إذا كتب التاريخ على الحقيقة، أقصد تاريخ الشعب لا تواريخ الحكام، سنكتشف أن الشعب المصري وضِع دائمًا أمام طريق ذي اتجاه واحد، إذا أراد تعديل أوضاعه السيئة.

نظم الحكم التي سادت على مر التاريخ أغلقت في وجه الشعب كل طرق التغيير السلمي، حتى صار التغيير بالثورة هو السبيل الوحيد لتحسين أحواله الاجتماعية، ومواجهة الظلم أو مقاومة استعمار.

لم يتح للمصريين طوال تاريخهم الطويل أي إمكانية للمشاركة في صناعة القرار الوطني، كان الشعب مهمشًا دائمًا، وظل في أسفل الهرم فوقه طبقة النخبة الحاكمة، جيش وكهنة وفرعون مستبد.

حُكمت مصر بالاستبداد على مر تاريخها، ولم يترك الحكام المستبدون ولا الطغاة والفراعين وسيلة تعبير أمام الشعب المصري على مر الزمان إلا بالثورة، كانت هي وسيلة التعبير عن غضب الشعب، وكانت هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للأمة أن تصرخ في وجه الظلم والقهر والفقر والجوع.

**

في أول القرن التاسع عشر، ثار المصريون ضد الأتراك، وفرضوا إبعاد الوالي التركي عن دكة الحكم، وجاءوا بمحمد على واليًا عليهم، ثم ثاروا على حفيده توفيق لأنه ـ أولًا ـ فضَّل عليهم الترك وغيرهم، فخصهم بالوظائف والمناصب والرتب والعطايا، ولأنه ـ ثانيًا : فتح أبواب مصر مشرعة أمام زيادة النفوذ والتدخل الأجنبي في مصر.

ولدت فكرة الأحزاب في مصر ملازمة مع فكرة دسترة نظام الحكم في مصر، وهكذا صارت قضية الأحزاب لصيقة الصلة في تاريخنا مع قضية الدستور، والغريب أنهما معًا يشكلان الأزمة الحقيقية في الحياة السياسية، منذ تشكل الحزب الأول حتى اليوم.

لم تعرف مصر منذ وضعت أول دستور في تاريخها في مفتتح الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى اليوم في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين حاكمًا أو حكومة، نظامًا أو منظومة تحترم الدستور، وتحافظ على تنمية الحياة الحزبية في مصر.

تلاعبت النظم الحاكمة بقضية الدستور طول الوقت، وعملت كل النظم على اختلافها بين ملكية، وجمهورية على التحكم في الحياة السياسية عن طريق إحكام سيطرتها على الحياة الحزبية.

**

إذا أردت الدقة في توصيف حالنا السياسي الراهن، فهو ابن نظام حكم واحد مستمر على مر العهود رغم تبدلها من ملكية وراثية، إلى جمهورية متوارثة.

منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، ونحن نعيش صورة حكم واحدة، لم يرد عليها أي تحديث رغم أن مصر شهدت خلال قرنين من الزمان مسيرة التحديث في كل شيء على أرضها، إلا في تنظيم إدارة البلاد وصناعة القرار الوطني فيها.

استمر نظام حكم مصر التاريخي الموروث عبر القرون المتعاقبة، لا يعرف على قمة هرم السلطة غير الفرد الحاكم المتحكم، الملك المظفر، أو الخديوي المعظم، أو الرئيس الملهم، ليس حول تلك القمة غير دوائر ومؤسسات، وأجهزة صممت وركبت على أساس أنه لا ولاء لها لغير سيدها، ولي النعم صاحب الجلالة والفخامة والعظمة وحده من دون شريك في الحكم، ومن دون أي نقد لسياساته، أو تعقيب على إجراءاته، فضلًا عن محاسبته عن أفعاله.

**

وإذا أردت الأمانة في توصيف أحوال أحزابنا السياسية الراهنة، فهي على الحقيقة ابنة طبيعية لظروف نشأتها في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.

راجع نشأة الأحزاب في الغرب، والدول التي مضت على الطريق الديمقراطي ستجد أن الحياة الحزبية ارتبطت منذ النشأة الأولى لها، بتكريس الحياة النيابية حيث ظهرت الكتل النيابية في البرلمانات وكانت هي النواة الأولى لتشكيل الأحزاب.

