أصون كرامتي قبل حبي، هكذا تُغني السيدة أم كلثوم في إحدى روائعها، ويأتي مصطلح “الكرامة”، كأحد قطبي جاذبين في المناقشات والعلاقات، فإذا كانت الأغنية جعلت الكرامة مقابل الحب، فإن الواقع لا يختلف كثيرًا، حيث تظل الكرامة عاملا أساسيا في العلاقات، فما هي الكرامة؟

تُعرف كرامة الإنسان لُغويًا، بأنها “احترام المرء ذاته، وهو شعور بالشّرف والقيمة الشخصيّة يجعله يتأثّر، ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره”

ولا يختلف التعريف الاصطلاحي للكرامة كثيرًا عن التعريف اللغوي، فقد جاء مصطلح الكرامة كعنصر مستقل في أغلب الدساتير، والتي ترى أن الكرامة هي حماية نفسِ، وجسد ومال الإنسان من الانتهاك أو الاحتقار أو السرقة أو التعذيب وما شابه ذلك.

كل ذلك من المفترض ألا يتعارض مع أي مشاعر، فلماذا صارت الكرامة توضع كمعامل ضد في علاقات الحب والعلاقات الإنسانية؟

تأصيل محو الكرامة

يكثر تداول مصطلح الكرامة والحفاظ عليها في العلاقات، وفي الأغلب تحركه النساء، فإذا كانت الكرامة تقتضي بمعاملة جيدة للإنسان وعدم الانتقاص من قدره بصورة عامة، فمن المفترض أن ذلك أمر بديهي، فلا توجد مهنة أو سلوك، أو مشاعر سوية تنتقص من قدر الطرف الآخر، إلا تلك الأعمال التي تُنكل بالآخر، أو المشاعر الانتقامية، ويُعد أصعب انتقاما أو تنكيلا يمكن أن يتعرض له الإنسان هو الانتقاص منه.

إذن، نحن نتكلم عن الثوابت والحقوق الأساسية في الحياة، مثل: التنفس والأكل والشرب وغيرها، فلماذا الكرامة توضع في مقابل المشاعر؟ ولماذا يتحدث الكثير أنه لا كرامة في الحب؟ فهل يمكن أن يقولوا لا أكل في الحب؟ أو لا تنفس في الحب؟ بالتأكيد لا، ولكن الكرامة التي تقتضي المساواة كشرط أساسي تقف عقبة أمام التفوق الذكوري، وشعور الذكر بالسطوة والسيطرة، ومن ثم يمكن أن نجد حديث الكرامة في تلك العلاقات التي يشعر فيها الرجل بتفوق جندري، وأهمية مكتسبة من نوعه.

فالتأصيل لفكرة أن النساء أقل، وأضعف احتاجت أن تمحو معها فكرة الكرامة والندية وعدم الانتقاص، فالأضعف والأقل بالضرورة تنقصه بعض القدرات، ومن ثم جاءت الكرامة كمعادل لهذا النقص الذي تراه بعض الفئات المقتنعة بالتفوق الذكوري مسألة بديهية، ومن وجهة نظرهم هم متفوقون، وأي تعامل وفق مفهوم الكرامة هو منح وعطية وليس حقا أصيلا للطرف الآخر.

ثنائية الكرامة والحب

لا تمنح غالبية العلاقات الإنسانية والمهنية طرفيها تفوق جندري، وحده الحب يفعل، فعند مناقشة أي شكل لعلاقة نتحدث عن الكفاءة والقدرات، العطاء، المهارات، الأخلاق، لكن علاقات الحب والزواج مختلفة في كل تفاصيلها، فنحن لا نبدأ علاقات الحب لتفوق في مهارات أو قدرات مهنية، ولكن المشاعر ذلك الشيء الذي لا يمكن التعامل معه بسهولة أو وضوح، إنها المحرك الأساسي في تلك العلاقات، ومع وجود السلطة الأبوية وسيادة منطق تفوق الذكر، فإن الذكر هو القائد في تلك العلاقات، وتُعد المبادرات من الأنثى هي فعل انتقاص، فهناك من يُقلل من قيمة الأنثى التي تعترف أولًا بالحب، ويُعتبر نوعًا من الذكاء أن تستخدم الأنثى مهارات التلميح، وإيصال المعنى دون أن تقول شيئا بوضوح.

