لم يدرك من عارضوا وسخروا من استضافة مصر لأشقاء عرب فرضت عليهم ظروف الحروب، والصراعات اللجوء إلى أم الدنيا، أنه ربما لم يعد هناك أدوات وأوراق تعزز وزن وثقل دور مصر في الإقليم المضطرب، سوى قدرتها على استيعاب هؤلاء الضيوف وحسن معاملتهم. 

إذا كانت تلك الفئة لا تؤمن بالقيم الإنسانية والقومية والدينية، وتقدم المصالح على ما سواها، فإن استقبال مصر لضيوفها سواء من العرب أو غيرهم من المضطرين، مَنَح القاهرة قدرا من الثقل الذي تراجع بشدة خلال العقود الأربعة الأخيرة، بفعل تكلس أنظمة الحكم المتعاقبة وعدم إدراكها لدور مصر وتأثيرها الأصيل في الإقليم، وعدم استيعاب مفهوم الأمن القومي لمصر، والاستخفاف بكل الدعوات التي تنادي باستعادة هذا الدور التاريخي، وإنهاء حالة الانكفاء والتقوقع التي تدفع البلاد ثمنها حاليا في كل الملفات المهمة.

تاريخيا ارتبط دور مصر في المنطقة على اعتبار أنها الدار، والموطن الثاني الذي لا يغلق بابا في وجه أي لاجئ أو هارب من قحط أو صراع أو ظلم، والتحم في مدنها وقراها على مر القرون عرب وعجم من أنحاء العالم شرقا وغربا، ومع الوقت صار هؤلاء جزءا لا يتجزأ من المجتمع المصري، المتنوع، متعدد الأعراق والأديان والثقافات، ما أضاف بالتراكم ومرور الزمن إلى أدوات القوة الناعمة لمصر دعائم متجددة، وسمح بتبادل وهضم ثقافات شتى على أرض مصر.

قبل أكثر من مائة عام، وهربا من استبداد وقمع الأتراك ومكائدهم، توجه المفكر والكاتب عبد الرحمن الكواكبي أحد رواد النهضة العربية إلى مصر بدعوة من الشيخ جمال الدين الأفغاني، الذي كان قد سبقه إليها بسنوات قليلة، فارا من بطش حكام بلاده، وسلطات الاحتلال الإنجليزي التي ضاق صدرها من شجاعته وثباته وجماهيريته.

وعندما سأل الكواكبي عن سبب اختياره لمصر مقرا ومقاما قال إن «مصر دار العلم والحرية، وأن النهضة العثمانية بفروعها مسبوقة في مصر ومقتبسة منها»، مضيفا «فالإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد».

استقبلت مصر في تلك الفترة الثرية الأفغاني والكواكبي ومعهم وقبلهم وبعدهم؛ شبلي شميل وآل النقاش وآل تقلا وآل زيدان ويعقوب صروف وفارس نمر وأديب إسحق وروز اليوسف، ثم يوسف الخازم وداود بركات وأمين حداد وطانيوس عبده وجورج أبيض وبشارة واكيم وعزيز عيد وهنري بركات وعبد السلام النابلسي، وآسيا داغر وماري كويني وغيرهم المئات بل الآلاف الذين هجروا الشام، ولجأوا إلى مصر؛ إما هربا من اضطهاد السلطة العثمانية، أو لأنها كانت الموئل الطبيعي لمواهبهم.

ومن السودان عاش في كنف مصر المحروسة الشَّاعر السُّوداني الكبير محمد سعيد العباسي، والأدباء محمد مفتاح الفيتوري، والجيلاني عبد الرحمن، وتاج السر الحسن، ومحيي الدين فارس، واشتهر في ستينيات القرن الماضي المطرب سيد خليفة، وغيرهم المئات والآلاف من مفكرين وأدباء وعلماء في جميع التخصصات، حضروا إلى مصر من كل الأقطار العربية وعاشوا فيها، منهم من عاد إلى بلاد ومنهم من تمصر.

أضاف هؤلاء إلى مصر تراكما في مجالات الثقافة، والصحافة والسياسة والفنون والعلوم، بفضل إيمان المصريين في ذلك الوقت بأن بلادهم هي القبلة، والملاذ لكل من ضاقت به بلاده أو اضطرته الظروف إلى اللجوء إليها.

لم يقف المصريون عند حدود الاختلافات السياسية والعرقية أو المذهبية، وفتحوا قلوبهم قبل أبواب منازلهم لكل قاصد، لأن بلادنا ومنذ أن عرف العالم حدودها الجغرافية قبل آلاف السنين قادرة على استيعاب الجميع، ما شكل عبر العصور صورتها ومكانتها وجعلها عن حق «أم الدنيا»، كما يُطلق عليها. 

في كتابه «الرواد اللبنانيون في مصر في الصحافة والفكر والأدب والفن»، الذي يتناول فيه هجرة عدد كبير من المبدعين الشوام إلى مصر يقول الكاتب والمفكر اللبناني كريم مروّة: «لو لم تكن مصر كما كانت يوم هاجروا إليها، لما كان بوسعهم أن يقدموا تلك الإبداعات في ميادينها المتعددة.. فمن المعروف أن مصر هي التي احتضنت في رحابها حركة النهضة العربية في القرن التاسع عشر، والتي قدم فيها الرواد الكبار، وفي مقدمتهم عباقرة مصر من أمثال رفاعة الطهطاوي، والإمام محمد عبده وقاسم أمين، فكراً جديداً متقدماً».

