“جميع الملاجئ في مخيمنا احترقت وتحولت إلى رماد”، “الجثث الملقاة في الشوارع لا يمكن دفنها بسبب الهجمات المستمرة”، “الهجمات تأتي من كل الاتجاهات، الجميع يفرون”،  “أغلب المستشفيات لا تعمل بعدما تم نهبها وتحطيم محتوياتها”.

كانت هذه بعضًا من الشهادات الواردة من مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، لترسم جزءا من صورة الوضع الكارثي في السودان، حيث اشتعلت مواجهات قبلية خلال الأيام الماضية، أعادت إلى الأذهان فظائع الإبادة الجماعية في دارفور بعد عشرين عامًا من اندلاعها في ذات الشهر عام 2003.

بعد تعثر وقف إطلاق النار في العاصمة السودانية الخرطوم، أدى القتال المستمر منذ أسبوعين بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى إشعال أعمال العنف في دارفور، ذكّر السودانيون بصراع قديم خلّف بعد عقدين نحو 300 ألف قتيل، و2.7 مليون نازح.

“التوترات والقتال الذي نواجهه، يمكن أن يؤديا إلى حرب أهلية”، يقول أحمد قوجة: مراقب حقوق الإنسان في نيالا، أكبر مدن دارفور لصحيفة “نيويورك تايمز“. إذ أوجد الصراع بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، ومحمد حمدان دقلو “حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، فراغًا أمنيًا استغلته الميليشيات، والقبائل العربية المسلحة لشن هجمات تجاه القبائل الإفريقية.

ومنذ اندلاع القتال في الخرطوم في 15 إبريل/نيسان الماضي، تسبب الصراع في أكثر من 500 قتيل و4500 مصاب. وفرّ عشرات الآلاف من البلاد، في محاولة للوصول إلى بر الأمان في البلدان المجاورة مثل مصر وتشاد وإثيوبيا.

ووفقًا للأمم المتحدة، عبر أكثر من 20 ألف شخص من دارفور إلى تشاد المجاورة منذ بداية الصراع، فيما لجأ ثلاثة آلاف آخرين إلى جمهورية إفريقيا الوسطى.

إقليم دارفور (وكالات)
إقليم دارفور (وكالات)

ماذا حدث؟

تفاوت حجم العنف في أنحاء دارفور منذ اندلاع الصراع. نشب في مدينتي نيالا، عاصمة جنوب دارفور، والفاشر، عاصمة الشمال، قتال عنيف في الأيام الأولى من المواجهة. ولكن في الأيام الأخيرة انحسر القتال في المنطقتين، وظهرت لجان مدنية محلية، لفرض وقف إطلاق النار.

مع ذلك، كان الوضع أكثر خطورة في غرب دارفور، وتحديدًا مدينة الجنينة، حيث أبلغت الأمم المتحدة وجماعات الإغاثة عن مقتل ما لا يقل عن 100 مدني حتى الآن.

في محاولة لقطع إمدادات الدعم السريع، اشتبك الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع هناك، بينما هاجمت المليشيات العربية عدة أحياء في المدينة، بحسب إدريس حسن الزهاوي، مراقب المجتمع المدني المحلي. وقال الزهاوي: “لقد اتخذ الصراع هناك بعدًا اجتماعيًا”، في إشارة إلى التوترات المتزايدة بين المجموعات العربية والإفريقية.

ومارست الجماعات المسلحة في دارفور أعمال نهب مرافق الرعاية الصحية، وإحراق المنازل، بينما اشتعلت النيران في الأسواق. وبدأ المدنيون هناك في تسليح أنفسهم ضد المليشيات العربية وقوات الدعم السريع.

وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن “معظم المراكز الصحية لا تعمل”.

المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، قالت إن هناك “اشتباكات متفرقة بين القبائل العربية وقبيلة المساليت”، في غرب دارفور، وأن هذا العنف الطائفي “يعود إلى الانتماءات العرقية المتصورة، والحقيقية لقوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية”.

وأضافت أن البيئة الحالية في السودان “تخلق وضعًا مهيأ لمزيد من العنف الإجرامي الانتهازي، وكذلك لإبراز هذه التوترات العرقية الطويلة الأمد”.

وتتنافس قبيلة الرزيقات العربية، التي ينتمي لها حميدتي، مع قبيلة المساليت الإفريقية، على موارد الأراضي والمياه المتضائلة. وقال سكان وجماعات حقوقية إن الأولى انتقمت في كثير من الأحيان من خلال العقاب الجماعي ضد المساليت.

وقال قوجة، إن قوات الدعم السريع لا تزال تسلح، أو تبيع أسلحة للقبائل العربية. ومع ذلك فإن معظم الناس قادرون على شراء أسلحتهم الخاصة، والتي يتم تهريبها من تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا.