ما يعني أنه لا يمكن تصور وجود حياة حزبية حقيقية بدون وجود حياة نيابية حقيقية.

ولدت الحياة الحزبية من رحم الحياة النيابية، ثم صارت هي وقودها ومدتها بالكثير من الكوادر، التي تربت في محاضنها السياسية، حتى صار من الصعب تصور وجود حياة نيابية حقيقية بدون وجود حياة حزبية حقيقية.

برزت الأحزاب السياسية في الغرب والدول الديمقراطية؛ لتكون هي التعبير لقوى المجتمع المتصارعة حول القوة والنفوذ، ثم لتصبح من بعد هي أداتها لتحقيق مصالحها، عبر المنافسة على من يفوز بإدارة الدولة وتحقيق المصالح التي يعبر عنها الحزب وبرنامجه، وهكذا ارتبط وجود الأحزاب في السياق التاريخي بمبدأ تداول السلطة.

على العكس ما جرى في مصر، لم يحدث ـ ولا لمرة واحدة ـ أن ارتبطت فكرة قيام الأحزاب بمبدأ تداول السلطة.

**

لم تعرف مصر طوال تاريخها الحديث نظام حكم يقوم على وجود حقيقي لحياة نيابية حقيقية، ولا شهدت وجود برلمانات منتخبة انتخابًا حرًّا ونزيهًا، يمكنها أن تمارس دورها باستقلال عن السلطة التنفيذية، حتى التجربة الليبرالية الأولى في مصر فقد واجهت مأزقاً بنيوياً، تمثل في حذف أغلبية الشعب من المعادلة السياسية، ثم تمثل مأزقها الكبير في استبعاد الأغلبية النيابية عن الحكم.
الذي يدقق في تاريخ الوزارات المصرية منذ ثورة 1919، وحتى ثورة 1952 سيجد أن الوفد حزب الأغلبية الشعبية الكاسحة لم يشكل الحكومة إلا سبع مرات، وأن سبع سنوات متفرقة هي فقط عمر حكومات الأغلبية في ظل تطبيق دستور سنة 1923.

لم تشهد في تاريخها المعاصر قط توزيعًا حقيقيًّا للسلطات، بمعنى وجود سلطة تنفيذية تقوم بدورها وسلطة تشريعية مستقلة تؤدي وظيفتها،ـ وسلطة قضائية تفصل بينهما عند التنازع.

ظلت السلطة التنفيذية هي المتحكمة في تشكيل البرلمانات وتحديد دورها، وليس العكس كما هو في كل النظم الديمقراطية، تحكمت دومًا السلطة التنفيذية بالسلطتين النيابية والقضائية، واستخدمتهما دائمًا كما تشاء.

في ظل دستور 1971 تم حل مجلس الشعب في 1976 الذي كانت مقاعد حزب الحكومة تزيد على 80%، وبرغم قلة أعداد مقاعد المعارضة استطاعت أن تعارض بجدية اتفاقية السلام مع إسرائيل، فأقدمت السلطة على حل المجلس، وفي كل المجالس التي علا فيها صوت المعارضة انتهت حياتها بالسكتة البرلمانية.

**

لكل هذه الأسباب لم تعرف مصر أحزابًا سياسية بالمفهوم العلمي والعملي لفكرة الحزب، التي تقوم على أسس ثلاثة: تجمع منظم، وبرنامج سياسي، ورغبة في الوصول إلى السلطة بمفرده، أو بالتحالف مع أحزاب أخرى في تشكيل الحكومة عبر انتخابات نزيهة وتتوفر لها الضمانات اللازمة، لكي تكون تعبيرًا حقيقيًا عن أصوات المواطنين.

كل مقومات قيام الحزب السياسي غير متوفرة في مصر منذ نشأة الأحزاب وحتى اليوم.

التجمع المنظم في الغالب الأعم من التاريخ الحديث كان مجرمًا، وممنوعًا ومعاقبًا عليه بالقانون سواء في حالة الطوارئ التي فرضت منذ الحرب العالمية الأولى وحتى وقت قريب، ثم تحولت نصوصها إلى القانون العادي لتجعل الطوارئ حالة مستمرة على الدوام.

البرنامج السياسي يكاد يكون مجموعة أوراق لا قيمة حقيقية لها، لأن الطرق مسدودة أمام وضعها موضع التنفيذ في يوم الأيام.