العلاقة قائمة بشكل أساسي عند الكثير على أفضلية الذكر كونه القائد والفاعل، ومع تطور الوعي وظهور الحركات النسائية، وتعاظم إحساس المرأة بذاتها، ظهر بصورة أكبر الحديث عن الكرامة، وعند بزوغ هذا النوع من المناقشات في علاقات الحب والزواج فكثيرًا ما يكون مفتتحا لخلاف.

لا كرامة في الحب؟!

الجملة كثيرة الانتشار، والنصيحة التي تكون خاتمة حكايات، وقد تأتي على ألسنة النساء مثلما تأتي من الذكور، هو انتشار مفهوم في ظل مجتمع ينتصر للرجل لنوعه، ويؤصل على مدار قرون أن الرجل هو الفاعل في العلاقات العاطفية، فالسائد أن المرأة تنتظر الرجل؛ ليعترف بالحب، ويطلب الزواج، ونحن لا نتحدث عن الاستثناءات، ولكن القاعدة العامة التي ترى في المرأة التي تُصرح بالحب قبل الرجل أنها “مدلوئة”، عليه بمعنى أنها راغبة أكثر، حيث القيم المجتمعية تعضد من فكرة المراوغة، والتدلل من جهة الأنثى، كما أن الأنثى التي تطلب الزواج من رجل بصورة كبيرة هي تقلل من قيمتها، مثل هذه الأفكار الشائعة والمعتمدة من قِبل الكثير في المجتمع، تؤكد أن علاقات الحب والزواج لديهم قائمة بشكل أساسي على أفضلية الذكر عن الأنثى، وتنسحب مثل هذه المفاهيم على عموم السلوك، فالمرأة في العلاقة ليست صاحبة القرار، وعليها أن تستخدم ذكاءها الأنثوي لتمرير رغباتها وتنفيذها.

وفكرة نزع الكرامة من سياق علاقات الحب من الأفكار المغلوطة، والتي تم الترويج لها، وتثبيتها في العقل الجمعي، ويدعم ترويجها من يعاني قصورًا في ثقته بنفسه سواء كان رجلًا أو امرأة، وهي فكرة تحتاج لمناقشات، فليست كل امرأة صرحت بالحب أولًا هي أقل، أو إن ذلك ينتقص من كرامتها، ولا تحتاج المرأة أن تتواجد في وسط اجتماعي أو ثقافي أو طبقي معين، حتى تُصرح أولًا، ولا ينتقص منها ذلك شيئا، فالسيدة خديجة أم المؤمنين طلبت الزواج من الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أن الفعل نفسه تصرف إنساني غير مرتبط بالنوع، وإنما يعتمد على المشاعر والقبول والرفض.

يستحق كل إنسان، أن يُعامل بطريقة جيدة دون انتقاص ودون النظر إلى الجندر، وإذا كان العقل الجمعي ما زال متمسكًا بفكرة السلطة الأبوية والتفوق النوعي للذكور رغم كل المتغيرات، فإن مناقشة هذه الأفكار تسعى لتحليلها، ففي علاقات الحب والزواج المساواة بين الشريكين محور أساسي لنجاح العلاقة، وعندما تدخل الإهانة والانتقاص إلى سلوكيات أحد الطرفين تجاه الآخر، فهذا ليس اخلالًا بالكرامة فقط ولكنه هدم في ثوابت العلاقات.

الكرامة مرتبطة بالإنسان رجل أو امرأة لا يتخلى عنها في علاقة، ويكتسبها في علاقة أخرى، وبشكل عام فإن أي علاقة يتم فيها الانتقاص منك فعليك مغادرتها، لأن الدونية التي ستشعر بها معامل هدم وحفر لفجوة الاكتئاب، والمشاعر السلبية، ستكون مسئولًا عن الوقوع فيهم فقط، لأنك قبلت بوضع الكرامة كأحد بنود التفاوض.