وتسيطر قوات الدعم السريع على شمال المدينة والمطار ومناطق أخرى، بينما يحمي الجيش مقاره في وسط المدينة. وأوضح الدكتور صلاح تور، عضو مجلس إدارة نقابة الأطباء في ولاية غرب دارفور، أن الجيش انسحب إلى حد كبير إلى ثكناته، وابتعد عن الاشتباكات، وحمل السكان السلاح للدفاع عن أنفسهم.

صراع أكثر دموية

محمد عثمان، باحث السودان في هيومن رايتس ووتش، قال: “هناك الكثير من الفوضى والهجمات تحدث، مثل الحرق والنهب”. وأضاف “إحدى القضايا في معالجة الوضع في دارفور هي عدم وجود [آلية] مراقبة [دولية]. والآن مع إجلاء الأمم المتحدة والدبلوماسيين، سيكون [رصد الوضع] أكثر صعوبة”.

وكشف شاهد عيان لـ”بي بي سي“، عن أن “الميليشيات العربية تهاجم النازحين داخليًا”. وأضاف “لقد أحرقوا جميع مخيمات النازحين. ثم ذهب النازحون إلى مقر الشرطة وهم الآن مسلحون. حاولوا الدفاع عن أنفسهم لكنهم لم يتمكنوا من ذلك. هناك الكثير من القتلى”.

بينما أشار محمد الفاتح يوسف، صحفي في موقع دارفور 24، إلى أن القبائل غير العربية في المدينة تعرضت للقصف، والقتل على أيدي الجيش والميليشيات العربية في عام 2003. وبعد عقدين من الزمان، يعتقد أن الجيش يحاول الاستعانة بالقبائل غير العربية التي تبحث عن الانتقام من قوات الدعم السريع ومؤيديها.

“في أيام البشير قتل الجيش والقبائل العربية، غير العرب وشردوهم. الآن، يمكن للجيش أن يقف إلى جانب القبائل [غير العربية] لاستهداف القبائل العربية”، يضيف يوسف.

وقد فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات في أعمال عنف الإبادة الجماعية، ووجهت للرئيس السابق عمر البشير تهم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية في عام 2009. وانتشر الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي ضد النساء والفتيات على نطاق واسع. وفي 2016، وثقت منظمة العفو الدولية كيف استخدمت القوات الحكومية الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في منطقة جبل مرة في دارفور؟

يقول ويل كارتر: رئيس المجلس النرويجي للاجئين في السودان، لوكالة “رويترز“،  “بغض النظر عن الطريقة التي ستسير بها المعركة الحالية في الخرطوم، نتوقع صراعًا أكثر دموية الآن في دارفور، حيث المزيد من الجماعات المسلحة والمزيد من الأسلحة والعداوات الأعمق”.

بدورها، قالت منظمة العفو الدولية، إنه مع تصاعد العنف بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جميع أنحاء السودان، “لا يزال المدنيون في دارفور يعانون بسبب إخفاق سلطات البلاد في توفير الأمن” وعدم قدرتها على تحقيق العدالة والمساءلة عن جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات بعد مرور 20 عامًا على بدء الصراع في دارفور.

وقال تيجيري شاجوتا المدير الإقليمي لشرق وجنوب إفريقيا في منظمة العفو:”لقد تسبب الصراع في دارفور في معاناة إنسانية على نطاق مروّع، ولا يؤد استمرار غياب العدالة والمساءلة إلا إلى إطالة المعاناة”.

ففي الأيام الأخيرة، “قُتل المدنيون مرة أخرى بسبب استخدام الأسلحة الثقيلة في المناطق المكتظة بالسكان. ومن المثير للصدمة أنه بعد مرور 20 عامًا على بدء الصراع في دارفور، لا تزال السلطات السودانية تتقاعس عن توفير الحماية للمدنيين، أو التحقيق مع المسؤولين المزعومين عن الجرائم المرتكبة أثناء الصراع ومحاكمتهم. المدنيون في السودان عالقون في دوامات لا تنتهِ من الهجمات المسلحة العشوائية، فضلًا عن الجرائم والانتهاكات الخطيرة الأخرى”.

تقول الأمم المتحدة إن ما يصل إلى 270 ألف شخص، يمكن أن يعبروا الحدود إلى تشاد وجنوب السودان، إذا استمر العنف والقتال. “لقد أخذت العائلات التي فرت كل شيء معهم -الأثاث والأسرّة- كما لو لم يكن هناك عودة ممكنة، على الأقل في المدى القصير”، يشير جيروم ميرلين، نائب المدير القُطري لتشاد في مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.

