يكمل وزير الخارجية الأمريكي الأشهر “هنري كيسنجر”، مئويته هذا الشهر، وهو في كامل لياقته الذهنية مواصلا إبداء رأيه، وكلمته مسموعة، في مجريات الحوادث.
دون أدنى مبالغة فهو الرجل الذي قاد أخطر انقلاب استراتيجي في الشرق الأوسط إثر حرب أكتوبر (1973)، وإرثه ما يزال ماثلا بأحوال المنطقة وما وصلت إليه من تدهور مفرط.
على الجانب الآخر في الصراع العربي- الإسرائيلي عند أخطر منحدراته برز اسم الكاتب الصحفي المصري الراحل “محمد حسنين هيكل”، الذي يكمل مئويته هو الآخر سبتمبر المقبل، طرفا رئيسيا في سجال مفتوح ما يزال ممتدا حتى الآن.. ما الذي جرى لنا؟ وكيف أجهضت بطولة السلاح في حرب أكتوبر؟
في بداية القصة عام (1972)، تداولت وكالات أنباء وصحف عالمية، وعربية أن لقاء متوقعا قد يحدث بألمانيا بعيدا عن الأنظار بين “كيسنجر”، و”هيكل”، برعاية المستشار “فيلي برانت”.
زكى تلك المعلومات أن “هيكل”، كان قد التقى في ذلك الوقت المستشار الألماني فعلا، و”كيسنجر” كان عنده قبلها بأيام.
سأل “برانت”: “ماذا تريدون بالضبط؟”
ثم سأل: “هل سوف تلتقي بكيسنجر؟”، مشيرا إلى أن طريقة تفكيرهما متقاربة.
السؤال الأول: أجاب عنه “هيكل”، بشرح مسهب للوضع السياسي في الشرق الأوسط.
والسؤال الثاني: أجاب عنه بالنفي القاطع فـ”هذا ليس وقته”.
كان ذلك قبل حرب أكتوبر بشهور.
ضايق الرئيس “أنور السادات”، أنه اعتذر عن لقاء “كيسنجر”، دون أن يخطره بالدعوة، أو يتفاهم معه قبل اتخاذ أي موقف.
كان شغوفا بفتح قناة اتصال مع الولايات المتحدة، وبالخصوص مع ساحرها الجديد، الذي حصل على نصف جائزة “نوبل”، للسلام وصيته يسبقه بأدواره في إنهاء الحرب في فيتنام، وصناعة الوفاق الدولي والتقارب مع الصين.
في الأيام الأخيرة من عام (1972)، منح الضوء الأخضر لرئيس تحرير “الأخبار”، “موسى صبري”، لكتابة مجموعة مقالات أرادت أن تقول: “القلم الوحيد”، كما أطلق عليه، يوشك على الأفول، وأن العهد الجديد له رجال جدد، ليس بينهم ذلك القلم الذي “يضفي على نفسه أهمية ليست له”.
لم يشر إليه بالاسم غير أن كل حرف قال إنه هو، فضلا عن مقتطفات منقولة بحذافيرها من مقالاته.
كان النشر يوم جمعة، نفس الموعد المعتاد الذي يطل فيه على قارئه بمقاله الأسبوعي “بصراحة”، في “الأهرام”.
بدا ذلك إعلانا للرأي العام بختم السلطة أن خروج “هيكل”، من “الأهرام”، أصبح وشيكا.
في رده العاصف: “أنا وكيسنجر.. مجموعة أوراق”، الذي نشر يوم (29) ديسمبر (1972)، أسند كل حرف كتبه إلى وثائق ومراسلات وشهود.
روى أن “دونالد كاندال”، رئيس مجلس إدارة شركة “بيبسي كولا”، والصديق الشخصي للرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون”، طلب أن يقابله حتى يسمع منه رؤيته لأزمة الشرق الأوسط، ووسط صديقهما المشترك المحامي الشهير “زكي هاشم”، لإتمام مثل هذه المقابلة.
كان تقدير “كاندال”، أن هناك أوجه تشابه بين “هيكل”، و”كيسنجر”، يفضل معه أن يلتقي الرجلان، ونقل تقديره إلى الرئيس الأمريكي، الذي التقى “هيكل”، من قبل فوافقه على ما توصل إليه.