أما رغبة الوصول إلى السلطة فهذه تهمة طول الوقت موجهة لأي تجمع سياسي منظم، علني او سري، لا يوجد منفذ إلى الانتقال الديمقراطي للسلطة، هذا طريق مكتوب عليه مغلق طول الوقت، غير مسموح بالعبور فيه، ولا الاقتراب منه.

**

في واحدة من مرات التحقيق المتعددة مع شاعر الرفض الشهير أحمد فؤاد نجم، انصبت وقائع التحقيق على إحدى قصائده التي اعتبرت مساسًا بشخص الرئيس الراحل أنور السادات، وفي نهاية التحقيق توجه إليه المحقق بنيابة أمن الدولة بالقول:
ـ أنت متهم بمحاولة قلب نظام الحكم فما هي أقوالك؟
إجابة نجم : رغم فكاهيتها ـ إلا أنها أصابت كبد الحقيقة المُرة، قال له متهكمًا:
ـ أنا أنفي عن نفسي تهمة محاولة “قلب”، النظام، كل ما نريده على الحقيقة هو أن “نعدل”، نظام الحكم لأنه مقلوب فعلًا.

**

الأصل في الأنظمة السياسية أن يكون التعدد السياسي والحزبي، مصونا بالدستور والقانون. فكرة الأحزاب مفترض أنها تقوم على التعدد: تعدد الأفكار، وتعدد الآراء، وتعدد البرامج، وتعدد المصالح التي تعبر عنها.

على أرض الواقع، نحن لدينا تعدد مع وقف التنفيذ، تعدد معطل، تعدد ديكوري، فكرة التعدد نفسها غير مرحب بها في التركيبة المجتمعية في مصر، فضلًا عن التركيبة السياسية.

الأسوأ، أن فكرة المعارضة في مصر فكرة مدانة ليس على المستوى الحكومي الرسمي فقط، بل تكاد تكون غير مستساغة على المستوى الشعبي، وطول الوقت تجد المعارضة نفسها محاصرة في ركن الخيانة، وتواجه على الدوام بتهم التخوين والعمالة والتمويل الخارجي، والاستقواء بالخارج إلى آخر قائمة الاتهامات التي درجت على إلصاقها قوى الأمن بكل المعارضين.

القبول بالرأي الآخر، واحترام المختلف، والدفاع عن حق الاختلاف تبدو من الأشياء الغير قابلة للتوطن في مصر. فضلًا عن أن الحياة السياسية المصرية منذ نشأت، وحتى اليوم لم تشهد انتخابات حقيقية إلا في فترات قليلة ومحدودة من تاريخنا الحديث.

لم تعرف مصر على مدار عقود طويلة نتائج للانتخابات سواء الرئاسية، أو البرلمانية غير فكرة الاكتساح، ونسبة ال 99.99 % وهي نسبة واضحة الكذب والتدليس، مكشوفة الاحتيال، وهي تدين أصحابها وتعريهم بأكثر مما تعطيهم شرعية الحكم.

**

وإذا أردت الحق فنحن ليس لدينا تعدد سياسي، وإن كثرت أعداد أحزابنا، والغريب أن مصر لم تشهد هذا العدد الكبير من الأحزاب في فترة ما من فترات تاريخها الحديث، حيث لا يمكن حصرها إلا بالرجوع إلى أوراق الأحزاب، وقد كنتُ في مقتبل حياتي الصحفية منذ أكثر من 30 سنة مسئولًا عن تغطية الحياة السياسية والأحزاب، ومع ذلك لا يمكنني الجزم بعدد أحزابنا، ولستُ أتقن معرفة أسماء الأحزاب المصرية اليوم.

نظامنا السياسي يتمحور حول مؤسسة الحكم، هي الأصل في كل قرار، وهي مصدر كل السلطات، وهي الشرعية لكل الإجراءات، لذلك تجد كل الحكومات تردد أنها فعلت كذا، وستفعل كيت بناء على التوجيهات، وليس بناء على ما أقرته من خطط وبرامج لتحقيق ما وعدت به الشعب وجرى انتخابها من أجل تحقيقه.

