انطلق الحوار الوطني بعد عام كامل من الانتظار، وبعد أن فقد البعض الثقة في إمكانيه انعقاده، وتميزت الجلسة الافتتاحية بكلمة قوية ألقاها سياسي محنك وكبير هو عمرو موسى، أكد فيها على ضرورة استكمال عملية الإصلاح السياسي، وإغلاق ملف الحبس الاحتياطي، وكذلك سارت كلمة حسام بدراوي في نفس الاتجاه، حيث أكد على ضرورة العمل على بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وتعديل قانون الانتخابات معتبرا أن من يرفض التعددية، ويدافع عن الفكر الواحد هو من لا يمتلك القدرة على الإقناع.
وجاء الحوار الوطني في ظل أزمة اقتصادية عميقة، ووضع إقليمي مضطرب وعلاقات ضبابية بدول عربية حليفة، وحديث متكرر عن الإصلاح الاقتصادي يقابله عدم قدرة على الخروج من الأزمات الاقتصادية؛ بسبب التمسك بنفس الخيارات والأولويات التي حكمت إدارة الملف الاقتصادي على مدار ما يقرب من 10 سنوات، بما يعني أن هناك استحالة في فصل المسار الاقتصادي عن السياسي.
والحقيقة، أن من أبرز الجمل التي جاءت في الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني كانت في كلمة حسام بدراوي حين قال ” آن سلب سلطة بعض من تمتعوا بسلطات واسعة في المرحلة الانتقالية، لن يكون سهلا عليهم التخلي عنها، وسيتمسك الكثيرون منهم بما اكتسبوا من سلطات في لحظة انتقالية، وهي طبيعة البشر لأنهم مستفيدون من الواقع. التغيير لن يأتي من المستفيدين من بقاء المرحلة على حاله أو برضاهم، وهنا يأتي دور قيادة البلد السياسية التي استجابت لنداء الشعب في 30 يونية، فعليها أن تستجيب لحق الوطن في إرساء قواعد الجمهورية الجديدة المدنية الحديثة، وهو ما أراه واضحا الرئيس في دعوته للحوار ومتابعته له”.
والحقيقة، أن هذه الجملة ربما تكون هي الأخطر في كل كلمات المؤتمر، صحيح أنها لم تحدد لا الأشخاص ولا المؤسسات التي استفادت من الوضع الانتقالي، إلا أن المقصود كما يبدو هي بعض مؤسسات الدولة التي تولت قيادة السنوات العشر الأخيرة اقتصاديا وسياسيا دون الاعتماد على وسيط سياسي أو حزبي أو نقابي، وهنا يميز بدراوي بين دور هذه المؤسسات وبين الرئيس، ويطالب بعودة التوازن الطبيعي الذي عرفته مصر طوال عهودها السابقة بأن تكون هناك سلطة دولة وأجهزة، ومعها شريك سياسي مدني يعبر بدرجات متفاوتة عن جانب من مصالح الناس بجانب دور للنقابات المهنية، واتحادات الطلاب ونواب مستقلين غير مختارين في قوائم سابقة التجهيز، قادرين على المعارضة ونيل ثقة قطاع من الشعب.
هذا الوسيط السياسي المدني الذي عرفته البلاد بصور مختلفة طوال عهودها الجمهورية السابقة، غاب تماما عن المجال العام طوال السنوات الماضية، وتم تفريغ المجال العام من أي نشاط سياسي وانسحب المجتمع، وتقوقع حول همومه اليومية في محاولة لمواجهة أزماته الاقتصادية المتلاحقة.
جملة الدكتور حسام هي محاولة “جراحية”، للتعامل مع جوهر الأزمة، والتي تمثلت في وجود مستفيدين يعملون دون رقابة أو نظام شفاف للمحاسبة، وأيضا وفق نموذج سياسي لا يرى أن الديمقراطية وحقوق الٌإنسان أولوية، في نفس الوقت واجهت مصر ضغوطا خارجية مزدوجة على الجانب السياسي، والاقتصادي على خلاف عهد مبارك حين تركزت هذه الضغوط على الجوانب السياسية والحقوقية؛ لأن الجانب الاقتصادي كان في أغلبه لشركات قطاع خاص منتجة، ومتماشية مع المنظومة الاقتصادية العالمية.
إذا نجح الحوار الوطني، فإنه لن يكون بسبب عودة الإشراف القضائي على الانتخابات أو وضع قانون جديد للانتخابات، إنما سيكون بإقناع من استفادوا من المرحلة الانتقالية وقادوها، أن يتراجعوا خطوات هادئة وتدريجية للوراء، ويتركوا مساحة يعتد بها في الاقتصاد والسياسة لصالح الناس والمجتمع.
إن الضغوط الدولية سواء من صندوق النقد الدولي، أو من بعض الشركاء الإقليمين هي بالأساس على النموذج الاقتصادي الذي أنتجه من استفادوا من المرحلة الانتقالية، بتعبير بدراوي، وأن هذا النموذج فشل واستمراره بنفس الطريقة وبنفس الأدوات سيمثل خطر على الجميع.
إن تأسيس نموذج اقتصادي وسياسي جديد يعتبر الشعب، وأحزابه ونقاباته ومؤسساته العامة والخاصة (وكلاهما يخضع لنظام رقابي ومحاسبي واحد)، رقم في معادلة الحكم والإدارة سيعني بداية الخروج من أزماتنا.
إن الشعب الذي دعم في أغلبه ٣٠ يونيو، وجد نفسه مستبعدا من مناقشة السياسات الكبرى، وحتى سياسة تطوير الأحياء التي يعيش فيها، وبدا الأمر لافتا أن يوضع البيض كله في سلة “المستفيدين من المرحلة الانتقالية”، الذين تشبثوا بما حققوه في ظل غياب الظهير الشعبي والرقابة الشعبية، فتعقد الوضع اقتصاديا وسياسيا.
قد يكون الحوار محاولة متأخرة؛ لإدخال الطرف الأصيل وهو الشعب في معادلة الحكم والإدارة، حتى يمكن أن يعدل الكفة التي مالت بشكل كامل لصالح “المستفيدين من المرحلة الانتقالية”، وهي محاولة نتمنى لها النجاح رغم صعوبتها والتحديات الكثيرة التي تواجهها.