وكان “كيسنجر”، نفسه شغوفا بلقاء “هيكل”، بتأثير ما قرأ له وما سمع من أنهما لهما نفس طريقة التفكير.
توالت الرسائل الأمريكية تلح على الفكرة، وقد تولى نقلها السفير “أشرف غربال”، القائم بأعمال المصالح المصرية في واشنطن، والدكتور “محمد حسن الزيات”، رئيس الوفد المصري في الأمم المتحدة موجهة- هذه المرة- إلى الدكتور “محمود فوزي رئيس الوزراء ومنه إلى “السادات”.
في حديث الأوراق واجه “السادات”، دون مواربة، وأعلن خلافه معه على غير المعتاد والمألوف في طبيعة العلاقة بين السلطة والقلم في بلد مثل مصر.
“السادات”، أغضبه ما كتبه، رآه تحديا مباشرا له، وأبلغه أن رقابة سوف تفرض على مقالاته، لكنه مانع بحسم وسافر إلى شرق آسيا مع وفد من كبار الصحفيين، والباحثين في “الأهرام”.
مع مقال “أنا وكيسنجر.. مجموعة أوراق”، تأكدت الفجوات ثم أخذت مداها بعد حرب أكتوبر في الإدارة السياسية لنتائجها.
تأكد لديه أن أسلوب التفاوض، الذي يتبعه “السادات”، سوف يؤدي إلى تنازلات فادحة لا لزوم لها، فكتب بطريقة شبه مباشرة عن اعتراضاته بتاريخ (18)، يناير (1974)، مقالا بعنوان: “أسلوب التفاوض الإسرائيلي”، جاء فيه: “من القواعد العلمية للتفاوض ألا يتعرض للتفاصيل، وليس القرار النهائي، شخص يملك سلطة واسعة، ذلك لأن هذا الشخص سوف يكون دائما مطالبا بتنازلات يعرف الذين يفوضونه أن أمرها على الأرجح في يده”.
في الفترة بين (5)، أكتوبر (1973)، حتى أول فبراير (1974)، قبل حرب أكتوبر بيوم إلى قبل خروجه من “الأهرام”، بيوم كتب مجموعة مقالات أسست للقطيعة النهائية ضمها فيما بعد كتاب: “عند مفترق الطرق”.
أراد أن يقول: “إنني اختلف”، وهذه أسبابي التي أتحمل مسئوليتها ونتائجها.
أسباب الاختلاف مع “السادات” لم تكن شخصية ولا عابرة، فقد عكست ضمن ما عكست خيارات متناقضة في استراتيجية الإدارة السياسية لحرب أكتوبر.
أومأ إلى ما يجري خلف الأبواب المؤصدة: “إن الفارق بين الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي والفكر الاستراتيجي العربي، هو أن الإسرائيليين يلعبون الشطرنج، في حين أن العرب يلعبون الطاولة”.
لم يخفِ الرئيس ضيقه بالرسالة المضمرة، معتقدا أنه المقصود شخصيا بلعب الطاولة معتمدا على حظ النرد، لا الشطرنج حيث التفكير في حركة بيادقه.
قبل أن يصل “كيسنجر”، القاهرة لأول مرة طالع ذلك المقال.
كانت المفارقة أنه أبدى إعجابا شديدا بمنطقها عندما قابل “هيكل”.
شارك بصورة أو أخرى بالمفاوضات مع “هنري كيسنجر”، في المحاولة الأولى لفك الارتباط الثاني، وقد جرت بأسوان في شهر مارس من عام (1975).
“لم تنجح هذه المحاولة، ولم أكن شديد الأسى على فشلها، بل إنني أحب أن أتصور أنه كان لي نصيب- ولو ضئيل- في إفشالها”.
لم يخفِ إعجابه بقدرات “كيسنجر”، لكنه حذر طويلا وكثيرا فيما يشبه الإلحاح من الوقوع في أفخاخه، وإضاعة ثمار العمل العسكري والتضحيات التي بذلت في ميادين القتال.
