تعيد الحكومة مجددًا الرهان على المغتربين في الخارج في علاج مشكلاتها مع السوق الداخلية. فمع استمرار مبادرة سيارات المغتربين التي تسمح لهم بإدخال مركبات دون جمارك؛ مقابل إيداع وديعة بالعملة الصعبة في البنك المركزي، جاء الدور على سوق الذهب، لتعلن وزارة التموين عن دراسة السماح للمغتربين العائدين للبلاد بإدخال سبائك، أو مشغولات ذهبية دون دفع رسوم.
ماذا يقول القانون الحالي؟
يجبر القانون حاليًا، حملة المشغولات أو سبائك ذهبية بإبلاغ رجال الجمارك بالمطارات، والمواني فور الوصول بالكمية التي يحملونها، وتقديم فواتير بقيمة الشراء، فيتم التعامل معها وفقًا للقيمة السوقية، ووضعية الركاب من حيث مدة الإقامة في الخارج، للتأكد مما إذا كان الراكب مُقيم أم يعمل بالتجارة ويحاول التهريب، وحال عدم إبلاغ الراكب سلطات الجمارك، وضُبط بحوزته الذهب، يتم تحرير محضر تهريب وحجز المضبوطات.
تستهدف الحكومة من خطوة الذهب الجديدة تلك ضبط إيقاع السوق، ومواجهة الارتفاعات القياسية بالأسعار التي نجمت عن انخفاض المعروض بالسوق، وتقييم التجار سعر الدولار عند مستويات مبالغ فيها.
والعملة الأمريكية عامل أساسي هنا في التسعير الذي يعتمد على ضرب سعر الدولار في قيمة الأوقية ببورصة لندن، وقسمة الناتج على أرقام ثابتة تعطي في النهاية سعر عيار بعينه (24، 21، 18، 14).
مراهنة على حل أزمة الدولار
يرى الدكتور ناجي فرج، مستشار وزير التموين لشؤون الذهب، السماح للمصريين المغتربين بإدخال الذهب مفتاح حل الأزمة الاقتصادية بشكل عام؛ لأن توفير الذهب بصورة كبيرة من شأنه أن يُساهم بصورة كبيرة في توفير العملة الصعبة، وهو ينظر إليه باعتباره يساهم بقوة في استقرار السوق.
لم يوضح “فرج”، كيفية تحويل الذهب إلى دولار. لكن يمكن استشفاف الفكرة من انخفاض سعر صرف الجنيه المتوقع أمام الدولار، واستقراره في البلاد التي تستقطب الكميات الأكبر من المصريين بالخارج، خاصة دول الخليج التي تجعل المشغولات الذهبية في مصر أغلى كثيرًا من الدول التي يعملون بها.
على سبيل المثال، لو اشترى مصري جرام واحد من الذهب في السعودية سيدفع مقابل له 209.93 ريالا بما يعادل نحو 56 دولارًا أمريكيًا، لكن لو اشترى الجرام ذاته من مصر سيدفع 2500 جنيه بما يعادل 80.75 دولارا أمريكيا، وبالتالي لو أدخل مصري جرام واحد من السعودية وباعه في وطنه الأم، سيكسب الفارق بينهما أي قرابة 25 دولارًا تعادل 775 جنيهًا في الجرام الواحد.
اقرأ أيضًا: ارتفاع سعر الذهب 150%.. سوق منفردة للمضاربة على الجنيه والدولار دون رقيب
يقول “فرج”، إن التوقعات ترجح إسهام المقترح الجديد حال تطبيقه في إدخال 30 طنًا دون رسوم، وهو أمر ينعش السوق المحلية، في ظل أن حجم سوق الذهب في مصر لا يتجاوز 150 طنًا، موزعة بين مشغولات جديدة بنحو 70 طنًا، والباقي من الذهب القديم الذي يتم إعادة تداوله، أي أن الكميات المستهدفة تعادل حوالي خُمس حجم السوق.
على المستوى الكلي، تعني توقعات وزارة التموين -حال تحققها- إدخال 4.5 مليار دولار للاقتصاد المحلي، فالأطنان العشرة يبلغ سعرها 1.5 مليار دولار. كما أن الكميات التي سيتم إدخالها ستجد زبونًا محليًا مهما كان السعر، في ظل ارتباط الذهب بالمناسبات الاجتماعية والاستثمار كمخزون آمن للقيمة.
الذهب كوسيلة تحوط
يعتبر قطاع من المصريين حاليًا، الذهب وسيلة تحوط أساسية من إمكانية تخفيض سعر صرف الجنيه أمام الدولار. وهي خطوة ينتظرها السوق منذ أسابيع مع وصول العملة الأمريكية في العقود الآجلة لمستوى 44 جنيهًا، وتقديره بالسعر ذاته من قبل بعض التجار في السوق المحلية، خاصة تجارة الذهب.