اقرأ أيضا: كيف نزعت العوامل المحلية والدولية فتيل المواجهة في السودان؟

مخاطر الصراع إقليميًا

الموقع الجغرافي لإقليم دارفور والمحاذي لحدود 4 دول: هي ليبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، يفرض وضعًا إقليميًا يزيد مخاوف الدول المجاورة من تفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية به.

ونشرت 5 حركات مُسلحة، موقعة على اتفاق السلام، مئات المقاتلين على سيارات دفع رباعي لتأمين مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، في أعقاب الفراغ الأمني الذي خلفته اشتباكات الجيش والدعم السريع.

ويتخوف، أن يُساند هؤلاء المقاتلون الجيش حال تجددت الاشتباكات بينه والدعم السريع في الفاشر، ليتحول النزاع إلى قبلي على غرار الصراع الذي يُجرى في الجنينة.

والحركات المكونة لهذه القوة هي تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والمجلس الانتقالي الذي يرأسه الهادي إدريس، علاوة على العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وتجمع قوى تحرير السودان، والتحالف السوداني.

محمد يوسف الحسن، المحلل السياسي التشادي، أكد أن اندلاع أعمال العنف في إقليم دارفور “كان متوقعًا”، مشيرا إلى أن الإقليم “يعاني وضعًا أمنيًا وقبليًا معقدًا”. وأنه “كان من الطبيعي أن تنعكس الاشتباكات التي جرت في الخرطوم سريعًا على الأوضاع في دارفور”.

وأوضح الحسن، لصحيفة “الشرق الأوسط“، أن قائد قوات الدعم السريع، حميدتي “يتمتع بحاضنة شعبية في دارفور”، وأن كل التوقعات كانت “تشير إلى استعانته بحلفائه في الإقليم لحسم الصراع مع قيادة القوات المسلحة، أو اللجوء للإقليم في حال ساءت الأمور بالنسبة له، في محاولة لإعادة ترتيب صفوف قواته والحصول على مزيد من التعزيزات”.

اقرأ أيضا: الحركات المسلحة السودانية.. أي دور في معادلة الحرب بين البرهان وحميدتي؟

وبالنسبة لقادة السودان المتحاربين، البرهان وحميدتي، فإن دارفور مألوفة بقدر ما هي مهمة من الناحية الاستراتيجية. فقد بنى الرجلان مسيرتهما المهنية في دارفور، إذ ارتقى البرهان في صفوف الجيش أثناء القتال في دارفور. بينما بدأ حميدتي كقائد لإحدى ميليشيات الجنجويد التي قاتلت بجانب الحكومة خلال صراع دارفور، وتورطت في الإبادة الجماعية.

من جانبه، قال السفير علي الحفني، نائب وزير الخارجية السابق للشؤون الإفريقية، إن امتداد الصراع إلى جبهات جديدة ومنها دارفور، يلقي بظلال قاتمة على الوضع في الداخل السوداني، وكذلك على دول جوار السودان.

وأضاف الحفني “خطورة الموقف في إقليم دارفور وغيره من المناطق السودانية الشاسعة، بل وفي كثير من دول منطقة الساحل والصحراء، تكمن في أن هناك نشاطًا مثيرًا للقلق الإقليمي والدولي لكثير من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تعمل في جرائم تهريب المخدرات والأسلحة والاتجار بالبشر”.

ولفت الحفني إلى أن تلك الجماعات تستفيد من حالة انعدام الاستقرار، وهو ما سيضاعف الآثار السلبية للصراع الراهن في السودان.

وأوضح الحفني أنه “ليس من مصلحة أي طرف إعادة إشعال الصراعات القديمة في الإقليم الهش أمنيًا”، فمن شأن إحياء تلك الصراعات أن “يؤثر على النسيج الاجتماعي بالكامل في الإقليم، ويعيد بعث مشاريع التقسيم والتجزئة”، وهو ما يعتبره “خطرًا حقيقيًا على السودان والإقليم والقارة الإفريقية بكاملها”.

وتابع الدبلوماسي المعني بالشؤون الإفريقية “لا يمكن التعويل على دور كبير للقوى الدولية، خصوصًا أن التدخلات الخارجية تأتي في مقدمة عوامل إشعال الأزمات في السودان وفي إفريقيا عمومًا”. ويؤكد “هناك أطرافًا لا ترغب في استقرار السودان، وتحاول إبقاءه في حالة نزاع وفوضى مستمرة”.

أما على الجانب الإنساني، فاليوم “لا يزال المدنيون في دارفور تحت رحمة قوات الأمن نفسها التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب في دارفور وأجزاء أخرى من السودان. يقول شاغوتا: المسؤول بمنظمة العفو الدولية.من المعيب أن الناس في السودان ما زالوا يعيشون في خوف كل يوم”.