عارض أكثر من غيره خيارات “السادات”، وأسس أسبابه على وثائق مؤكدة سندت الحركة الوطنية المعارضة لاتفاقيتي “كامب ديفيد”.
أثارت تلك التحفظات والانتقادات حنق “السادات”، عليه وجعل من الخلاف السياسي صداما شخصيا أودع بسببه السجن في اعتقالات سبتمبر الشهيرة، التي أعقبها بشهر واحد حادث المنصة الدموي.
عند مستهل حملة “حسني مبارك”، لتجديد رئاسته فيما أطلق عليها أول انتخابات رئاسية تعددية إبريل (2005)، أجري حوار طويل معه.
سأله محاوره “عماد الدين أديب”: “كاتب كبير قال إن الرئيس السادات كانت له قناة اتصال خلفية خاصة مع الأمريكيين من خلال خط تليفون ربط بينه شخصيا، وبين مكان ما في الولايات المتحدة- المخابرات الأمريكية- هل هذا صحيح؟”.
أجاب الرئيس “مبارك”: “لم أسمع عن هذا نهائيا”.
“عماد الدين أديب”: “محاولة الإيحاء بهذا الموضوع تعطي انطباعا وكأن الرئيس المصري- رحمه الله- كان يتفاوض مع الأمريكان ضد المصلحة الوطنية المصرية؟”.
الرئيس “مبارك”: “أكيد الذي يكتب هذا هو شخص ضد الرئيس السادات.. ثم إنه لو كان للرئيس السادات قناة سرية مع الأمريكان لتم الكشف عنها، فالأمريكان لا توجد لديهم سرية، بل كانوا قالوا، وتحدثوا عن هذه الاتصالات مائة مرة، وخرجت الوثائق التي تتضمن الاتصالات عبر هذه القناة، ففي أمريكا لا يوجد شيء يتم في الخفاء”.
سألت الأستاذ “هيكل”: “هل أنت المقصود- فعلا- بما جاء في حوار الساعات الست، وهل تعتقد أن ما قاله الرئيس يمثل تشكيكا في روايتك المنشورة لقصة القناة السرية؟”.
قال: “لست متأكدا أنني المقصود بما جاء في السؤال، أو الجواب، وحتى لو كنت مقصودا بالاثنين فقد تعودت ألا أجادل فيما يقال عني أو ينسب لي، أما إذا كان الموضوع يهمك في حد ذاته، أي موضوع الاتصالات التي أجراها الرئيس السادات أثناء حرب أكتوبر مع هنري كيسنجر عن طريق وكالة المخابرات المركزية وقناتها السرية مع الرئاسة في ذلك الوقت، فإنك تستطيع الرجوع فيه إلى ما كتبه هنري كيسنجر بنفسه في كتابه الأخير- الأزمة: تشريح لأزمتين كبيرتين في السياسة الخارجية- وإذا سمحت فسوف أبعث إليك نسخة منه، وميزة هذا الكتاب بالذات أنه لا يحتوي إلا على نصوص لوثائق مكتوبة، أو تسجيلات لمحادثات هاتفية مع الأطراف مسجلة، أو محاضر سرية من ملفات البيت الأبيض في عهد ريتشارد نيكسون”.
كان الرد المنسوب للأستاذ “هيكل”، قاطعا ونهائيا ولا تشكيك بحرف فيه، فالوثائق وحدها هي التي تحدثت.
لم يكن يريد أن يدخل في سجال مباشر، طالما أن الوثائق تتحدث وترد.
كان هو الذي اقترح أن يبدأ حديث المستندات بسؤال عمن المقصود، وأن تكون الإجابة على النحو الذي ذكر بلا حرف واحد زائد منسوب إليه.
أرسل لي نسخة من كتاب “الأزمة”، مرفق بها ورقة مكتوب عليها بخط يده:
“عزيزي عبد الله..
لعلي أوفيت مع اعتذاري لأني تأخرت.
تقبل مودتي واعتزازي”.
لكنه عاد بعد ساعات يطلب أن يتولى بنفسه، ولا أحد غيره، ترجمة الصفحات التي تخص موضوع السجال الذي بدأه “مبارك”، حتى يضمن ألا يشوبها أي خطأ في حرف، أو التباس في معنى.