خلال الأسبوع الماضي فقط، قفزت أسعار عيار 21 لتبلغ أعلى مستوى تاريخي لها عند مستوى 2800 جنيه للجرام الواحد، قبل أن تتراجع الأسعار إلى 2650 جنيهًا، مع بيانات لشعبة الذهب طالبت فيها المواطنين بعدم الشراء، وحذرتهم من إمكانية تعرضهم لخسائر حال انخفاض سعر الذهب في البورصة العالمية، واستقرار الجنيه أمام الدولار.
التخوف من مآلات مبادرة سيارات الخارج
مبادرة الذهب الجديدة -في جانب منها- تأتي ضمن مبادرات نفذتها الحكومة على مدار السنوات الأخيرة، استهدفت بها ربط المغتربين بوطنهم الأم، وزيادة حصيلة الدولار الواردة من الخارج.
لكنها كما غيرها تثير كذلك تخوف البعض، خاصة فيما يتعلق بالقواعد التي ستضعها الحكومة للسماح بدخول الذهب، والتي قد تؤول بالأمر إلى عدم تحقيق مستهدفاته، مثلما حدث مع مبادرة سيارات المغتربين في الخارج (تجاوزت الأموال التي تم تحويها كودائع لوزارة المالية مقابل إدخال السيارات نصف مليار دولار بقليل قبل 13 يومًا فقط من انتهائها في 15 مايو/ آيار الماضي).
“إدخال الذهب من الخارج يتطلب العديد من القواعد في مقدمتها، توافر فاتورة شراء علاوة على الدمغ من مصلحة الدمغة والموازين المصرية مقابل رسوم 30 جنيهًا، علاوة على وجود تصورات بوضع حد أقصى لكل شخص يوازي 10 آلاف دولار دون جمارك”، حسبما يوضح هاني ميلاد، رئيس الشعبة العامة للذهب.
وهو يشير إلى مقترح سابق بالسماح للمصريين العائدين من السياحة، أو الزيارة أو العمرة بالعودة بكميات محددة من الذهب دون جمارك، لكنه يؤكد على تخوف آخر من تلك النقطة، خاصة وأنها لا تمنع إمكانية تحويل الأموال من الداخل للخارج.
“التموين لا تستهدف في المقام الأول المشغولات، ولكن السبائك وتوفير المزيد من الذهب الخام في السوق المصرية لإحداث توازن بين العرض والطلب”، يقول “ميلاد”.
من وراء اشتعال أسعار الذهب؟
الحقيقة الكبرى في الأمر حاليًا، أن سوق الذهب تشهد حاليًا فوضى تسعيرية هائلة، مع تحديد البعض قيمة سعرية للدولار أعلى بكثير من السوق الموازية، واستمرار الطلب على الذهب رغم تلك الارتفاعات. الأمر الذي تغذيه رغبة المواطنين في التحوط من توقعات منتشرة -على نطاق واسع- بحدوث تخفيض جديد في سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي.
هذا الجنون في الأسعار تراه الدكتورة عالية المهدي، الخبيرة الاقتصادية، يمثل انعكاسًا لعدة أشياء؛ أهمها عدم الثقة في المستقبل الاقتصادي القريب جدًا، والتخبط، وارتفاع درجة المضاربة على الأصول القابلة للتسييل بسهولة (العملات الحرة والذهب).
إذ أن وصول الأسعار للمستوى الحالي 3 آلاف جنيه للجرام، مقارنة بقرابة 800 جنيه قبل عام واحد فقط إنما يشير إلى “وقوع خطأ اقتصادي كبير”.
اقرأ أيضًا: فك الارتباط بالدولار بين التصورات الطوباوية والواقع المُر
بينما يرى مايكل نجيب، المحلل الفني بسوق المال، الدولار سببًا رئيسيًا لأزمة ارتفاع أسعار الذهب بالسوق المحلية حاليًا. إذ لم يصل المعدن النفيس عالميًا لمستوى كورونا. بينما في مصر الوضع مختلف.
وقد وصل سعر أوقية الذهب في البورصة العالمية الاثنين، مستوى 1983 دولارًا، وهو أقل من مستوى 2020، حينما تجاوز بقليل 2009 دولارات للأوقية.
بينما المقارنة في السوق المحلية في الفترة ذاتها تكشف عن ارتفاعات قياسية، بعدما سجل عيار 21 نحو 2650 جنيهًا الاثنين، مقابل 865 جنيهًا في أغسطس/ آب 2020، ونحو 3028 جنيهًا لعيار 24 مقابل 988.55 جنيها في الفترة ذاتها.
وفق “نجيب”، فإن التجار يتحوطون من سعر الدولار ولا يحسبونه حاليًا بسعر القطاع المصرفي، ولا السوق الموازية، ولكن بأسعار أعلى، ناهزت 50 جنيهًا، في ظل طلب جنوني وثبات العرض في السوق. وهو ما يشعل الأزمة الحالية.