في منتصف شهر إبريل المنقضي، اندلع صراع مسلح في شوراع المدن السودانية بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، وبين مليشيا يقودها الرجل الثاني في المجلس الجنرال محمد حمدان دقلو «حميدتي»، والتي تعرف باسم «قوات الدعم السريع»، إثر خلافات حول شروط دمج تلك القوات في الجيش النظامي، وهو بند أساسي في اتفاق السلام الذي تم التوصل إليه بين الأطراف السوداني، وكان من المتفرض أن ينتج عن هذا الاتفاق تشكيل حكومة مدنية ما يسمح بعودة المساعدات الدولية للسودان.

خلفت حرب الجنرالين دمارا كبيرا وحالة من الرعب في أوسط المدنيين السودانيين، وساءت الأوضاع في المدن والقرى السودانية لدرجة دفعت البعض إلى النزوح إلى مصر طلبا للملاذ الآمن، واختيار منطقي وطبيعي لشعبي وادي النيل، فإلى أين يتوجه أهل السودان؟ سوى للجارة الشمالية التي يستقر فيها رأس النيل بينما يمد قدميه في بلدهم الأصلي. 

ورغم هذا التراكم التاريخي، ووحدة شعبي وادي النيل في مصر والسودان وأهمية السودان لمصر، وأخوة الدم والدين والعروبة، فوجئ المصريون والعرب ببعض الأصوات الشاذة التي تتأفف، أو تسخر من استقبال الأشقاء الجنوبيين لأنهم وحسب تعبيرهم «سيمثلون عبء على كاهل الاقتصادي المصري يضاف إلى أعباء أخرى نتجت عن استضافة الأشقاء العراقيين والسوريين واليمنيين والليبيين الذين سبقوهم إليها بسبب اندلاع الصراعات المسلحة في بلادهم».

رفع البعض شعار «مصر أولا»، وردد آخرون المثل الشعبي غير الملائم للحالة «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع»، فيما أعاد فريق ثالث صياغة مصطلح «الكمون الاستراتيجي»، الذي تحتاجه البلاد لحين حل أزمات الداخل التي يرونها أولى بكل جهد، وذهبوا إلى أن اقتصادنا المنهك لن يتحمل فاتورة وجود لاجئين جدد يُضافوا إلى 8 ملايين تستضيفهم مصر بالفعل.

لا يعلم أصحاب هذه الأصوات النشاز، التي لا تعبر بحال عن الوجدان الشعبي المصري الذي يكن لشعب السودان محبة خاصة، أن انسحاب مصر من محيطها الإقليمي في العقود الأربعة الأخيرة؛ تسبب في فراغ هائل، تمددت فيه قوى أخرى تتعارض مصالحها وتتقاطع مع المصالح المصرية.

غياب مصر وانكفاء حكوماتها المتعاقبة على الأزمات الداخلية سمح مثلا، ببسط إيران وتركيا بل وإسرائيل نفوذها على ساحات الوطن العربي، ومنح قوى عربية أخرى ليس لها أي دور وازن مساحات للعبث بالأمن القومي العربي كله، حتى حاصرت ألسنة اللهب الحدود المصرية من كل جانب، وصار العمق الاستراتيجي المصري كله مهدد.

وكما دفعت مصر ولاتزال ثمن تأخر دورها في حفظ الأمن، والاستقرار في ليبيا وتعرضها لموجات متتالية من العمليات الإرهابية التي نفذها مقاتلون تدربوا، وأقاموا معسكراتهم على حدودنا الغربية، فضلا عن تنامي أدوار لمنافسين وخصوم إقليمين في الجارة الغربية المباشرة، ها هي مهددة بدفع ثمن باهظ حال تخلت عن دورها الراسخ والضروري والمطلوب في عمقها الجنوبي.

إن تصاعد الصراع بين الجنرالين البرهان و حميدتي ينذر بحرب أهلية، ما يهدد وحدة الدولة السودانية، أو يضعها في خانة الدولة الفاشلة الهشة، سيتعرض أمن مصر المائي، ومصالحها الاستراتيجية الأخرى لخطر لا يتحمل مسئوليته سوى من اختار الانكفاء والعزلة طريقا.

وبعيدا عن الأبعاد الإنسانية والقومية والدينية كما أسلفنا، فإن المصلحة المباشرة تفرض علينا فتح الأبواب للأشقاء السودانيين، باعتبارهم «ورقة سياسية»، يمكن استخدامها في أي تفاعلات مع دول الجوار التي وضعت شروطا صارمة على أي مساعدات وقروض تطلبها القاهرة، أو مع دول غربية تخشى أن يعبر اللاجئون إليها، وتتعامل تلك الدول مع مصر على أنها صمام أمان لمنع تدفق هذه الحشود السودانية النازحة إليها.