بدا حرصه أن يتولى بنفسه مهمة الترجمة تعبيرا عن أجواء معركة محتملة مع رأس الدولة، فالاتهام صريح وينال من صدقية روايته عن “حرب الثلاثين سنة”.
و… هكذا كتب:
يروي “هنري كيسنجر” في صفحة (110)، من كتابه الأخير “الأزمة”، الصادر عن دار نشر “سيمون وتشو سيتر”، عام (2003)، “في الساعة العاشرة والنصف بتوقيت واشنطن يوم (7) أكتوبر” بعد نشوب العمليات العسكرية في سيناء بساعات تلقيت اتصالا مستغربا من الرئيس “السادات”، على شكل رسالة “موقعة من مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل”، وصلتني خلال قناة المخابرات الأمريكية، الرسالة تخطرنا بموقف مصر السياسي في الحرب، وبصرف النظر عن الإشارات التي وردت فيها عن ضرورة العودة إلى خطوط (1967)، فقد كان اعتقادنا بتحليل الرسالة أنها مجرد افتتاحية، وقد كان المهم في نظرنا هو مخاطر الاتصال بنا على هذا النحو في هذه اللحظة، ذلك أن معنى هذه المخاطر هو ما لم يقل:
١- إن الاتصال بنا معناه أن الرئيس السادات قرر أن يعتمد علينا.
٢- وأن معناه أنه على استعداد بنواياه وسياساته أن يبتعد عن الاتحاد السوفيتي.
٣- وأنه قرر أن يهجر السلاح بما في ذلك سوريا.
وكان تحليل عبارة الرسالة- على ما يضيف “هنري كيسنجر”- يوحي لنا بوضوح أن “السادات”، قرر عدم مواصلة الحرب بعد المدى الذي وصل إليه، ولم تكن هذه الاستنتاجات مجرد ظن، وإنما بدت نتائج حتمية من تصرفه في هذه اللحظة على هذا النحو.
وكانت الفقرة الخطيرة في رسالة “السادات”: “إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة”.
وعلى الفور اتصل “كيسنجر” بـ “وليام كلوبي” مدير المخابرات الأمريكية في ذلك الوقت، الذي كان قد اطلع على الرسالة الخطيرة، وتساءل مستغربا: “لماذا لم ينتظروا؟”.
ثم يروي كيسنجر في صفحتي (115)، (116)، من كتاب “الأزمة”، أنه نقل لسفير إسرائيل في واشنطن “سيمحا دينتز”، نص الرسالة التي يتعهد فيها الرئيس “السادات”، بعدم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة، وكانت تلك خدمة جليلة لإسرائيل في أوقات حرب عصيبة.
هذا كل ما كتبه على ورق مترجم عن آخر كتب “كيسنجر”، في ذلك الوقت.
كان تقدير “هيكل”- كما روى في كتاب “السياسة والسلاح”- أن هذه الرسالة، التي جرى توصيلها إلى “كيسنجر”، عبر القناة السرية ومرت عن طريق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مثيرة للدهشة والاستغراب وأن نص العبارة، التي وردت في الرسالة وجاء فيها بالنص في البند رقم (6)، “إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة”، كانت أول مرة- ربما في التاريخ كله- يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة، ويعطيه من التأكيد ما يمنحه حرية في الحركة السياسية، والعسكرية على النحو الذي يراه ملائما له وعلى كل الجبهات.. وذلك أن هذا التعهد بـ “عدم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة”، معناه بالنسبة لإسرائيل، وقد كانت الرسالة في خاتمة المطاف واصلة إليها، أنها تستطيع أن تعيد ترتيب موقفها بأعصاب هادئة، وتستطيع تنظيم أولوياتها.. وقد كان ذلك ما حدث فعلا، واختارت إسرائيل- الواثقة من نوايا الجانب المصري- أن تركز كما تشاء على الجبهة المصرية لتصفية بقية الحساب.
هكذا أجهض “هيكل” بالوثائق تصريحات “مبارك”، التي حاولت النيل من صدقيته وشهادته على التاريخ.