رغم كثرة الأحزاب السياسية لا توجد سياسة، تلك هي الحقيقة المرة التي نعيش تداعياتها على أرض الواقع، ومن البديهي القول إنه لا أحزاب بلا سياسة، ولا يمكن للأحزاب أن تؤدي الوظائف والأدوار المنوطة بها في ظل موت السياسة، ولا يتصور أن نطلب منها أن تنشط في ظل قيود أمنية، وبيروقراطية وقانونية ثقيلة على المجال العام المحاصر.

**

الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ ست سنوات في إحدى دورات ما يعرف بالبرنامج الرئاسي، لتأهيل الشباب أكد أن ما مرت به الدولة من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة خلال السنوات الماضية، ساهم في عرقلة تحقيق التقدم المنشود على صعيد تطوير الحياة الحزبية والسياسية في مصر.

وأشار الرئيس إلى أن بناء قواعد حزبية حقيقية سيستغرق وقتًا، في ضوء خلو الساحة السياسية المصرية من حياة حزبية تنافسية وحقيقية على مدار العقود الماضية.

هي ـ إذن ـ أزمة مزدوجة، أزمة نظام حكم كما هي أزمة أحزاب.

هي أزمة نظام لم يعترف في يوم من الأيام بحق الأحزاب في السعي إلى الوصول للسلطة، ولم يأل جهدًا طول الوقت في حصار الحياة الحزبية، ومحاصرتها وحصرها في هوامش ضيقة لا تجعلها فاعلة، وتنزع منها أي قدرة على التأثير في صناعة القرار الوطني.

في الوقت نفسه هي أزمة أحزاب، تكلست أطرافها، باتت في حاجة ماسة إلى إحياء السياسة، وفتح المجال العام الذي أغلق بالضبة والمفتاح في أعقاب المظاهرات، والاحتجاجات على التنازل عن تيران وصنافير.

**

أحزابنا رغم كل ما فيها من نقائص وما يلحق بها من عيوب، إلا أنها ـ في الأصل ـ تواجه معضلة انسداد في الحالة السياسية في مصر، ولذلك فالبداية ـ دائمًا ـ من السياسة، بالتحديد من النظام السياسي، وبتحديد أكثر من نظام الحكم.

نحن لا نواجه احتكارًا للسلطة في مصر فقط، نحن أمام ظاهرة هي الأخطر على الاستقرار والاستمرار، ظاهرة غلق المجال العام، وتأميم السياسة، ووضعها في يدٍ واحدة.

تأميم المجال العام لا يضمن تأمين الوضع العام مع الأسف. والتجربة خير شاهد في يناير 2011، لم يستطع التأميم من أن يضمن التأمين. وفي عيد الشرطة أداة التأمين نفسها، جرت عملية إسقاط شرعية عملية تأميم السياسة وخطفت الملايين التي تجمعت في الميادين المفتاح، الذي أغلقت به السلطة المجال العام. وبرهنت تلك الجموع التي اندلعت في كل ربوع مصر بدون أدنى شك على فشل نظرية التأمين عبر التأميم.

**

البوابة الرئيسة للخروج من أزمة الحكم ومن أزمة الأحزاب في الوقت نفسه تفضي بنا إلى فتح المجال العام وإحياء السياسة وإعادة الاعتبار لها، وهي في الوقت نفسه بوابة مصر الرئيسية للخروج من كل أزماتها أو على الأقل تفتح أبواب الدخول الآمن إلى المستقبل.

نحن في حاجة إلى رؤية حديدة لإدارة شؤون البلاد، رؤية تعتمد المشاركة السياسية بديلًا عن وحدانية التسلط، تقوم فيها كل سلطات الدولة بأدوارها الدستورية، لا تجور سلطة على الأخرى، ولا تتدخل في غير اختصاصها.

حاجتنا ماسة اليوم إلى رؤية مستجدة تقوم على الإقرار بمبدأ تداول السلطة، وتفسح المجال واسعًا لأوسع مشاركة في صناعة القرار الوطني، وهوأمر يقتضي وجود قوى سياسية وأحزاب حقيقية تتوفر لها الرؤية الشاملة لحكم البلاد.

الطريق لتحقيق إنجاز حقيقي على هذا الصعيد يبدأ من السياسة، ويعتمد على نَفَس سياسي وديمقراطي جديد يجب ضخه في البلاد، لتستعيد السياسة اعتبارها الذي فقدته عبر السنوات السبع الأخيرة.