الحدود السودانية مع مصر لا تملك كل ما يلزم من أوراق ثبوتية، أو تأشيرات لعبور الحدود، ومن يعبرون الحدود لن يكونوا ممن يمكن تسميتهم بالفئات المرتاحة، ويقترح أن يكون هناك منطقة آمنة في أسوان على الحدود تستطيع التعامل مع حركة النزوح، وتوفير الطعام والمشرب والمأوى والرعاية الصحية والخدمات الأساسية، لأنه لو ترك هؤلاء في العراء سيكون الوضع مأساويا.
يشير ضرغام إلى أن الجهود المصرية الكبيرة تجاه السودان والشعب السوداني، ستتضرر كثيرًا لو تم إغلاق المعابر في هذه الأوضاع المأساوية للسودانيين، ستتأثر المنح الدراسية والتسهيلات الكبيرة التي قدمتها مصر للسودانيين، عبر قبول 22 ألف طالب سوداني في الجامعات المصرية، وإعفائهم من 90% من الرسوم الدراسية.
دبلوماسي سوداني سابق قال إن على السلطات المصرية التغاضي عن مسألة التأشيرات بالنسبة للفئة العمرية من 16 إلى 60 عاما، ومعاملتهم مثل الأطفال وكبار السن والنساء، الذين تمنحهم اتفاقية الحريات الأربع ميزة الدخول بدون تأشيرات، حتى لا يتفرق شمل الأسر السودانية، ويضطر أبناؤها الشباب للعودة مرة أخرى إلى السودان.
كما طالب الدبلوماسي السابق، السلطات المصرية أيضًا، باعتمادها لجوازات السفر السودانية، التي تم تجديدها على المعابر لمن انتهت صلاحية جوازات سفرهم من السودانيين.
كيف استعدت الجالية السودانية؟
يرى الدكتور حسين عثمان رئيس الجالية السودانية في مصر، أن أعداد السودانيين في مصر مرشحة لزيادة كبيرة بسبب الأحداث الأليمة في السودان، مشيرًا إلى أن السودانيين يتواجدون في مصر بمختلف فئاتهم ومستوياتهم، وأن غالبية الموجودين كانوا من النساء والأطفال وطلاب المدارس، وأن 95 % منهم لا يعملون، وغالبيتهم يدرس أبناؤهم في مصر سواء في المدارس الحكومية بالنسبة للجالية القديمة مجانًا، كما الطلبة المصريين، بينما يدرس الغالبية في المدارس السودانية، التي أنشئ عدد كبير منها لاستيعاب الأعداد الهائلة المتواجدة في مصر.
ووجه رئيس الجالية السودانية الشكر للحكومة، والقيادة والشعب في مصر على التسهيلات الكبيرة لأشقائهم السودانيين، مشيرا إلى أن الأعداد الكبيرة القادمة تمثل عبئًا على المعابر المصرية، وموظفيها والأجهزة الرسمية التي تستحق جميعًا التقدير، مؤكدا أن هذا الوضع مؤقت مهما طال.
وأشار عثمان إلى الاستعدادات التي تقوم بها الجالية السودانية من أجل استقبال القادمين، ولتوفير المأوى والطعام والمعيشة لمن لا يستطيع عبر الأندية السودانية التي يبلغ عددها 40 ناديا، استعدوا لتلك المهمة عبر لجنة طوارئ كاملة، تعبيرًا عن التضامن الذي هو سمة مميزة للشعب السوداني.
ورغم تأكيدات رئيس الجالية السودانية، أنه ليس هناك خطر على مصر من أي مهددات إرهابية أو إجرامية قادمة من السودان، لكن يبقى إن فتح السجون والمعتقلات في الأيام الأخيرة في السودان، وخروج السجناء والمحكوم عليهم منها قد أثار المخاوف في مصر من مهددات إرهابية عابرة للحدود تهدد الأمن القومي المصري.